المد الصيني ونهوض اليسار في القارة اللاتينية ينزلان زعيم المخابرات الأمريكية إلى ساحة المعركة

مشاركة المقال

مدار: 08 تموز/ يوليو 2021

يبدو أن تحريك القطع عن بعد، من واشنطن إلى عواصم القارة الأمريكية الجنوبية، لم يعد يجدي نفعا، مع توالي استعادة اليسار دفة قيادة العديد من البلدان، والفشل الذي لحق العديد من محاولات الانقلاب؛ عجز دفع وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الجديد، إلى تنظيم زيارة إلى أصدقائه اليمينيين المتطرفين بكولومبيا والبرازيل. التفاصيل..

عودة لولا تقض مضاجع اليمين وواشنطن

أجرى مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وليام جيه بيرنز، زيارة سرية إلى البرازيل؛ وتشير المؤشرات إلى أنه كان يحمل في حقيبته مهمتين أساسيتين: إيقاف صعود اليسار إلى الحكم في القارة الأمريكية الجنوبية، ووأد أي شراكات بينها وجمهورية الصين الشعبية.

وحسب الصحافية “نتاليا أوربان” عن موقع “برازيل واير“، تمحورت زيارة مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية للبرازيل حول وضع خطط تحول دون صعود اليسار في أمريكا اللاتينية، إضافة إلى تعزيز الجهود الحكومية المشتركة  الأمريكية – البرازيلية ضد الصين.

وجاءت الزيارة السرية بعد أيام فقط من إجراء الرئيس البرازيلي السابق لويس دا سيلفا (لولا) مقابلة مع صحيفةغوانشاالصينية، ذكر فيها أن “الإمكانيات الصينية تزعج البلدان المتقدمة الأخرى، مثل الولايات المتحدة”.

وقال لولا: “إذا احتجنا إلى التعاون مع الصين فعلينا إقامة شراكة إستراتيجية معها، تمامًا كما فعلت عندما كنت رئيساً. وإذا كان من الضروري التعاون مع روسيا فسنتعاون معها”، وزاد: “لدي ذكريات طيبة عن العلاقة التي أقمناها مع الصين. على الرغم من أن البلاد هي أكبر شريك تجاري للبرازيل، في الواقع، فإن حكومتنا الحالية لا تحترم الصين ولا تعاملها كشريك، لأنها ترى الولايات المتحدة فقط وليس الصين”.

ومنذ تولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، اشتعلت حرب اقتصادية ضد الصين، كان من أبرز معالمها سن واشنطن الرسوم الجمركية على السلع الصينية، والهجوم على شركات التكنولوجيا من قبيل “هواوي” و”تيك توك”، بالإضافة إلى الدعاية الإعلامية، والحديث عن انتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان في حق مسلمي الإيغور واحتجاجات هونغ كونغ، ناهيك عن التوتر العسكري الذي تصاعد في بحر الصين.

ويهدف الهجوم الغربي على الصين، التي أصبحت في ظرف وجيز ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، إلى احتواء نفوذ بكين في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، وهو محور السياسة الأمريكية الحالية.

وفي سنة 2006، تأسست مجموعة البريكس، وهو تكتل دولي يجمع بين البرازيل، الصين، روسيا، الهند وجنوب إفريقيا (انضمت سنة 2010)، بالارتكاز على المصالح المشتركة في المجالات السياسية، الأمنية، الاقتصادية، المالية، الثقافية والتبادلات الشعبية.

 ويزخر “البريكس” بإمكانيات هائلة، فهو تجمع بين أكبر الاقتصاديات النامية في العالم، ويضم 41 في المائة من سكان العالم، ويستفرد بـ 24 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وله حصة 16 بالمائة من التجارة العالمية. وعلى مر السنوات الماضية، لعبت دول البريكس دور المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي العالمي.

أنفوغرافيك حول دول مجموعة البريكس، وكالة سبوتنيك الروسية

وكان واضحا أن تشكيل حلف البريكس أزعج الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت تتراجع قدرتها على الهيمنة على العالم. وخفت نجم المجموعة الواعدة مع صعود اليمين المتطرف إلى الحكم في الهند، مع تولي مودي ناريندرا رئاسة الوزراء البلاد سنة 2014، ما عمقه وصول اليمين المتطرف أيضا إلى الحكم في البرازيل مع انتخاب جاير بولسونارو سنة 2018.

 وتقول واشنطن إن الصين تشكل أكبر تهديد لها ولأمنها القومي. وتصاعدت الإجراءات السياسية الدبلوماسية مع جوزيف بايدن، عبر مساعيه إلى إنشاء شبكة من التحالفات بهدف احتواء الصين وعزلها دبلوماسيا.

