على هامش تعيين امرأة “رئيسة حكومة”: الخيارات والبرامج أوّلا…

مشاركة المقال

مدار: 06 تشرين الأول/ أكتوبر 2021

بقلم: حمّه الهمامي

أعلن رئيس الجمهورية يوم الأربعاء 28 سبتمبر 2021 تكليف السيّدة نجلاء بودن، بمهمة “رئيس حكومة” وفقا لما جاء في الأمر الرئاسي المنظم للسلطة العمومية الصادر بتاريخ 22 سبتمبر والذي رفضته أو انتقدته غالبية القوى السياسية والنقابية والمهنية والحقوقية التي رأت فيه تقنينا لاستيلاء قيس سعيد على السلطة والانفراد بها تمهيدا لإرساء نظام شعبوي، استبدادي جديد. وقد صاحب هذا التكليف حملة تهليل وتكبير واسعة من أنصار قيس سعيد ومؤيديه الذين روّجوا أنّ هذا التكليف يمثّل “تكريما” جديدا للمرأة التونسية. وكالعادة انخرطت في هذه الحملات أطراف انتهازية تدّعي “اليسارية” و”التقدمية”، بعضها من باب الطمع وبعضها من باب الانقياد بنظرة “جندرية”، شكليّة وتبسيطيّة وسطحية لا يهمّها من الأمر سوى جنس رئيس الحكومة مُغَيّبَةً بذلك المضامين الطّبقية، السياسية، وهي الجانب الأهم والحاسم، في كل اختيار سياسي واجتماعي.

مناورة سياسية

إنّ تكليف قيس سعيد السيدة نجلاء بودن على رأس الحكومة القادمة لا يعدو، في نظرنا، أن يكون مناورة سياسية أملاها في نهاية الأمر وبعد أخذ وردّ دام أكثر من شهرين، عاملان اثنان: الأول الرغبة في تجميل الانقلاب في الداخل والخارج، وثانيا البحث عن شخصية “ثقة” و”مضمونة”، حتى لا تتكرر تجربة هشام المشيشي التي عاشها قيس سعيد كمأساة حقيقية، سياسية وأخلاقية. وقد شاءت “الظروف” و”الحسابات” و”موازين القوى” بين اللاعبين الأساسيين في القصر، من أفراد العائلة ومحيطها، أن تكون هذه الشخصية امرأة.  وقد سبق أن ترددت كثيرا، قبل إعلان هذا الاختيار، أسماء عدد من الرجال، آخرهم وزير الداخليّة الأسبق في حكومة المشيشي، توفيق شرف الدين، وقبله بمدة مروان العباسي، محافظ البنك المركزي الذي تمّ التراجع عن تكليفه في آخر لحظة. ومن هذه الزاوية فإنّ اختيار السيّدة نجلاء بودن لا يندرج صلب اختيارات فكرية وسياسية وثقافية منتصرة للنساء ولمبدأي المساواة والتناصف وإنما هو يندرج صلب حسابات “سياسوية”، “تكتيكاوية” لا غير.

إنّ تكريم نساء تونس لا يمكن أن يتم بتكليف إحداهن على رأس حكومة انقلاب. لقد قبلت السيدة نجلاء بودن هذا التكليف في سياق إجراءات استثنائية، انقلابية، غير مسقّفة بزمن، ألغى قيس سعيد بموجبها الدستور واستولى على كامل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وقرر الحكم بمراسيم غير قابلة للطعن. وإلى ذلك فقد أعطى لنفسه سلطة تأسيسية تمكنه من أن يضع وحده دستورا جديدا لتونس، مستعينا بلجنة يعيّنها بنفسه، ومن أن يصوغ قانونا انتخابيا جديدا الخ… وهو ما سيحمّلها تاريخيا مسؤولية الانخراط في هذا الانقلاب. كما أنّ تكريم نساء تونس لا يمكن أن يكون بتسمية إحداهن على رأس حكومة لتكون مجرد موظفة/سكرتيرة عند رئيس الدولة، لا هي صاحبة سياسة ولا هي صاحبة اختيارات أو قرارات. وهذا واضح تمام الوضوح من خلال الفصول 16 و17 و18 و19 من الأمر 117 التي تنص على أنّ الحكومة تتكون من رئيس ووزراء وكتاب دولة يعيّنهم رئيس الجمهورية ويؤدّون اليمين أمامه وهو الذي يغيّرهم ويقيلهم متى شاء وكيفما أراد. كما تنص على أنّ الحكومة تسهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبقا للتوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية وهي فوق ذلك مسؤولة أمامه. وينص الفصل 19 على أنّ رئيس الحكومة يسيّر الحكومة وينسّق أعمالها ويتصرّف في دواليب الإدارة لتنفيذ التوجهات والاختيارات التي يضبها رئيس الجمهورية الذي يعود إليه وفق نفس الأمر تعيين كبار موظفي الدولة…

عون تنفيذ برتبة رئيسة حكومة

كل هذا يبيّن أنّ دور السيدة نجلاء بودن على رأس الحكومة دورٌ شكليّ،  لأن صاحب الحكومة وصاحب السلطة التنفيذية الفعلية هو قيس سعيد بينما لا يتجاوز دور رئيسة الحكومة دور السكرتيرة أو عون التنفيذ. وبالإضافة إلى ذلك، وهذا هو الأهم، ما هي الاختيارات والسياسات والتوجهات التي ستنفذها السيدة بودن وما هي علاقتها بمصالح العمال والكادحين والموظفين والفلاحين الفقراء والصغار وأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة والمعطلين عن العمل والمثقفين والمبدعين وعموم النساء والشباب؟ إنّ الجواب واضح فما دامت رئيسة الحكومة ستنفّذ سياسات رئيس الجمهورية وتوجهاته وتعليماته فمعنى ذلك أنها ملزمة بتنفيذ توجهاته الدكتاتورية والاستبدادية في المجال السياسي. كما أنها ملزمة بمواصلة تنفيذ نفس الخيارات الرأسمالية الليبرالية المتوحشة المكرسة للتبعية والتفقير والتهميش والنّهب التي كان قيس سعيد كلّف سابقا كلّا من إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي بتنفيذها.

وبالإضافة إلى ذلك لا بد أن نتساءل هل اختار قيس سعيد، الذي يُروّج أنّ انقلاب 25 جويلية تصحيح لمسار الثورة التي انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 من سيدي بوزيد، هل اختار رئيس حكومته، من بين نساء الثورة التونسية وهن كثيرات في مختلف المجالات، نازعن الدكتاتورية وقاومن الاستغلال والفساد والميز الجنسي وعانين القمع والاضطهاد ودخلن السجون وفقدن مصدر قوتهن من أجل الحرية والكرامة؟ هل اختارها من بين “بنات الشعب” صنعن مستقبلهن بأنفسهن وجاهدن وكابدن للحصول على العلم والمعرفة؟…. هل اختارها من بين العاملات الكادحات اللواتي يزعم أنه “حاميهنّ” دون أن يوفّر لهنّ شيئا؟ بالطبع لا. إنّ المعروف عن الرئيسة الجديدة للحكومة أنها كانت ابنة “التجمع الدستوري” وعملت في صلب منظومة بن علي حتى الثورة. وكانت قبل تعيينها على رأس الحكومة تشرف على خطة لتنفيذ برامج البنك الدولي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والمعروف عنها أنّها من المدافعين عن خوصصة التعليم وهو ما يتماشى مع أهواء تلك المؤسسة المالية الدولية وغيرها من المؤسسات الشبيهة مثل صندوق النقد الدولي… وهنا نتوجه بالسؤال إلى الذين لا يرون في رئيسة الحكومة سوى جنسها، سوى كونها امرأة: هل أن السياسيات الليبرالية المتوحشة تتغيّر طبيعتها وتصبح “مقبولة” و”تقدمية” حين تنفّذها امرأة وتكون رجعية ومعادية للعمال والكادحين حين ينفذها رجل فقط؟

الخيارات الطبقية قبل الانتماء الجندري

إنّ أبجديات العمل السياسي الثوري تعلّمنا أنّ الخيارات الرجعية تبقى رجعية سواء نفذها الرجال أو النساء. وفي هذا السياق ألم يكن ربع برلمان بن علي من النساء في أشد فترات قمعه الشعب والحركة الديمقراطية مع العلم أنه فعل ذلك وقتها لتجميل نظامه الدكتاتوري وإظهاره بمظهر النظام “الحداثوي”، “التقدمي” لكسب دعم الدول الاستعمارية الغربية؟ أليس لحركة النهضة أكبر عدد من النساء النائبات منذ 2011؟ فهل صلح ذلك لتعزيز مكانة المرأة ونيل حقوقها وتحقيق المساواة التامة والفعلية بينها وبين الرجل؟ إنّ النساء لسن من طبقة واحدة وإنما هن ينتمين، شأنهن شأن الرجال، إلى طبقات وفئات اجتماعية مختلفة. كما أنهن ينتمين، شأنهن شأن الرجال، إلى نزعات فكرية وسياسية مختلفة بحكم اختلاف مصالحهن. ولذلك فكما أنّ الرجال ليسوا مدعوّين للزهو والفرح بتعيين رجل على رأس الحكومة دون معرفة خياراته والمصالح التي جاء لخدمتها فإنّ النساء أيضا وكل الذين يدعمون قضيتهن ليسوا مدعوّين للتهليل بتعيين امرأة على رأس الحكومة دون اعتبار السياق الذي جاء فيه هذا التعيين والبرامج والمصالح التي سيخدمها. 

إنّ نجلاء بودن هي في نهاية الأمر، وفقا للأمر 117 الذي عُيّنت بموجبه، سكرتيرة لدى قيس سعيد “الحاكم بأمره” ورئيس الوزراء الحقيقي والفعلي، سكرتيرة برتبة رئيسة حكومة وهمية في إطار انقلاب وإجراءات استثنائية تفتح الطريق نحو الحكم الفردي المطلق والاستبداد. وتتمثل مهمتها في تنفيذ سياسات “الحاكم بأمره” الرجعية. بعبارة أخرى هي، وفق الأمر 117، لا سياسة ولا اختيارات خاصة بها ولا سلطة قرار لها. وإلى ذلك كلّه فقد اختارها قيس سعيد دون استشارة أيّ طرف حتى من بين الأطراف المؤيدة له.  ومن هذا المنطلق فإنّ محاولة مقارنتها من حيث الشكل بمارغريت تاتشر أو أنديرا غاندي أو ببنازير بوتو أو أنجيلا مركل هو مجرد هراء لأنّ هؤلاء كنّ رئيسات أحزاب فازت بانتخابات عامة في ظل أنظمة سياسية برلمانية معلومة. وقد مارسن سلطة فعلية وكن صاحبات قرار مع العلم أنهن كرّسن سياسات رأسمالية متوحشة ومعادية للعمال والكادحين والشعوب في فترات حكمهن ولم يقع اختيارهن في مجتمعاتهن الذكورية (باكستان خاصة) احتفاء بكونهن نساء وإنما لقدراتهن على خدمة طبقة رأس المال المهيمنة على المجتمع. ناهيك أنهن لم يحسّنّ بشكل خاص أوضاع النساء في مجتمعاتهن بل إنّ أحزابهن المحافظة كانت معارضة لتحقيق مساواة تامة وفعلية بين الجنسين.

تكريم نساء تونس بتحقيق المساواة التامة

خلاصة القول إنّ تعيين السيدة نجلاء بودن لا يمثل تكريما لنساء تونس ولا انتصارا لقضيتهن التي تمثل المساواة التامة والفعلية عنوانا لها، بل تحايلا عليهن. إنّ مناهضة قيس سعيد لمبدأ المساواة ليست مسألة وهمية أو ادعاء باطلا كما يحاول الإيهام بذلك الكذّابون والطمّاعون والمدّاحون الجدد الذين لم يلتفت إليهم قيس سعيد حتى مجرد الالتفات سواء لاستشارتهم أو لمنحهم بعض فتات الحكم. إنّ موقف قيس سعيد من المساواة معلومة منذ حملته الانتخابية (انظر الحوار الذي أجرته معه صحيفة الشارع المغاربي بتاريخ 12 جوان/يونيو 2019). وأعادها على الأسماع يوم 13 أوت 2020، العيد الوطني للمرأة، حين عارض من أعلى منبر قصر قرطاج مبدأ المساواة في الميراث وعوّضه ديماغوجيا بمبدأ “العدل والإنصاف” معتمدا على الشريعة في تناقض تام مع مبدأ مدنية الدولية. كما أنّ قيس سعيد لم يتردد في نفس المناسبة في اعتبار الأسرة “فضاء خاصا” خارجا عن مسؤولية الدولة وبالتالي لا يخضع للقانون بما يشرع العنف وكل أشكال الاضطهاد ضد النساء.

إنّ من يريد تكريم نساء تونس تكريما حقيقيا عليه أولا وقبل كل شيء تمكينهن من كافّة حقوقهن وبالتالي تطهير كل القوانين من كافة مظاهر الميز وملاءمتها مع الدستور (الفصلان 21 و46) ومع كافة المعاهدات والاتفاقيات الدولية المناهضة للتّمييز والعنف ضد النساء. كما أنه مطالب بتوفير كل شروط الحياة المادية والمعنوية التي تحقق لهن المساواة التامة والفعلية مع الرجال في المجالات السياسية (التناصف…) والإدارية (مراكز التسيير…) علاوة على المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وما دمنا نتحدث عن رئاسة الحكومة فإنّ تكريم نساء تونس يكمن في تعيين إحداهن على رأس حكومة شرعية، على قاعدة برنامج وطني، ديمقراطي، شعبي، يحقق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني لا حكومة انقلاب على دستور ناضلت من أجله نساء تونس وفرضن فيه مبدأ المساواة.

وفي الأخير، أليس قيس سعيد اليوم هو الحاكم المطلق؟ ألم يمنح نفسه صلاحية إصدار المراسيم في كافة المجالات بما فيه مجال الأحوال الشخصية (انظر الفصل 5 من الأمر 117)؟ فما الذي يمنعه من إصدار المراسيم الضرورية لتحقيق المساواة بين نساء تونس ورجالها بما في ذلك في مجال الميراث؟ وما الذي يمنعه وهو الذي ما انفك يردد أنه نصير “العاملات الكادحات” في الريف خاصة، من تفعيل قانون عدد 51 الصادر عام 2019 الخاص بنقل العملة الفلاحيين الذي سنّه البرلمان بعد حادثة “السبّالة” من ولاية سيدي بوزيد التي راح ضحيتها أكثر من 13 عاملة فلاحية؟ وما الذي يمنعه أيضا من التفعيل الكامل والشامل للقانون 58 الخاص بتجريم العنف ضدّ النساء بما فيه في المجالين الاقتصادي والاجتماعي؟ لماذا لا يقرّ الآليات الضرورية لحماية النساء من العنف والتي لم تباشرها الحكومات المتعاقبة لأنها تتطلب تمويلات؟ ولماذا لا يصادق قيس سعيد على الاتفاقية الدولية عدد 190 الخاصة بتجريم العنف في عالم العمل والتي تصدّى إليها أرباب العمل في القطاعين العمومي والخاص الخ…

إنّ رئيس الجمهورية شعبوي ومحافظ ولذلك فنحن متأكدون أنّه لن يرفع كلّ هذه التحديات التي نوجهها إليه. وهي التحديات التي نوجهها إلى رئيسة الحكومة الجديدة أيضا. فهل هي أوّلا مقنعة بمبدأ المساواة؟ وهل هي ثانيا قادرة على فرض مطالب نساء تونس على رئيسها الذي يجمّع بين يديه كل السلطات؟ نحن لا نخال نجلاء بودن مقتنعة بالمساواة التامة والفعلية بين النساء والرجال إذ أننا لم نسمع بها يوما رفعت صوتها لفائدة هذا المبدأ أو للتشهير بأيّ شكل من أشكال اضطهاد النساء.  كما أنّ قبولها بأن تكون رئيسة حكومة بلا سلطة قرار لا يمكن أن يطمئن أحدا. ولكن لندع الأيام تؤكد ذلك ما دام بيننا من يصح عليهم/عليهن المثل القائل: “ما يعرفوه بقري كان بالكرشة…”.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة