معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 08 حزيران/ يونيو 2021
فيجاي براشاد
مضى جيل كامل على انهيار الاتحاد السوفييتي في نهايات عام 1991. قبل ذلك بسنتين، في 1989 تحللت الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية مع فتح المجر حدودها. في الثالث من مارس 1989 سأل ميكلوس نيميث، آخر رئيس شيوعي للمجر، ميخائيل غورباتشوف إن كان بالإمكان فتح الحدود نحو أوروبا الغربية، فأجاب الأخير قائلاً: “لدينا نظام صارم على حدودنا، لكننا في طور الانفتاح”. بعد ثلاثة أشهر، في 15 يونيو، أخبر غورباتشوف الصحافة في بون، عاصمة ألمانيا الغربية، بأنه “من الممكن لجدار برلين أن يزول حين تزول أسباب وجوده”.. لم يذكر هذه الأسباب لكنه أضاف: “لا شيء يدوم إلى الأبد”. وفي التاسع من أيلول سبتمبر 1989 هدم جدار برلين. ومع حلول تشرين الثاني أكتوبر 1990 انضمّت الجمهورية الألمانية الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) إلى ألمانيا الموحدة، التي سيطرت عليها ألمانية الغربية.
وكان من شروط الوحدة تفكيك هياكل جمهورية ألمانيا الديمقراطية، والخصخصة كانت إحدى أهم وسائل هذا التفكيك. لقد أنشأت ألمانيا الموحدة وكالة مخصصة لهذا الغرض باسم Treuhandanstalt (“ترويهاندانشتالت – وكالة الصندوق)” برئاسة ديتليف روهفيدر، حيث بدأت بخصخصة 8.500 مؤسسة حكومية كانت توظف ما يزيد عن أربعة ملايين عامل. “نخصخص على عجل، نعيد الهيكلة بعزم، ونغلق المؤسسات بحذر”، هذا كان شعار روهفيدر الذي لم يتح له تحقيقه، إذ اغتيل في أبريل 1991؛ لكن خليفته برجيت برويل لم تكن أقل عزماً، إذ قالت في مقابلة مع الواشنطن بوست: “بإمكاننا محاولة تبرير أفعالنا للشعب، لكن مهما قلنا فإن الناس لن تحبنا. سياساتنا ستكون قاسية على الشعب مهما كان. مع كل مؤسسة حكومية من الـ8500 نقوم بخصخصتها أو إعادة هيكتلها أو إغلاقها سيخسر أناس وظائفهم. لا مهرب من الأمر”. ومع تطبيق هذه السياسات وقعت مئات المؤسسات العامة (“فولكسزايغينتم – Volkseigentum)” تحت أيادٍ خاصة، وخسر الملايين من الناس وظائفهم—70٪ من النساء خسرن وظائفهنّ. لكن ضخامة حجم الفساد والمحاباة اللذين طبعا تلك الفترة لم يُكشف إلا بعد عقود من الزمن، في تحقيق للبرلمان الألماني عام 2009.
لكن ابتلاع جمهورية ألمانيا الديمقراطية لم يقتصر على خصخصة مؤسساتها، بل تعداه إلى تدمير إرث الدولة تماماً تحت ضباب معاداة الشيوعية. لم يتبق ليدلل على إرث أربعة عقود من تاريخ الجمهورية الشيوعية سوى مصطلح “ستازي” الذي اختًزل هذا التاريخ فيه. والستازي هو الاسم المتداول لوزارة أمن الدولة. لم يهمّ ألمانيا الموحدة أي شيء آخر، لا استئصال النازية التي نجحت به ألمانيا الشرقية ولم تحاول تطبيقه الغربية أصلاً، ولا كل المكتسبات الشعبية في الإسكان والصحة والتعليم والحياة الاجتماعية وكلها تم استئصالها من المخيال الجمعي لماهية ألمانيا الشرقية.
نسيت الذاكرة الجماعية أو محي منها دور ألمانيا الشرقية في دعم حركات التحرر العالمي وتجارب بناء الشيوعية من فيتنام إلى تنزانيا؛ كل هذا اختفى مع زلزال توحيد الألمانيتين الذي ابتلع كل إنجازات ألمانيا الشرقية، تاركاً خلفه فراغاً ملأه اليأس والنسيان الاجتماعيان. لكن الواقع يناقض هذه الصور المصطنعة، إذ إن استطلاعاً وراء استطلاع، سواء في التسعينيات أو في سنوات الألفين، أظهرت حنين سكان شرق ألمانيا لزمن الجمهورية الديمقراطية. لا يزداد هذا الحنين إلا اشتعالاً مع مرور الزمن وازدياد البطالة وهبوط الأجور، سواء في شرقي ألمانيا أو غربيها.
وقد أنشأ البرلمان الألماني عام 1998 ما أسماها “المؤسسة الفيدرالية لدراسة الديكتاتورية الشيوعية في ألمانيا الشرقية”، التي خطّت بدورها السطور التي كتب عليها تاريخ الشيوعية الألمانية، والأسس التي قًيّمت من خلالها. باختصار، فوّضت المؤسسة بدعم أبحاث تهدف إلى تصوير جمهورية ألمانيا الشرقية كمغامرة إجراميّة لا كمشروع تاريخيّ. لكن مشروع استئصال الشيوعية من التاريخ الألماني وتحييد الفكر الماركسي فيها لم يكن إلّا امتداداً لمشاريع مشابهة في أوروبا الغربية وشمال أمريكا؛ مشاريع إن عكست ضراوتها شيئاً فهو ارتعاد هذه الدول من احتمال عودة عدوها الأحمر.
هذا الشهر يتشارك معهد القارات الثلاث مع [مركز البحث العالمي Internationale Forschungsstelle DDR] (IF DRR] ليصدر العدد الأول من سلسلة جديدة بعنوان “دراسات حول جمهورية ألمانيا الديمقراطية”. الدراسة الأولى “قيامة من تحت الأنقاض: التاريخ الاقتصادي للاشتراكية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية”، تنفض غبار الدعاية المضادة للشيوعية لتفحص بعدسة صافية التطور التاريخي لمشروع جمهورية ألمانيا الديمقراطية الأربعيني. من مقرهم في برلين، قام الباحثون في هذه الدراسة بتصفح أرشيفات وذكريات، فقد قابلوا بناة الاشتراكية في ألمانيا بمختلف مواقعهم.
قال بيتر هاكس، وهو شاعر من ألمانيا الشرقية، مستذكراً: “إن أسوأ اشتراكية لهي أفضل من أفضل رأسمالية. لقد أٌسقطت الاشتراكية لأنها كانت فاضلة، وهذه خطيئة في عرف السوق العالمي.. كانت مجتمعاً يحترم اقتصاده قيماً تتعدى مراكمة رأس المال: يحترم حق المواطنين في الحياة، في السعادة وفي الصحة؛ يحترم الفن والعلم؛ يحترم المنفعة وتقليل الهدر”. إن الاقتصاد الاشتراكي لا يسعى نحو النمو الاقتصادي، يقول هاكس، “بل إن تطور الشعب لهو هدف الاقتصاد الاشتراكي”. تتبع دراستنا بعنوان، “قيامة من تحت الأنقاض” قصة ألمانيا الشرقية وأناسها، منذ نهوضهم من تحت رماد ألمانيا إثر هزيمة الفاشية، وحتى تفتيت جمهورية ألمانيا الديمقراطية وتقاسم غنائمها بعد عام 1989.
إن أحد أقل جوانب تاريخ ألمانيا الشرقية شهرة هو أمميتها، وهو جانب تستكشفه هذه الدراسة بشكل رائع. فلنقرأ ثلاثة مقتطفات من الدراسة تعبّر عن هذه الأممية:
١- العمل التضامني. بين عاميّ 1964 و1988، نشر ستين لواء من ألوية “شباب ألمانيا الحر” (المنظمة الجماهيرية الشبابية لألمانيا الشرقية) في اثنتين وسبعين دولة، ليشاركوا مناضليها معرفتهم، ويساعدوهم في بناء أوطانهم، ويخلقوا فرصاً تدريبية وظروفاً للاكتفاء الاقتصادي. عدد من هذه المشاريع مازال قائماً إلى اليوم، رغم أن بعضها غيّر اسمه، مثل مستشفى كارلوس ماركس في ماناغوا، نيكاراغوا؛ ومستشفى الصداقة الألمانية-الفيتنامية في هانوي، فيتنام؛ ومصنع كارل ماركس للإسمنت في سيينفويغوس، كوبا—على سبيل المثال لا الحصر.
٢- فرص التعلّم والتبادل. أتم ما يزيد عن خمسين ألف طالب أجنبي تعليمهم في جامعات وكليات ألمانيا الشرقية، وذلك بتمويل من جمهورية ألمانيا الديمقراطية نفسها. بشكل عام، لم تكن هناك أقساط للجامعات، وعدد كبير من الطلاب الأجانب حصلوا على منح دراسية ومحل إقامة في السكنات الطلابية. إضافة إلى الطلاب، قدم إلى ألمانيا الشرقية العديد من العمال المتعاقدين بحثاً عن فرص العمل والتدريب من دول حليفة كموزنبيق، وفيتنام، وأنغولا، وكذلك من بولندا والمجر. بقي العمال المتعاقدوين الأجانب من أولويات ألمانيا الشرقية حتى آخر أيام جمهوريتها، إذ نمى عدد العمال ما بين عاميّ 1981 و1989 من أربعة وعشرين ألفاً إلى أربعة وتسعين ألفا. وفي عام 1989 حاز جميع العمال الأجانب في ألمانيا الشرقية حق التصويت والترشيح في الانتخابات البلدية، وقد شاركوا بفاعلية فيها.
٣- الدعم السياسي. في حين كان الغرب يقذف نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي بتهم الإرهاب والعنصرية، ويعقد الصفقات مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا (وبعضها صفقات سلاح) دعمت جمهورية ألمانيا الديمقراطية حزب المؤتمر، فدرّبت مقاتليه وطبعت نشرياته وقدمت العلاج لجرحاه. وحين أطلق الطلاب السود في بلدة سوويتو انتفاضتهم ضد نظام الفصل العنصري في السادس عشر من حزيران/ يونيو 1967، خلدت ألمانيا الشرقية ذكرى الانتفاضة في “يوم سوييتو العالمي” كمبادرة تضامن مع شعب جنوب إفريقيا ونضاله. لم يقتصر تضامن ألمانيا الشرقية مع مناضلي الجنوب، بل امتد إلى المناضلين في قلب الإمبريالية، مثل تنظيم طلاب ألمانيا الشرقية حملة “المليون وردة لآنجيلا ديفيس” إثر محاكمتها بتهمة الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أرسلوا لسجنها أكواماً من بطاقات التضامن المخطوطة يدوياً، وسلّمها صحفيّ من ألمانيا الشرقية وروداً بمناسبة يوم المرأة.
انمحت ذكرى هذا التضامن في ألمانيا كما في جنوب إفريقيا نفسها؛ رغم أن الانتصار على نظام الفصل العنصري هناك لم يكن ليتمّ في حينه لولا دعم جمهورية ألمانيا الديمقراطية وكوبا والاتحاد السوفييتي. فالدعم الكوبي لمقاتلي “الوطني” في معركة سويتو كوانافالي عام 1987 كان حاسماً في تعجيل هذا النصر على جيش الفصل العنصري، مؤدياً إلى انهيار مشروع الفصل العنصري عام 1994.
إن منظمات كـ”المؤسسة الاتحادية لدراسة الدكتاتورية الشيوعية في ألمانيا الشرقية” (برلين) و”مؤسسة استذكار ضحايا الشيوعية” (واشنطن) لا تهدف فقط إلى تلطيخ ماضي الشيوعية اللامع، بل لتضمن أيضاً تحميل المشاريع الشيوعية المعاصرة وزرَ هذه الصورة المشوهة. ولكم من الصعب أن نحمل اليوم، في سعينا للمضي قدماً بالمشروع اليساريّ، ثقل هذه الأكوام من الأكاذيب. من هنا تبرز أهمية المشروع الذي بين أيدينا، مشروع مركز البحث العالميٍ. لكن هدف المشروع لا يقتصر على إبراز تاريخ ألمانيا الشرقية لذاته، بل هو بالأساس تناول نقديّ للآفاق التي فتحتها تجارب سعت إلى تحقيق مجتمع اشتراكيّ، وتفحص للتحسن الماديّ الذي سعت إلى تحقيقه، وحققته فعلاً، في حياة سكانها.
لن تولد الاشتراكية مكتملة النمو كاملة الصفات؛ وسيحمل أي مشروع اشتراكي، بلا شك، كل محدوديات الماضي. إن قلب نظام دولة طبقية إلى مجتمع اشتراكيّ لهو طريق طويل يحتاج إلى جهد وصبر. أما جمهورية ألمانيا الشرقية فلم تعش سوى أربعين عاماً، أي ما يعادل نصف متوسط أعمار سكانها؛ وحين أفَلت، لم توفّر غربان الرأسمالية جهداً في تقزيم إنجازاتها.
يقول الشاعر الألماني الشرقي فولكر براون، راثياً بلده المنسيّ في قصيدة بعنوان “مُلكيّة” في تشرين الثاني أكتوبر 1989:
لم أزل هنا، وإن تغرّب بلدي.
سلام للقصور، حرب على الأكواخ.
أنا نفسي طلقته، بلدي.
أي محاسن كانت له، فهي الآن تحترق.
بعد الشتاء يأتي صيف من الشهوة.
فلأضيع إذاً، لا يهم ما سيأتي،
ولن يفك حرفي أحد بعد الآن.
أخذوا مني ما لم أملك قط.
سأحنّ دوماً إلى ما لم أفعل.
برز الأمل يوماً على الطريق كالفخ
تتحسسون وتمسكون بما ملكت.
متى سأقول “لي أنا” لأعني “لنا… نحن”
مسعانا هنا ليس عكس اتجاه التاريخ، وليس المبالغة في إنجازات ألمانيا الشرقية والتعامي عن مثالبها. إن التاريخ نبع نغرف منه لفهم تعقيدات التطورات الاجتماعية واستنباط الدروس من تجارب الماضي، بخطئها وصوابها. إن مشروع مركز البحث العالمي بالتعاون مع معهد القارات الثلاث هو تنقيب بين الأحافير، هو بحث عن الشموخ من بين عظام نائمة حفّها الزمن.