المراسلة 33: فلننشئ سايغون واثنتين وثلاثا.. هذا هو شعارنا

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 19 تشرين الأول أكتوبر 2021

فيجاي براشاد

مالينا سليمان (أفغانستان)، فتاة في صندوق الثلج، 2013.

في يوم الأحد الموافق للخامس عشر من آب/ أغسطس، فر الرئيس الأفغاني أشرف غاني من بلاده إلى أوزبكستان، تاركاً خلفه  العاصمة كابول التي كانت قد سقطت بالفعل في أيدي قوات طالبان المتقدمة. أعلن الرئيس الأسبق حميد كرازي أنه شكل مجلساً تنسيقياً مع عبد الله عبد الله، رئيس لجنة المصالحة الوطنية، والقائد الجهادي قلب الدين حكمتيار. لقد دعا كرازي حركة طالبان إلى التحلي بالحذر عندما دخلت القصر الرئاسي في كابول وتولت رئاسة الدولة.

وطلب كل من كرزاي وعبد الله عبد الله وحكمتيار تشكيل حكومة وطنية. سوف يناسب هذا طالبان، لأنه سيسمح لها بالادعاء بأنها حكومة أفغانية وليست حكومة طالبان. لكن طالبان وزعيمها المولا بارادار المسؤولة الفعلية عن البلاد، مع وجود كرزاي وعبد الله عبد الله وحكمتيار كزخرفة للواجهة مصممة لاسترضاء القوى الخارجية الانتهازية.

شمسية حساني (أفغانستان)، كابوس، 2021.

يشكل دخول حركة طالبان إلى كابول هزيمة كبرى للولايات المتحدة الأمريكية. كان الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أعلن بعد أشهر قليلة من الحرب التي شنّتها بلاده ضد طالبان في 2001 أن “نظام طالبان شارف على الانتهاء”. بعد عشرين عاما، أصبح العكس واضحا الآن. لكن هزيمة الولايات المتحدة هذه – بعد إنفاق 2.261 تريليون دولار والتسبب في وفاة 241 ألف شخص على الأقل – هي عزاء ضعيف لشعب أفغانستان، الذي سيتعيّن عليه الآن مواجهة الواقع القاسي لحكم طالبان. لا شيء تقدميا يمكن العثور عليه في أقوال وأفعال طالبان على مدار ما يقرب من ثلاثين عاماً من تاريخها، وذلك منذ تأسيسها في باكستان عام 1994. كما لا يمكن العثور على أي شيء تقدمي في حرب العشرين عاماً التي شنتها الولايات المتحدة ضد الشعب الأفغاني.

م. مهدي حامد (أفغانستان)، كابوس، 2015.

نشرت المجلة الكوبية تراي كونتيننتال (القارات الثلاث) في 16 أبريل/ نيسان مقالاً لتشي غيفارا بعنوان “لننشئ فيتنام واثنتين وثلاثا: هذا هو شعارنا”، جادل فيه بأن تخفيف الضغط على الشعب الفيتنامي يمكن من خلال شن حرب العصابات في أماكن أخرى. بعد ثماني سنوات، فرّت الولايات المتحدة من فيتنام، إذ استقل المسؤولون الأمريكيون وحلفاؤهم الفيتناميون طائرات هليكوبتر من سطح مبنى وكالة المخابرات المركزية في سايغون.

لقد جاءت هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام خلال سلسلة من الهزائم التي لحقت بالإمبريالية: فقد هزمت البرتغال قبل سنة في أنغولا وغينيا بيساو وموزمبيق؛ وأسقط العمال والطلاب النظام الديكتاتوري بتايلاند، ما فتح الباب أمام مسار ثوري امتد ثلاث سنوات وتوّج بالانتفاضة الطلابية لسنة 1976. وتولى الشيوعيون السلطة في أفغانستان خلال ثورة ساور في أبريل 1978؛ وبدأ الشعب الإيراني عملية استمرت لمدة عام ضد شاه إيران، الدكتاتور المدعوم من الولايات المتحدة، أدت إلى ثورة يناير 1979؛ وقامت حركة الجوهرة الجديدة الاشتراكية بثورة في جزيرة غرينادا الصغيرة. وفي يونيو 1979، انتقل الساندينيون إلى ماناغوا (نيكاراغوا) وأطاحوا بنظام أناستاسيو سوموزا المدعوم من الولايات المتحدة. كانت هذه كلها من بين العديد من السايغونات والعديد من الهزائم التي طالت الإمبريالية، كما كانت انتصارات عديدة – بطريقة أو بأخرى – للتحرر الوطني.

 وجاءت كل هذه التطورات بتقاليد وإيقاعات سياسية مختلفة، كانت أقواها الثورة الجماهيرية في إيران، رغم أنها لم تسفر عن دينامية اشتراكية بل ديمقراطية دينية. وتمت مواجهة هذا كله بغضب الولايات المتحدة وحلفائها، الذين لم يسمحوا لهذه التجارب – ومعظمها اشتراكية بطبيعتها – أن تنموا. فقد تم دعم الديكتاتورية العسكرية في تايلاند في 1976، وبدأت الحروب بالوكالة في أفغانستان ونيكاراغوا، فيما دُفع للعراق لغزو إيران في سبتمبر/أيلول 1980. لقد حاولت حكومة الولايات المتحدة بكل الوسائل إنكار السيادة على هذه البلدان وإعادتها إلى التبعية الكاملة.

أعقبت ذلك حالة من الفوضى صاحبتها مشكلتان: أزمة الديون والحروب بالوكالة. فبعد أن أقرت دول عدم الانحياز قرار النظام الاقتصادي الدولي الجديد (NIEO) في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، وجدت نفسها محاصرة من قبل المؤسسات المالية التي يهيمن عليها الغرب، بما في ذلك صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية. وجرّت هذه المؤسسات دول عدم الانحياز إلى أزمة مالية عميقة، فقد تخلفت المكسيك عن سداد ديونها عام 1982، وأطلقت أزمة ديون العالم الثالث المستمرة. بالإضافة إلى ذلك، وبعد انتصار قوات التحرر الوطنية في السبعينيات، بدأت سلسلة جديدة من الحروب بالوكالة وعمليات تغيير الأنظمة لزعزعة استقرار سياسات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على مدى جيلين.

إننا لم نخرج بعد من الدمار الذي سببته السياسة الغربية في السبعينيات.

تحدد القسوة الغربية تجاه أفغانستان طبيعة الثورة المضادة والتدخل الليبرالي. لقد قرر الرئيس الأمريكي جيمي كارتر وضع موارد هائلة لدعم  أسوأ القوى  السياسة الأفغانية والعمل مع باكستان والمملكة العربية السعودية على تدمير جمهورية أفغانستان الديمقراطية، التي استمرت من 1978 إلى 1992 (أعيدت تسميتها جمهورية أفغانستان عام 1987). 

بعد سنوات من سقوط جمهورية أفغانستان، التقيت بأناهيتا راتبزاد التي كانت وزيرة في حكومة جمهورية أفغانستان الديمقراطية الأولى، لسؤالها عن تلك السنوات الأولى؛ قالت لي: “لقد واجهنا تحديات وخيمة من داخل البلاد – من أولئك الذين يتبنون وجهة نظر اجتماعية رجعية، ومن خارج البلاد – من أعدائنا في الولايات المتحدة وباكستان. لقد علمنا بعد شهور من تولينا السلطة عام 1978 أن أعداءنا قد اجتمعوا لإضعافنا ومنع وصول الديمقراطية والاشتراكية إلى أفغانستان”. انضمت إلى راتبزاد قيادات مهمة أخرى مثل سلطانة عميد، وثريا، وروحفزا كاميا، وفيروزا، وديلارا مارك، والبروفيسور ر. س. صديقي، وفوجية شهسواري، والدكتورة عزيزة، وشيرين أفضل، وعلامة طولقون – إنها أسماء منسية منذ زمن طويل.

 لقد كانت راتبزاد من كتبت في مجلة كابول نيو تايمز في العام 1978 أن “الامتيازات التي يجب أن تتمتع بها المرأة كحق هي: التعليم المتساوي والأمن الوظيفي، والخدمات الصحية، ووقت الفراغ لتنشئة جيل سليم لبناء مستقبل البلاد …أصبح تعليم المرأة وتنويرها الآن موضع اهتمام حكومي وثيق”. لقد ضاع الآن أمل عام 1978.

لا يجب أن يكون  التشاؤم مسؤولية طالبان وحدها، بل أيضاً مسؤولية أولئك – مثل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وألمانيا وباكستان – الذين مولوا ودعموا الفاشيين الثيوقراطيين مثل طالبان. في أعقاب الحرب الأمريكية التي بدأت عام 2001، دُفِعت نساء مثل أناهيتا راتبزاد تحت البساط. لقد ناسب الولايات المتحدة أن تُرى النساء الأفغانيات على أنهن غير قادرات على مساعدة أنفسهن، وبالتالي يحتجن إلى قصف جوي أمريكي وتسليم أمريكي استثنائي إلى غوانتانامو؛ كما ناسبها إنكار ارتباطها النشط بأسوأ الثيوقراطيين وكارهي النساء (أشخاص مثل حكمتيار الذين لا يختلفون عن طالبان). 

لطيف إشراق (أفغانستان)، فرخندة، 2017.

لقد مولت الولايات المتحدة المجاهدين، وقوضت جمهورية أفغانستان الديمقراطية، وجذبت التدخل السوفيتي المتردد عبر آمو داريا، ثم زادت الضغط على كل من السوفييت وجمهورية أفغانستان من خلال جعل القوات الأفغانية المعادية للثورة والدكتاتورية العسكرية الباكستانية بيادق في صراع  ضد الاتحاد السوفياتي. أدى انسحاب الاتحاد السوفيتي وانهيار جمهورية أفغانستان الديمقراطية إلى سيناريو أسوأ تمثل في حرب أهلية دموية بزغت منها حركة طالبان. لقد استمرت الحرب التي شنتها الولايات المتحدة ضد طالبان 20 عاماً، لكنها هُزمت رغم تفوق تقنياتها العسكرية. 

تخيلوا لو أن الولايات المتحدة لم تدعم المجاهدين، ولو سُمح للشعب الأفغاني بالتمتع بإمكانية مستقبل اشتركي، لكان من الممكن حينها أن يكون الصراع داخلياً ضمن تعقيدات أفغانسات لكنه كان سيؤدي بالتأكيد إلى شيء أفضل مما لدينا الآن: عودة طالبان، جلد النساء في الأماكن العامة، وإنفاذ أسوأ القوانين الاجتماعية. تخيلوا ذلك. 

حامد حسن زاده (أفغانستان)، إبادة جماعية، 2012.

إن هزيمة القوة الأمريكية لا تأتي بالضرورة هذه الأيام مع إمكانية ممارسة السيادة والنهوض بأجندة اشتراكية، بل إنها تأتي وسط الفوضى والمعاناة. إن هاييتي شأنها شأن أفغانستان كجزء من مخلّفات التدخل الأمريكي، فهي معذبة بانقلابين أمريكيين واحتلال حياتها السياسية والاقتصادية، والآن بزلزال آخر. تُذكرنا الخسارة في أفغانستان أيضاً بالهزيمة في العراق في 2011، فقد واجه هذان البلدان قوة عسكرية أمريكية ضارية لكنهما لم يخضعا.

إن هذا يوضح كلاً من غضب آلة الحرب الأمريكية القادرة على هدم البلدان وضعف القوة الأمريكية غير القادرة على تشكيل العالم على صورتها. أقامت أفغانستان والعراق مشاريع دولة على مدى مئات السنين، ودمرتهما الولايات المتحدة في لمح البصر. 

لقد حاول آخر رئيس يساري لأفغانستان محمد نجيب الله تدشين سياسة المصالحة الوطنية في الثمانينيات. كتب لعائلته في 1995: “لدى أفغانستان اليوم عدة حكومات، كل واحدة أنشأتها قوى إقليمية مختلفة، حتى كابول مقسمة إلى ممالك صغيرة…ما لم توافق جميع الأطراف [القوى الإقليمية والعالمية] على الجلوس إلى طاولة واحدة وترك خلافاتها جانباً للتوصل إلى إجماع حقيقي على عدم التدخل في أفغانستان والالتزام باتفاقها، سيستمر الصراع”. عندما سيطرت طالبان على كابول عام 1996، ألقت القبض على الرئيس نجيب الله وقتلته خارج مجمع الأمم المتحدة. لقد أخبرتني ابنته هيلا قبل أيام قليلة من سيطرة طالبان على كابول عن آمالها بتبني سياسة والدها اليوم. 

إن مناشدة كرازي تنطوي على دعوات من هذا القبيل، لكن من غير المحتمل أن تتبناها طالبان بصدق. 

ماهويش شيشتي (باكستان)، حصاد، 2015.

ما الذي سيدفع طالبان إلى الاعتدال؟ ربما الضغط من جيرانها – بما في ذلك الصين – الذين لديهم مصالح على المحك في جعل أفغانستان مستقرة. في أواخر يوليو/ تموز، التقى وزير الخارجية الصيني وانغ يي بالقائد الطالباني باردار في تيانجين، واتفقا على أن سياسة الولايات المتحدة فشلت. لكن الصينيين حثوا بارادار على أن يكون براغماتياً: التوقف عن دعم الإرهاب ودمج أفغانستان في مبادرة الحزام والطريق. في الوقت الحاضر، إن هذا الآن هو الأمل الوحيد، لكن حتى هذا مسألة هشة وغير مضمونة.  

في يوليو/تموز 2020، توفي الوزير السابق في حكومة جمهورية أفغانستان الديمقراطية والشاعر سليمان لايق متأثرا بجراحه التي أصيب بها في تفجير لطالبان في كابول العام السابق. تصف قصيدته لايق “العواطف الأبدية” (1995) التوق إلى هذا العالم المختلف الذي عمل هو والعديد من الآخرين على بنائه، وهو مشروع تم طمسه من خلال التدخلات الأمريكية:

صوت الحب

يفيض من القلوب

بركاني ومخمور

…..

مرت سنوات

ومازالت تلك الرغبات 

كالريح في الثلج

أو كالأمواج فوق المياه

صرخات النساء النواحات

الأفغان سعداء إلى حد كبير برؤية رحيل الاحتلال الأمريكي، لتكون سايغون أخرى ضمن سلسلة طويلة. لكن هذا ليس نصراً للإنسانية. لن يكون من السهل على أفغانستان الخروج من هذه العقود المرعبة،  لكن مازال بالإمكان سماع الرغبة في القيام بذلك.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة