معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 06 تشرين الأول/ أكتوبر 2021
فيجاي براشاد
أخبار مربكة تأتي من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الرائد الصادر عن صندوق النقد الدولي، إذ يسلط الضوء على العديد من القضايا الملحة التي تواجه كوكبنا: اضطرابات في سلسلة التوريد العالمية، وارتفاع تكاليف الشحن، ونقص السلع الوسيطة، وارتفاع أسعار السلع، والضغوط التضخمية في العديد من الاقتصادات. ومن المتوقع أن تصل معدلات النمو العالمية إلى 6% في 2021، و4.9% في 2022، بفعل ارتفاع الديون الحكومية العالمية.
ويشير التقرير ذاته إلى أن هذه الديون وصلت إلى معدلات غير مسبوقة تقارب 100% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020، ومن المتوقع أن تبقى على هذا المستوى عامي 2021 و2022. إن الديون الخارجية للبلدان النامية ستظل مرتفعة، مع توقعات ضئيلة بالتعافي.
تسلط سنوياً غيتا غوبيناث، وهي كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، الضوء على الموضوعات الرئيسية للتقرير في مدونتها؛ التي تحتوي هذا العام على عنوان رئيسي واضح: “جلب المزيد من التباين: اتساع الفجوات في التعافي العالمي”. يمتد الصدع بين جنوب العالم وشماله، مع عدم قدرة الدول الفقيرة على إيجاد طريق سهل للخروج من التباطؤ العالمي الناجم عن الوباء. ويعزى هذا الصدع إلى العديد من الأسباب، مثل عقوبة الاعتماد على الإنتاج كثيف العمالة، والفقر العام للسكان، ومشاكل الديون طويلة الأمد. لكن غوبيناث تركز على جانب واحد هو ابرتهايد اللقاح، إذ كتبت: “لقد تم تطعيم ما يقرب 40% من السكان في الاقتصادات المتقدمة بشكل كامل، مقارنة بنسبة 11% في اقتصادات الأسواق الناشئة، ونسبة ضئيلة في البلدان النامية منخفضة الدخل”. وتجادل جوبيناث بأن “نقص اللقاحات هو المسبب الأساسي في اتساع الفجوات في التعافي العالمي”.
إن لهذه الفجوات الآخذة في الاتساع تأثيرات مباشرة على الجانب الاجتماعي، فمثلاً يشير تقرير العام 2021 لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم إلى أن “نحو واحد من كل ثلاثة أشخاص في العالم (2.37 مليار) لم يحصلوا على غذاء كافٍ في العام 2020 – ويشكل هذا زيادةً بنحو 320 مليون شخص في عام واحد فقط”.
إن الجوع لا يحتمل، وأعمال الشغب اليوم بسبب الغذاء أكبر دليل على ذلك، وأكثرها دراماتيكية في جنوب إفريقيا. يقول أحد سكان دوربان الذي كان متحمساً للانضمام إلى الاضطرابات: “إنهم يقتلوننا بالجوع هنا”. هذه الاحتجاجات، بالإضافة إلى البيانات الجديدة الصادرة عن صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة، أعادت مسألة الجوع إلى جدول الأعمال العالمي.
عقد المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة في أواخر تموز/ يوليو منتدى سياسيا رفيع المستوى حول التنمية المستدامة. أقر البيان الوزاري للمنتدى بأن “الأزمة التي سببها وباء كورونا كشفت وفاقمت هشاشة عالمنا واللامساواة داخل الدول وفي ما بينها، وأبرزت نقاط الضعف والتحديات والمخاطر النظامية التي تهدد بوقف أو تدمير التقدم المحرز في تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ ويذكر أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تبنت سبعة عشر هدفاً من أهداف التنمية المستدامة (SDGs) عام 2015، تشمل تخفيف حدة الفقر والقضاء على الجوع والصحة الجيدة والمساواة الجندرية. وكان واضحاً قبل الجائحة أن العالم لن يتمكن من تحقيق هذه الأهداف مع العام 2030 كما كان متوقعاً، وبالتأكيد لن يتمكن حتى من تحقيق الهدف الأساسي الأهم المتمثل في القضاء على الجوع.
أعلن رئيس الصين، شي جينبينغ، خلال هذه الفترة القاتمة، وعلى نقيض الانكماش العالمي العام، أن الصين قضت على الفقر المدقع بالكامل. ماذا يعني هذا الإعلان؟ كما أفاد فريقنا في معهد القارات الثلاث الشهر الماضي، فإن هذا يعني أن 850 مليون شخص قد خرجوا من دائرة الفقر المدقع (تتويجاً لعملية استمرت سبعة عقود بدأت مع الثورة الصينية عام 1949)، وأن دخل الفرد ارتفع ليصل 10,000 دولار (وهي زيادة بمقدار عشرة أضعاف في السنوات العشرين الأخيرة)، وأن متوسط العمر ارتفع إلى 77.3 سنة بالمعدل (مقارنة بـ 35 سنة في العام 1949).
لقد ساهمت الصين عبر تحقيقها هدف التنمية المستدامة المتمثل في الحد من الفقر، وحتى قبل عشر سنوات من السقف الزمني الموضوع له، في أكثر من 70% من إجمالي الحد من الفقر على مستوى العالم. وفي مارس/آذار 2021، احتفل الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش بهذا الإنجاز باعتباره “سبباً للأمل والإلهام لجميع البلدان”.
تدشن دراستنا لشهر يوليو/ تموز بعنوان خدمة الشعب: “القضاء على الفقر المدقع في الصين” سلسلة جديدة نطلق عليها اسم دراسات حول البناء الاشتراكي، نسعى من خلالها إلى دراسة التجارب في بناء الممارسات الاشتراكية من كوبا إلى كيرالا، ومن بوليفيا إلى الصين.
تستند هذه الدراسة على دراسات ميدانية حول مشاريع القضاء على الفقر في أجزاء مختلفة من الصين، وكذلك على مقابلات مع خبراء شاركوا في هذا المشروع طويل الأمد. وفي هذا الصدد أخبرنا مثلاً وانغ سانغوي، عميد المعهد الوطني لبحوث التخفيف من حدة الفقر بجامعة رينمين، كيف أن مفهوم الفقر متعدد الأبعاد مركزي في المقاربة الصينية. وتحول المفهوم إلى سياسة عبر برنامج الحزب الشيوعي الصيني “الضمانات الثلاث” (السكن الآمن والرعاية الصحية والتعليم)، و”الأمران المؤكدان” (الطعام والكساء). لكن حتى هنا يكمن جوهر هذه السياسة في التفاصيل، التي وضحها وانغ من خلال الحديث عن مياه الشرب:
كيف تصنف مياه الشرب على أنها آمنة؟ بدايةً إن الشرط الأساسي هو ألا يكون هناك أي نقص في إمداد المياه. ثانياً، يجب ألا يكون مصدر المياه بعيداً جداً، وألا يزيد عن عشرين دقيقة ذهاباً وإياباً لاستخراج المياه. وأخيراً يجب أن تكون جودة المياه آمنة وخالية من أي مواد ضارة. نحن نتطلب تقارير اختبار تؤكد أن نوعية المياه آمنة، وعندها فقط يمكننا القول إنه تم الوفاء بالمعايير.
بمجرد صياغة السياسة يبدأ العمل الحقيقي للتنفيذ. أرسل الحزب الشيوعي 800 ألف إطار لمساعدة السلطات المحلية في مسح الأسر لفهم عمق الفقر في الريف، ومن ثم انتدب الحزب 3 ملايين إطار من أعضائه البالغ عددهم 95.1 مليون ليصبحوا جزءاً من 255 ألف فريق يقضون سنوات في القرى الفقيرة للعمل من أجل القضاء على الفقر والظروف الاجتماعية الناجمة عنه. وتم تعيين فريق واحدة لكل قرية، بحيث يكون هناك إطار مكلّف لكل عائلة.
نجم عن دراسات الفقر والتجربة التي راكمتها الأطر خمسة مناهج أساسية للقضاء على الفقر، وهي: تطوير الصناعة، وإعادة نقل الناس، وتحفيز التعويض البيئي، وضمان التعليم المجاني والجيد والإلزامي، وتقديم المساعدة الاجتماعية. لقد كانت أقوى وسيلة من بين هذه الأساليب الخمسة هي التنمية الصناعية، التي أوجدت إنتاجاً زراعياً ذا رأس مال كثيف (بما في ذلك معالجة المحاصيل وتربية الحيوانات)؛ واستعادت الأراضي الزراعية وأنبتت الغابات كجزء من مخططات التعويض البيئي، ما أدى إلى إحياء المناطق التي أصبحت فريسة للاستغلال المفرط للموارد. بالإضافة إلى ذلك، تم التركيز على تعليم الأقليات والنساء. وكنتيجة لذلك، احتلت الصين بحلول عام 2020 المرتبة الأولى في العالم في التحاق النساء بالتعليم العالي وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي.
إن أقل من 10% من الأشخاص الذين انتشلوا أنفسهم من براثن الفقر فعلوا ذلك بسبب إعادة التوزيع، التي كانت في الغالب الحالة الأكثر دراماتيكية في البرنامج. أخبرنا “موس”، أحد السكان الذين تم نقلهم عن قرية أتولئير، التي تقع على حافة جبل، حيث كان يعيش قبل أن ينتقل، متذكرا: “لقد كنت أستغرق نصف يوم لكي أتسلق الجرف نزولاً لشراء علبة ملح”.. كان ينزل من الجرف على سلّم معلق مصنوع من القش يتدلى بشكل خطير من الحافة؛ وقد سمح له انتقاله – إلى جانب العائلات الثلاث والثمانين الأخرى التي عاشت هناك – بالوصول إلى مرافق أفضل وعيش حياة أقل خطورة.
لا شك أن القضاء على الفقر المدقع مسألة هامة، لكنه لا يحل جميع المشاكل، إذ يبقى التفاوت الاجتماعي في الصين مشكلة جدية. هذه ليست مشاكل تخص الصين وحدها، بل مشاكل ملحّة تواجه عصرنا الحالي. وبينما ننتقل إلى الزراعة ذات رأس المال الكثيف، التي تتطلب عدداً أقل من المزارعين، ما هو نوع السكّان الذي سننتجه، والذي لا يوجد في المناطق الريفية ولا في المناطق الحضرية؟ ما أنواع الوظائف التي يمكن توفيرها للأشخاص الذين لم تعد هناك حاجة إليهم في الحقول؟ هل يمكننا البدء في التفكير في أسبوع عمل أقصر، ما يتيح مزيداً من الوقت للمسائل الاجتماعية والمدنية؟.
إن القضاء على الفقر ليس مشروعاً صينياً، بل هو هدف للإنسانية، ولهذا السبب تنظر الحكومات والحركات التي تلتزم بهذا الهدف بعناية إلى إنجاز الشعب الصيني. ومع ذلك فإن العديد من المشاريع قيد التنفيذ تتخذ نهجاً مغايراً تماماً، إذ تسعى إلى معالجة الفقر من خلال التحويلات النقدية (وهو ما تدافع عنه العديد من معاهد البحوث في جنوب إفريقيا). لكن مشاريع التحويلات النقدية غير كافية، والفقر متعدد الأبعاد يتطلب أكثر من ذلك. لقد أحدث مثلاً برنامج بولسا فاميليا في البرازيل الذي نفذه الرئيس الأسبق لولا دي سيلفيا فارقاً مهماً على مستوى الجوع في البلاد، لكنه لم يكن مصمماً للقضاء على الفقر.
وفي الوقت ذاته، انخفض الفقر المطلق في ولاية كيرالا الهندية تحت حكم الجبهة الديمقراطية اليسارية من 59.79% من السكان في الأعوام 1973-1974 إلى 7.05% في الأعوام 2011-2012. لقد تمثلت الآليات التي قادت إلى مثل هذا الانخفاض الدراماتيكي في : الإصلاح الزراعي وتأسيس صحة وتعليم عموميين، وخلق نظام توزيع عمومي للغذاء، وإضفاء اللامركزية على السلطة السياسية إلى الحكومات الذاتية المحلية، وتعزيز العمل العام (من خلال مشاريع كودومباشري التعاونية مثلاً).
وفي السياق ذاته، قال رئيس وزراء ولاية كيرالا بيناراي فيجايان مؤخراً إن حكومته ملتزمة بالقضاء على الفقر المدقع في الولاية. ستركز دراستنا القادمة ضمن سلسلة البناء الاشتراكي على الحركة التعاونية في كيرالا، وتحديداً على دورها في القضاء على الفقر والجوع والنظام الأبوي.
في شهر مارس/ آذار، أصدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة تقرير مؤشر نفايات الطعام، الذي أظهر أن نحو 931 مليون طن من الطعام انتهى بها الأمر في مكبات النفايات حول العالم. ويعادل وزن هذا الطعام تقريباً وزن 23 مليون شاحنة سعة كل منها 40 طناً محملة بالكامل. إذا تركنا هذه الشاحنات تقف واحدة تلو الأخرى في محيط الأرض، فإنها ستصنع حلقة طويلة بما يكفي لتدور حول الأرض سبع مرات، أو للذهاب إلى أعماق الفضاء، حيث قرر المليارديران جيف بيزوس وريتشارد برانسون الذهاب. لقد كان بإمكان 5.5 مليارات دولار التي أنفقها بيزوس في رحلة مدتها أربع دقائق إلى الفضاء أن تطعم 37.5 ملايين شخص أو تمول برنامج كوفاكس بالكامل، ما من شأنه تطعيم ملياري شخص.
إن طموحات بيزوس وبرانسون ليست حياة. الحياة هي إلغاء قسوة الضرورة.