 وأظهر أحدث استطلاع للرأي أن لولا دا سيلفا في طريقه إلى الفوز بالجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية المرتقب إجراؤها 2022، متغلبًا على جاير بولسونارو بنسبة 30 بالمائة من الأصوات. وأثناء البث اليومي الذي يوجهه لمؤيديه، علق بولسونارو على نتائج الاستطلاع الذي أجراه المعهد البرازيلي IPEC، ملمحا إلى أن هناك مؤامرة ضده لخسارة الانتخابات، دون أن يقدم أدلة.

وقال بولسونارو: “هناك مرشح يجمع قادة الحزب ويبث التفرقة وسط حكومته بأكملها، ثم بدأ البعض في العمل ضد التصويت القابل للفحص..لديه فقط الاحتيال.. إنه لا يمشي في الشارع وأنا أفعل”، وزاد: “إننا نريد انتخابات نزيهة العام المقبل، لأنهم أخرجوا لولا من السجن وجعلوه مؤهلاً ليكون رئيساً من خلال التزوير. هذا لن يحدث!”.

حكومة اليمين البرازيلي في خدمة المخابرات الأمريكية

بقيت تفاصيل اللقاءات التي جمعت بين مدير المخابرات المركزية الأمريكية والمسؤولين البرازيليين طي الكتمان. وحسب “برازيل واير” قال الرئيس البرازيلي إنه عقد اجتماعًا مع بيرنز (وإن لم يكن في جدوله الرسمي)، وصرح بأن هدفه كان مناقشة الوضع السياسي في أمريكا الجنوبية، أو بشكل أكثر تحديدًا الصعود الجديد لليسار.

 وهاجم بولسونارو الدول المجاورة قائلا: “لن أقول إنه تم تناول الأمر معه، لكننا حللنا كيف تسير الأمور في أمريكا الجنوبية. لا يمكننا تحمل الحديث عن فنزويلا بعد الآن، لكن انظروا إلى الأرجنتين. إلى أين تتجه تشيلي؟ ماذا حدث في بوليفيا؟ عادت عصابة إيفو موراليس. وأكثر من ذلك: الرئيس خلال الفترة المؤقتة في السجن الآن، متهما بارتكاب أعمال غير ديمقراطية. هل تشعرون بأي تشابه مع البرازيل؟”.

وزار المسؤول الأمريكي قصر السهل العالي (بلاسيو دو بلاناوتو) وأجرى سلسلة من اللقاءات مع أعضاء حكومة جاير بولسونارو. وبعد الظهيرة، شارك بيرنز في لقاء مع مدير مكتب الأمن المؤسسي (GSI)، الجنرال أوغستو هيلينو. وحضر في الاجتماع ألكسندر راماجم، المدير العام لوكالة المخابرات البرازيلية ABIN والجنرال والتر براغا نيتو، وزير الدفاع. وفي المساء، شارك مدير وكالة المخابرات المركزية وهيلينو في مأدبة عشاء، جمعتهما مع الأمين العام للحكومة، الجنرال لويس إدواردو راموس، يضيف المصدر ذاته.

“المد الوردي” مرة أخرى

يبدو أن زيارة المخبر الأول في الولايات المتحدة الأمريكية إلى القارة الأمريكية الجنوبية لا تخفي توجس واشنطن من الصعود المتنامي لليسار في مكان يرفض أن يكون “حديقة خلفية”.

وفي البرازيل وتشيلي وكولومبيا، الحلفاء الرئيسيين الثلاثة للولايات المتحدة، يتصدر اليسار استطلاعات الرأي للانتخابات المقبلة، وفي بيرو، انتزع المرشح

 اليساري بيدرو كاستيلو غالبية أصوات الناخبين في الرئاسيات، لكن اليمين مازال يقود مناورات للانقلاب على إرادة الناخبين. ويوجد رؤساء تقدميون على رأس المكسيك والأرجنتين، ورغم الضغط والعقوبات الاقتصادية حافظت فنزويلا على مسارها الذي يقوده اليسار. أما في كوبا فإن الحصار الأمريكي لأكثر من ستة عقود لم ينل من الخط الثوري للشعب الكوبي، بينما في بوليفيا فشلت محاولة الانقلاب التي قادها اليمين بدعم من واشنطن ضد الحكومة التقدمية لإفو موراليس، واستطاعت حركة نحو الاشتراكية أن تسترجع رئاسة البلاد بعد انتخاب لويس آرسي.

وتعيش شوارع القارة الأمريكية على وقع غليان شعبي كبير، مناهض للسياسات النيوليبرالية التي أقرتها الحكومات اليمينية، والقمع الذي تعرضت له الحركة المؤيدة للديمقراطية، خصوصا بكولومبيا. أما في تشيلي فقد فرضت حركة الشارع مراجعة الدستور، وحقق اليسار نتائج إيجابية في انتخابات الجمعية التأسيسية، التي ستتولى صياغة الماغنا كارطا الجديدة.

