معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 13 كانون الثاني/ يناير 2024*
فيجاي براشاد
أرسل لي أحد الزملاء، أواخر العام الماضي، رسالة يستنكر فيها بعض كتاباتي عن الصين، ولا سيما المراسلة الأخيرة لعام 2023. مراسلتي هاته هي ردّي عليه.
****
إن الوضع في الصين يسبب قدرا كبيرا من الذعر في أوساط اليسار. يسعدني أنك أثرت معي بشكل مباشر قضية الاشتراكية الصينية.
كما تعلمون، نحن نعيش في زمن خطير للغاية، ويهدد التوتر المتسارع للولايات المتحدة والدول القوية الأخرى الحياة على كوكب أكثر من أي فترة أخرى منذ عام 1991، كما أن كلاّ من الحرب في أوكرانيا والإبادة الجماعية في غزة توضح المخاطر التي تواجهنا. في هذه الأثناء، أشعر بالقلق إزاء محاولة الولايات المتحدة جرّ إيران إلى الصراع، مع تهديد إسرائيل بتصعيد التوترات مع حزب الله في لبنان وبالتالي جر طهران إلى اتخاذ خطوة من شأنها أن تسمح للولايات المتحدة بقصف إيران، كما أن هذا الأمر من المفترض أن يدفع الحرب الباردة الجديدة ضد الصين إلى نقل هذه الصراعات إلى مستوى آخر، بحيث تعدّ تايوان هي الرافعة لتحقيق ذلك. أتمنى أن تسود العقول الرصينة.
إن كل المشاريع الاشتراكية، كما تعلم جيدا، تتشكل في سيرورة الصراع الطبقي ومن خلال تطور القوى المنتجة، والصين ليست باستثناء. ولعلك تتذكر كتاب بيل هينتون “الانعكاس العظيم: خصخصة الصين، 1978-1989″، الذي نُشر في عام 1990، وقد كنت مع بيل في كونكورد بولاية ماساتشوستس قبل سنة تقريبا من وفاته في عام 2004، وأجريت معه عدة مناقشات حول الصين. لم يكن أحد في الولايات المتحدة يعرف الصين مثل بيل وعائلته بأكملها (بما في ذلك أخته جوان وزوجها سيد إنجست، الذي قام بتحديث مزرعة الألبان في الصين)، وبالطبع أصدقائهم إيزابيل كروك وإدغار سنو وهيلين فوستر سنو وأصدقائهم. ولاحقا المترجمة جوان بينكهام ابنة هاري ديكستر وايت.
شهدت فترة تسعينيات القرن العشرين وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تخوفا كبيرا بشأن الصين، وعندما زرت البلاد قبل عقود من الزمن، أذهلتني حالة الفقر في المناطق الريفية. لكن في الوقت نفسه، أذهلتني كرامة الشعب الذي ألهمه التاريخ العظيم للنضالات التي أدت إلى الثورة الصينية في عام 1949، والذي كان يعي بأنه يبني مشروعا اشتراكيا. لقد تمسّك بيل بشدة بالماوية، وكان واضحاً بشأن تناقضات المشروع الاشتراكي، كما كتب في كتابه “عبر زجاج مظلم: وجهات نظر الولايات المتحدة حول الثورة الصينية“.
كانت سنوات حكم كل من جيانغ زيمين (1993-2003) وهو جينتاو (2003-2013) شاهدة على ارتفاع عدم المساواة إلى مستويات عالية، وفي كتابي “أمم أفقر: تاريخ ممكن للجنوب العالمي” (2013)، كتبت عن الثورة الصينية بشيء من هذا التشاؤم، على الرغم من فهمي لصعوبات بناء الاشتراكية في بلد فقير (المكان الوحيد، بعد روسيا، الذي حاول القيام بذلك منذ أن فشلت الثورات في الغرب). وبعد سنوات قليلة من ذلك، قرأت تقييم عزرا فوغل المذهل لدينج، “دينج شياو بينج وتحول الصين (2011)”، والذي وضع قرارات دينج في عام 1978 في سياق السيرورة الثورية برمتها، وقد أعطاني هذا الكتاب فهما أفضل لإصلاحات دينج، وكان أحد الدروس الرئيسية التي استخلصتها هو أن دينج اضطر إلى مواجهة ركود الاقتصاد، الأمر الذي سمح للسوق بتعزيز القوى الإنتاجية. وبدون ذلك، كان من الواضح أن الصين ــ الدولة الفقيرة المتخلفة ــ سوف تنحدر إلى اشتراكية اليأس. لقد كان عليها أن تكون رائدة في نهج جديد. بطبيعة الحال، تحولت إصلاحات دينج نحو قوى السوق وفتحت الباب أمام موقف بالغ الخطورة، وكان تشاؤم بيل بمثابة استجابة لهذا الواقع.
بحلول أواخر التسعينيات، بدأت المناقشات ــ بما في ذلك في جرائد الحزب الشيوعي الصيني ــ لمعالجة المعدلات المتزايدة من عدم المساواة والفقر من خلال العمل الجماهيري. في الجمعية العامة الخامسة للمؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر 2005، أعلن الحزب عن “مهمة تاريخية عظيمة” من أجل “بناء ريف اشتراكي جديد”، مستخدما العبارة الجديدة “المناطق الريفية الثلاثة” للإشارة إلى الزراعة والمزارعين والمناطق الريفية. كان الهدف من هذه المهمة هو تحسين البنية التحتية الريفية من خلال استثمارات الدولة وتوفير التعليم المجاني والإلزامي وتطوير الخدمات الطبية التعاونية مع التراجع عن إصلاحات السوق في القطاع الطبي، وهو الأمر الذي جعل من هذه المهام الأخيرة سياسة وطنية في جميع أنحاء الصين منذ عام 2009. وقد أثار اهتمامي إدارة الحملة بشكل جماهيري وليس بيروقراطي، بحيث شارك فيها الآلاف من كوادر الحزب الشيوعي الصيني. وكان هذا بمثابة تمهيد لحملة القضاء على الفقر التي ستأتي بعد عقد من الزمن.
مع انكشاف هذه المهمة، كنت مهتما للغاية بواقع أن الأماكن ذات “الموارد الحمراء” تم تسليط الضوء عليها من أجل العمل (مثل هايلوفينج في مقاطعة قوانغدونغ، التي كانت قلب أول سوفييت ريفي في الصين). ومن المثير للاهتمام أن الباحثين في الغرب لم يركزوا على هذه التحولات الجديدة، إذ انصبّ اهتمامهم على ساحل البلاد من ناحية المحيط الهادي بدلا من دراسة الظروف في المناطق الريفية الداخلية في الصين، لكن كانت هناك بعض الاستثناءات القليلة لأشخاص مخلصين مثل البروفيسور إليزابيث بيري والبروفيسور مينزي سو (مؤلف كتاب سياسة التنمية الريفية في الصين: استكشاف “الريف الاشتراكي الجديد“، 2009)، الذين تجاهلهم معظم المعلقين على الصين.
أدت هذه الدفعة من أجل إنشاء ريف اشتراكي جديد إلى تنشيط الحزب الشيوعي الصيني وحركة ضمنية لمواجهة قوى السوق الحرة البحتة، الأمر الذي خلق الديناميكية التي أدت إلى انتخاب شي جين بينغ كزعيم للحزب في أواخر عام 2012. ويعود اهتمام شي بالمناطق الريفية في البلاد إلى قضائه جزء من شبابه في شمال غرب الصين الذي كان فقيرا، ومن فترة توليه منصب سكرتير الحزب في ولاية نينغده في أواخر الثمانينات، والتي كانت آنذاك واحدة من أفقر المناطق في مقاطعة فوجيان. ومن العناصر المعترف بها على نطاق واسع في قيادة شي خلال هذه الفترة هو أنه ساعد في الحد من الفقر في تلك المنطقة وتحسين المؤشرات الاجتماعية، مما جعل الشباب أقل عرضة للهجرة إلى المدن.
هل كان من الضروري أن يأتي نمو الصين على حساب الطبيعة؟ في عام 2005، أثناء وجوده في هوتشو (مقاطعة تشجيانغ)، وضع شي نظرية “الجبلين“، التي اقترحت أن التنمية الاقتصادية والبيئية يجب أن تسير جنبا إلى جنب. ويتجلى ذلك في حقيقة أنه في الفترة من 2013 إلى 2020، انخفض التلوث بالجسيمات الدقيقة في الصين بنسبة 39.6%، مما أدى إلى زيادة متوسط العمر المتوقع بمقدار عامين؛ وفي عام 2023، أعلن شي عن استراتيجية بيئية جديدة لبناء “الصين الجميلة”، والتي تتضمن خطة بيئية للمناطق الريفية.
لقد أذهلتني بعض مزاعمك، خصوصا ادعاؤك أن “العودة القسرية إلى الريف أصبحت الآن سياسة الدولة”، والتي أعتقد أنها تنطوي على تفكير خاص لأنها جزء من سياسة “الريف الاشتراكي الجديد” الأوسع. صحيح أن الرئيس شي يتحدث عن الحاجة إلى تنشيط الريف منذ عام 2017، وصحيح أيضا أن المقاطعات المختلفة (على سبيل المثال، غوانغدونغ) لديها خطط عمل لخريجي الجامعات للذهاب إلى الريف والمشاركة في جعل الريف مكانا مناسبا وجذابا مثل المناطق الحضرية، لكن ذلك لا يتم بالقوة، بل ببرامج مبتكرة.
كما أن الشباب يوجد في الخطوط الأمامية لهذه البرامج، وكثيرون منهم كانوا من بين ثلاثة ملايين إطار ذهبوا إلى القرى كجزء من سياسة القضاء على الفقر المدقع (جدير بالذكر أن 1800 إطار ماتوا أثناء قيامهم بهذه المهمة). إن شي حساس للغاية، على غرار ماو تسي تونغ، تجاه أهمية أن يجرب أعضاء الحزب الواقع في المناطق الريفية في الصين، نظرا للمناطق الطبيعية الريفية الشاسعة في الصين، وقد تم إرساله هو نفسه إلى المناطق الريفية في شمال غرب الصين خلال الثورة الثقافية. وفي معرض تأمله لهذه التجربة، كتب شي في عام 2002: “في سن الخامسة عشرة، أتيت إلى قرية ليانجغجياهي في حيرة وضياع، وعندما كان عمري 22 عاما، غادرت مع هدف واضح في الحياة وكنت مليئا بالثقة”. هناك شيء من هذا الموقف في سياسة الصين. فهل من السيء بالنسبة لأعضاء الحزب، الذين قد يكون لدى العديد منهم وظائف في أجهزة الدولة، أن يقضوا بعض الوقت في الريف؟ ليس إذا كنت تريد منهم أن يفهموا واقع الصين بشكل أفضل.
لقد زرت الصين عدة مرات خلال السنوات العشر الماضية، وسافرت على نطاق واسع عبر كل المناطق الريفية والحضرية. إن استراتيجية التداول المزدوج التي اتبعها شي (مدفوعة بسياسة “الريف الاشتراكي الجديد”) مثيرة للاهتمام، ولقد كنت أعمل مع مجموعة من الباحثين لبناء فهم تفصيلي وتجريبي للمشروع الصيني من الداخل وعبر خصائصه الذاتية، وهذا هو أساس العمل الذي كنا نقوم به، والذي نُشر بعضه في مجلة وينهوا زونغ هينغ، وبعضه الآخر في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي من خلال الدراسة التي أجراها حول القضاء على الفقر المدقع في الصين. هل هي دعاية؟ لا أتمنى ذلك. آمل أن نقترب أكثر فأكثر من القدرة على تقديم تقييم نظري للثورة الصينية وهي تمضي قدما. هل الثورة مثالية؟ مُطلقا، ولكنها تتطلب الفهم وليس الكليشيهات التي تكثر في الغرب عندما يتعلق الأمر بالصين.
خذ على سبيل المثال مزاعم اضطهاد المسلمين الصينيين (25 مليونا أي ما يمثل 1.8% من إجمالي السكان)، أتذكر أنني كنت في آسيا الوسطى في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عندما كان لتنظيم القاعدة وحركة طالبان تأثير خطير على المنطقة، بما في ذلك من خلال مكاتب الحركة الإسلامية في أوزبكستان (IMU). صاغت الحركة الإسلامية الأوزبكية سياسة للسيطرة على منطقة شينجيانغ بأكملها، ولهذا السبب انضم بعض الإيغور إلى قيادة جوما نامانجاني.
نشأ الحزب الإسلامي التركستاني بقيادة أشخاص مقربين من تنظيم القاعدة (مثل عبد الحق التركستاني، الذي كان عضوا في مجلس شورى تنظيم القاعدة) من هذا النوع من العلاقات. وأصبح تفجير الأماكن العامة أمرا شائعا، بما في ذلك في منطقة شينجيانغ الإيغورية ذاتية الحكم. وكان عبد الشكور التركستاني، الذي تولى القيادة في عام 2010 خلفا لعبد الحق (مهندس تفجيرات 2008 في بكين أثناء الألعاب الأولمبية)، مسؤولا عن هجمات كاشغر في عامي 2008 و2011 وهجوم خوتان في عام 2011. وفي عام 2013، انتقلت المجموعة إلى سوريا، حيث التقيت بعدد قليل منهم على الحدود التركية السورية، ويتمركزون الآن في إدلب ويشكلون جزءا أساسيا من تنظيم القاعدة هناك. وهذه هي السمة المميزة لهم: ليست مجرد القومية التركية، بل الأصولية الإسلامية على شاكلة تنظيم القاعدة.
في ذلك الوقت، كان من الممكن اتباع عدة طرق للتعامل مع التمرد، وكان الخيار الذي فضلته الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة هو استخدام العنف، بما في ذلك مهاجمة المناطق التي يشتبه في أنها تحت إدارة هؤلاء المتمردين واعتقالهم بشكل جماعي، حيث ينتهي الأمر ببعضهم في المواقع السوداء التي تديرها الولايات المتحدة. وقُتل العديد من أعضاء هذه المجموعة، بمن فيهم عبد الحق وعبد الشكور، في غارات لطائرات أمريكية بدون طيار على الحدود الأفغانية الباكستانية. ومن المثير للاهتمام أن الصين لم تتبع هذا النهج. قبل بضع سنوات، أجريت مقابلات مع أعضاء سابقين في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة الذين ابتعدوا عن العنف وأيديولوجية القاعدة، والتي كانت مجموعتهم مؤسسة كويليام المثيرة للجدل (مقرها لندن)، كان يقودها أشخاص مثل نعمان بن عثمان الذي اتبع نهج مشروعي “التوبة” المصري و”المصالحة” الجزائرية. وقد حاولت هذه البرامج بشكل أساسي اعتماد نهج معرفي وسلوكي لمكافحة التطرف (تغيير الأيديولوجية ووقف العنف، على التوالي). وكان الجهاديون الليبيون السابقون حريصين على تطبيق هذا النهج في ليبيا (التي فشلت) وفي الغرب (حيث استقر العديد منهم)، بدلا من الخيار المتمثل في العنف الموجّه والاعتقالات الجماعية، وقد قوبلت بالرفض (باستثناء ألمانيا حيث تأسس برنامج حياة عام 2012). والمشكلة في النهج العنيف الذي اختاره الغرب بدلا من ذلك هو أنه شيطن كل المسلمين بدلا من مجرد محاولة استئصال التطرف من أولئك الذين انجذبوا إلى سياسات سامة.
في حالة الصين، وبدلا من شن حرب مباشرة ضد الجماعات المتطرفة في شينجيانغ ثم المجتمع الذي يعيشون فيه وشيطنة كل المسلمين، سعت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات من أجل مكافحة التطرف. من المفيد أن نتذكر الاجتماع بين الجمعية الإسلامية الصينية والحزب الشيوعي الصيني في بكين عام 2019 والذي بني على التخطيط لخمس سنوات لمخطط الاستمرار في إضفاء الطابع الصيني على الإسلام وسعى إلى جعل الإسلام متوافقا مع الاشتراكية. هذا مشروع مثير للاهتمام، على الرغم من أنه يعاني من عدم الوضوح. إن جعل الإسلام صينيا هو جزء من المشروع؛ والآخر هو جعل ممارسة الإسلام متوافقة مع المشروع الاشتراكي، ويشكل الأخير نهجا اجتماعيا معقولا للعالم الحديث: جعل الدين ــ بالمعنى الأوسع ــ متوافقا مع القيم الحديثة، وفي حالة الصين، مع “القيم الاشتراكية الأساسية” (مثل مكافحة التمييز بين الجنسين).
الأول أصعب في الفهم، ولم أفهمه حقًا. على الرغم من أنه عندما يتعلق الأمر بفكرة أن الدين يجب أن يتماشى مع القيم الحديثة، وخاصة القيم الاشتراكية، فأنا أؤيدها بالكامل. كيف يجب أن يحدث هذا؟ هل يجوز لنا على سبيل المثال أن نحظر بعض الممارسات (مثل الحجاب في فرنسا)، أم هل يتعين علينا أن نبدأ عملية الحوار والنقاش مع زعماء الطوائف الدينية (الذين هم غالبا الأكثر تحفظا)؟ ماذا يفعل المرء عندما يواجه تمردا له جذوره خارج البلاد، كما هي الحال في أفغانستان وأوزبكستان، بل وحتى سوريا، وليس داخل البلاد، مثل التناقضات في شينجيانغ؟ هذه كلها معضلات ملحة، ولكن التصريحات السخيفة حول الإبادة الجماعية وما إلى ذلك التي أطلقتها وزارة الخارجية الأمريكية وأعوانها – بما في أولئك المخادعين الذين يعملون في “مراكز بحثية” أكثر خداعا بالقرب من مقر وكالة المخابرات المركزية في لانجلي، فيرجينيا – لا يمكن السماح لها بأن تكون محدّدا لمناقشتنا داخل اليسار. نحن بحاجة إلى فهم أكبر للأمور المطروحة حتى لا نقع في خط الأسئلة التي يطرحها كل من بايدن ونتنياهو، والذي يتلخص في نوع الجدل الذي يدور حول “هل تدين حماس”.
كتبتَ في رسالتك الإلكترونية أنه “ليس هناك شك في أن مستويات معيشة الشعب الصيني العادي، وخاصة سكان المدن، قد تحسنت بشكل كبير خلال العقود الماضية”. في الواقع، تظهر جميع البيانات – ورحلاتي الخاصة – أن هذا ليس الأمر كذلك فحسب، “خاصة” بالنسبة لسكان المدن بل في جميع أنحاء البلاد وبشكل متزايد في مناطق أقصى الغرب وأقصى الشمال. على سبيل المثال، تظهر بيانات منظمة العمل الدولية أن نمو الأجور الحقيقية السنوي في الصين بلغ 4.7 %، وهو أعلى بكثير من نظيره في البلدان الأخرى في الجنوب العالمي، وبالتأكيد أعلى مما هو عليه في الهند (1.3 %) والولايات المتحدة (0.3 %). وبعد ثماني سنوات فقط، من عام 2013 إلى عام 2021، ارتفع نصيب الفرد من الدخل القابل للتصرف لسكان الريف الصيني البالغ عددهم 498 مليون نسمة بأكثر من 72.6 %، في حين زاد نصيب الفرد في المناطق الحضرية البالغ عددهم 914 مليون نسمة بنسبة 53.5 %. وفي الوقت نفسه، انخفضت فجوة الدخل القابل للتصرف بين المناطق الريفية والحضرية بنسبة 5 % خلال هذه الفترة، وتجاوز معدل نمو الدخل القابل للتصرف لسكان الريف معدل نمو سكان الحضر لمدة اثنتي عشرة سنة متتالية (2009-2021).
وفي الفترة بين عامي 2012 و2020، انتشل التخفيف من حدة الفقر المستهدف 98.99 مليون شخص في المناطق الريفية من الفقر المدقع، ومكّن كل أسرة تعاني من الفقر المدقع من تلقي المساعدة. وكجزء من هذه العملية المبتكرة، جمع الحزب الشيوعي الصيني بين تدريب وتطوير الأطر القاعدية والتكنولوجيا الرقمية، وبالتالي تعزيز قدرات الحوكمة الحديثة على المستوى المحلي وتمكين أعضاء الحزب وكوادره من خدمة الشعب بشكل أكثر دقة وكفاءة.
وعلى سبيل المقارنة، وباستخدام مؤشر جيني، الذي لا يغطي الخدمات العامة (مع تجاهل بنود مثل الإيجارات المدعومة للمنازل الريفية)، فإن التفاوت في الدخل في الهند أعلى بنسبة 24% عنه في الصين.
أولئك الذين ينظرون إلى البيانات المتعلقة بعدم المساواة في الصين غالبا ما يركزون على المليارديرات في الصين. كان ذلك واضحا في رسالتك الإلكترونية، التي أشارت إلى أن الصين “تعج بالمليونيرات الذين تدعمهم الدولة وحتى المليارديرات”. في الواقع، هناك طبقة متزايدة من البرجوازيين الكبار، كثير منهم “يستثمرون في الخارج”. من المؤكد أن عصر الإصلاح أنتج الظروف الاجتماعية التي جعلت بعض الناس أغنياء. ومع ذلك، فإن هذا العدد آخذ في الانخفاض: في عام 2023، من بين 2640 مليارديرا في العالم، كان هناك حوالي 562 مليارديرا في الصين، بانخفاض 607 عن العام السابق، وقد أعطت المؤتمرات القليلة الماضية للحزب الشيوعي الصيني أولوية لعكس محرك عملية إنتاج المليارديرات. ومن بين 2296 مندوبا إلى المؤتمر الوطني العشرين، كان هناك 18 فقط من المسؤولين التنفيذيين في القطاع الخاص، معظمهم من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، مقارنة بـ 34 الذين شاركوا في المؤتمر الوطني الثامن عشر في عام 2012.
ربما تعلم أن شي دعا سنة 2021 إلى سياسة “الرخاء المشترك” (وهو المصطلح الذي استخدمه الحزب الشيوعي الصيني لأول مرة في عام 1953)، الأمر الذي أثار قلق العديد من هؤلاء المليارديرات. ومنذ ذلك الحين، سعوا إلى الركض نحو التلال (“استثمروا في الخارج”، كما تقول). ومع ذلك، تفرض الصين ضوابط صارمة للغاية على رأس المال، حيث تسمح فقط بتحويل 50 ألف دولار إلى الخارج. وقد تم ارتكاب مجموعة من العمليات غير القانونية في السنوات القليلة الماضية لمساعدة الأغنياء على إخراج أموالهم، بما في ذلك من خلال منطقة هونغ كونغ الأكثر سهولة في الاختراق. لكن الدولة قامت باتخاذ إجراءات صارمة ضد هذا الأمر، كما قامت بقمع الفساد. في أغسطس 2023، ألقت الشرطة القبض على قادة شركة هجرة في شنغهاي قامت بتسهيل تحويلات النقد الأجنبي غير القانونية. ويعكس الضغط الذي يُمارس على جاك ما (شركة التكنولوجيا المالية آنت غروب)، وهوي كا يان (المطور العقاري إيفرغراند)، وباو فان (بنك الاستثمار رينسانس هولدنغز) (يعكس) الموقف الحالي للحزب الشيوعي الصيني فيما يتعلق بالمليارديرات.
لقد كتبتَ أنه على الرغم من تحسّن مستويات المعيشة في الصين، إلا أن “الاشتراكية ليست على جدول الأعمال في ذلك البلد”. لولا الأجندة الاشتراكية التي ينتهجها الحزب الشيوعي الصيني، كيف تمكنت الصين من القضاء على الفقر المدقع وخفض معدلات عدم المساواة، خاصة في أوقات تزايد عدم المساواة العالمية وفشل الأجندة الديمقراطية الاجتماعية في الشمال العالمي الرأسمالي وفي أجزاء كبيرة من الجنوب من الاقتراب من هذه الإنجازات؟. من المفيد أن تخضع البنوك الكبيرة في الصين لسيطرة الدولة حتى يمكن إدارة رأس مال واسع النطاق بكفاءة لحل المشاكل الاجتماعية، كما رأينا خلال جائحة كوفيد-19. ويستمر الصراع الطبقي في الصين بطبيعة الحال، ويؤثر هذا الصراع الطبقي على الحزب الشيوعي الصيني (الذي يبلغ عدد أعضائه الهائل 98 مليون).
لقد حاولتُ ليس فقط تقديم بعض الحقائق لتوجيه نقاشنا، ولكن أيضا دمجها في نظرية الاشتراكية التي أعتقد أنها الأكثر جاذبية. ووفقاً لهذه النظرية، فإن الاشتراكية ليست حدثا بل سيرورة، وهذه السيرورة – المتجذرة في الصراع الطبقي – تسير في خطوط متعرجة، وهو توتر ذهابا وإيابا غالبا ما تتفاقم بسبب الحاجة الملحة لزيادة القوى المنتجة في الدول الفقيرة. ومن المهم أن يصاحب مثل هذه السيرورات العلم بدلا من اتخاذ وجهة نظر قطعية.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة الإنجليزية بتاريخ: 11 كانون الثاني/ يناير 2024.