 وتوحي موجة الاحتجاجات بعودة “المد الوردي” الذي اجتاح القارة الأمريكية الجنوبية قبل عشرين عاما.

وتعمقت مطالب التغيير مع انتشار جائحة كورونا. وفي الشهر الماضي، خرجت مظاهرات حاشدة ضد الحكومة البرازيلية، متهمة إياها بارتكاب “جرائم إبادة جماعية”، وتطالب برحيل بولسونارو، بعد وفاة أكثر من نصف مليون برازيلي نتيجة الفيروس التاجي، ومماطلة الحكومة في التجاوب مع عروض الحصول على اللقاحات، وتشكيك الرئيس اليميني في الجدوى من اتخاذ إجراءات الحجر الصحي وارتداء الكمامات.

تزوير الانتخابات: السلاح الفتاك للانقلاب على إرادة الشعوب

أعلن بولسونارو أنه لن يتخلى عن الرئاسة في انتخابات 2022 في حالة “تزوير الانتخابات”، بينما ندد رئيس المحكمة الانتخابية (TSE) الأسبوع الماضي بخطته لعودة البرازيل إلى نظام التصويت عبر الأوراق المطبوعة، ووصفها بأنها “عودة إلى تزوير الانتخابات” وتهديد للديمقراطية.

وشكلت مزاعم تزوير إرادة الناخبين الأداة الأساسية للانقلاب على العديد من الرؤساء اليساريين في القارة الأمريكية الجنوبية. وفي بوليفيا، انخرطت البرازيل بحماس في الانقلاب على إيفو موراليس. وفي بيرو، مازالت محاولة منع وصول بيدرو كاستيلو إلى الرئاسة جارية، وتبدو واضحة بصمات المخابرات المركزية الأمريكية واليمين البيروفي.

مدير المخابرات المركزية الأمريكية في كولومبيا

قبل أن يذهب إلى البرازيل كان وليام جيه بيرنز في كولومبيا، إلى جانب قائد القيادة الجنوبية الأميركية (ساوثكوم)، الأدميرال كريغ فالر.

وفي هذا السياق، كشف الرئيس الفنزويلي، يوم 04 تموز/ يونيو، عن مخطط تحاول تنفيذه الولايات المتحدة الأمريكية لاغتياله والتخلص منه، متسائلاً إذا كان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أذن بذلك.

وقال مادورو خلال حفل عسكري الجمعة الماضي: “هل صادق جو بايدن على أوامر (سلفه) دونالد ترمب لقيادة فنزويلا إلى حرب أهلية وقتلنا؟ نعم أم لا؟ أنا أسأل”. وجاء ذلك تعليقا على الزيارات التي نظمها المسؤولان الأمريكيان إلى البلدين الجارين. واستطرد مادورو متسائلا: “ماذا فعلا؟”.

وتابع الرئيس ذاته: “مصادرنا في كولومبيا تؤكد لنا أنهما كانا هناك لإعداد خطة تستهدفني وتستهدف قادة سياسيين وعسكريين مهمين”، ثم تساءل: “هل سمح الرئيس جو بايدن بالخطة الهادفة إلى اغتيالي واغتيال قادة سياسيين وعسكريين كبار في فنزويلا؟ نعم أم لا؟”.

ويندد مادورو بشكل متكرر بوجود خطط لتنفيذ انقلاب أو غزو عسكري أو اغتيال، متهما الولايات المتحدة بأنها وراء كل تلك المحاولات.

وليست هذه هي المرة التي يتم خلالها الكشف عن مخططات مدعومة أمريكيا لاستهداف القيادات الفنزويلية.

وفي بداية أغسطس/ غشت 2018، نجا مادورو من محاولة اغتيال أثناء إلقائه كلمة في عرض عسكري، بينما أصيب سبعة من جنود الحرس الوطني بجراح. ووجهت السلطات في كاراكاس أصابع الاتهام حينها إلى كولومبيا، وعناصر من المعارضة.

ووفقًا لوزارة الخارجية الكولومبية في 28 حزيران/ يونيو،  أجرى جوزيف بايدن والرئيس الكولومبي إيفان دوكي مكالمة هاتفية تحدثا خلالها عن الوضع في فنزويلا وتأثيره الإقليمي، وأكدا على أهمية السعي إلى إجماع دولي من أجل “انتخابات حرة ونزيهة” في البلاد.

ومن خلال التحرك المباشر لمدير المخابرات المركزية الأمريكية إلى جانب قيادي عسكري كبير من حجم قائد القيادة الجنوبية الأميركية، فإن الأمر على ما يبدو يتجاوز “دعم انتخابات حرة ونزيهة”، ويؤكد التوجس الأمريكي من الصعود الجديد لليسار في القارة الأمريكية الجنوبية، ما يعني تعاظم الدور الصيني على أعتاب بلد العم سام.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة