وفجأةً لم يعد هناك وجود للإمبراطورية (عدد 21. 2022)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية/ مدار: 01 يوليوز/ تموز 2022

فيجاي براشاد*

تنفي الإمبراطورية وجودها بنفسها، فإنها ليست موجودةً كإمبراطورية، بل باعتبارها مجرد إحسان من خلال مهمتها المتمثلة في نشر حقوق الإنسان والتنمية المستدامة في جميع أنحاء العالم. لكن رغم ذلك فإن هذا المنظور لم يعد يعني شيئا في هافانا ولا كاراكاس، حيث أصبحت “حقوق الإنسان” تعني تغيير النظام، كما أصبحت “التنمية المستدامة” التي يتم الترويج لها تعني خنق الشعب من خلال العقوبات والحصار. إن الوضوح يأتي من خلال وجهة نظر ضحايا الإمبراطورية.

من المقرر أن يستضيف الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قمة الأمريكيتين في يونيو/ حزيران، حيث يأمل تعميق هيمنة واشنطن على الأمريكيتين، في ظل الإدراك المسبق لحكومة الولايات المتحدة أن مشروعها للهيمنة يواجه أزمة وجودية ناجمة عن ضعف النظام السياسي والاقتصادي الأمريكي، بسبب محدودية الأموال المتاحة للاستثمار داخل بلدها، ناهيك عن بقية العالم. في الوقت نفسه، تواجه الهيمنة الأمريكية تحدياً خطيراً من الجانب الصيني، بحيث ينظر إلى مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين، وتشمل أجزاء كبيرةً من أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، على أنها بديل لأجندة التقشف الخاصة بصندوق النقد الدولي.

بدلاً من العمل جنباً إلى جنب مع الاستثمارات الصينية، تحرص الولايات الولايات المتحدة على استخدام مختلف الوسائل في سبيل منع الصين من التعامل مع الدول في الأمريكيتين، لاسيما أن واشنطن أعادت تنشيط مبدأ مونرو على طول هذا المحور، تلك السياسة التي تقوم على اعتبار أن القارتين الأمريكيتين تقعان ضمن دائرة هيمنة الولايات المتحدة و”مجال نفوذها”، بحيث تتعامل معهما على أنهما “باحتها الخلفية” (رغم أن الرئيس بايدن حاول تلطيف التعبير من خلال حديثه عن أن المنطقة تعتبر بمثابة “الباحة الأمامية” للولايات المتحدة).

لقد طورنا جنباً إلى جنب مع القمة العالمية للشعوب إنذاراً أحمر يتعلق بأداتين من أدوات القوة الأمريكية – وهما منظمة الدول الأمريكية وقمة الأمريكيتين – بالإضافة إلى التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة في طريق محاولاتها فرض هيمنتها في المنطقة. يمكنكم الاطلاع على الإنذار الأحمر أدناه أيضاً من خلال ملف الـPDF.. يرجى قراءته ومناقشته ومشاركته.

ما هي منظمة الدول الأمريكية؟

تأسست منظمة الدول الأمريكية (OAS) في بوغوتا، بكولومبيا، عام 1948 من قبل الولايات المتحدة وحلفائها. ورغم أن ميثاق الدول الأمريكية يستحضر خطاب التعددية والتعاون، إلا أنه تم استخدام المنظمة كأداة لمحاربة الشيوعية في هذا الجزء من الكرة الأرضية، مع فرض أجندة أمريكية على دول الأمريكيتين. توفر الولايات المتحدة ما يقرب من نصف الأموال المخصصة لمنظمة الدول الأمريكية و80% من الأموال المخصصة للجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان (IACHR)، وهي جهاز مستقل تابع لمنظمة الدول الأمريكية. كما تجدر الإشارة إلى أنه – على الرغم من توفير غالبية ميزانيتها – لم تصادق الولايات المتحدة على أي من معاهدات لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان.

كشفت منظمة الدول الأمريكية عن وجهها الحقيقي بعد الثورة الكوبية (1959)، بحيث تم عام 1962، وأثناء اجتماع تم عقده في بونتا ديل إستي (أوروغواي)، تقرير طرد كوبا – العضو المؤسس لمنظمة الدول الأمريكية – من المنظمة. وجاء نص البيان الخاص بالطرد حاملاً رسالةً مفادها أن “مبادئ الشيوعية تتعارض مع مبادئ نظام الدول الأمريكية”، وهو الأمر الذي رد عليه فيدل كاسترو من خلال إطلاق تسمية “وزارة مستعمرات الولايات المتحدة” على منظمة الدول الأمريكية.

 وقد أنشأت منظمة الدول الأمريكية عام 1962 اللجنة الاستشارية الخاصة للأمن ضد العمل الهدّام للشيوعية الدولية، وذلك بهدف السماح للنخب في الأمريكتين – بقيادة الولايات المتحدة – باستخدام كل الوسائل الممكنة ضد الحركات الشعبية للطبقة العاملة والفلاحين. لقد منحت منظمة الدول الأمريكية غطاءً دبلوماسياً وسياسياً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) نظير مشاركتها في الإطاحة بالحكومات التي تحاول ممارسة سيادتها المشروعة، تلك السيادة التي يزعم ميثاق منظمة الدول الأمريكية ضمانها. لقد استمرت هذه الممارسات، بدءاً من طرد منظمة الدول الأمريكية لكوبا عام 1962، إلى تنظيم انقلابات في كل من هندوراس (2009) وبوليفيا (2019)، ووصولاً إلى المحاولات المتكررة للإطاحة بحكومتي نيكاراغوا وفنزويلا والتدخل المستمر في هايتي.

وقد عملت منظمة الدول الأمريكية منذ عام 1962 علناً وجنباً إلى جنب مع حكومة الولايات المتحدة من أجل فرض عقوبات على الدول دون صدور قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ما يجعل من هذه العقوبات غير قانونية؛ ولذلك فقد انتهكت منظمة الدول الأمريكية بانتظام “مبدأ عدم التدخل” المنصوص عليه في ميثاقها، الذي يحظر “القوة المسلحة، بالإضافة إلى أي شكل آخر من أشكال التدخل أو محاولة التهديد ضد شخصية الدولة أو ضد أسسها السياسية والاقتصادية والثقافية” (الفصل 1، المادة 2، القسم ب، والفصل الرابع، المادة 19).

دييغو ريفيرا (المكسيك)، تحرير القصيدة. 1931.

ما هو مجتمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (CELAC)؟

دشنت فنزويلا بقيادة الرئيس هوغو تشافيز في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين العديد من المؤسسات الإقليمية الجديدة خارج سيطرة الولايات المتحدة، وتمثلت الثمار الأولى لهذه الخطوة في الإعلان عن تشكيل ثلاث منصات رئيسية خلال الفترة نفسها: 1) التحالف البوليفاري لشعوب أمريكا (ALBA) عام 2004؛ 2) اتحاد دول أمريكا الجنوبية (UNASUR) عام 2004؛ 3) مجتمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (CELAC) عام 2010. وقامت هذه المنصات بمجموعة من الاتصالات الحكومية على المستوى الدولي، بما في ذلك مؤتمرات قمة حول المسائل ذات الأهمية الإقليمية، بالإضافة إلى الإشراف على العديد من المؤسسات الفنية والتقنية من أجل تعزيز التجارة والتفاعلات الثقافية العابرة للحدود. وفي ظل كل هذه التحركات التي تقوم بها هذه المنصات فإنها في المقابل واجهت عديد التهديدات من قبل الولايات المتحدة، لاسيما أن حكومات المنطقة، وبسبب التأرجح السياسي التي تعاني منه، أصبحت إما أكثر التزاماً بهذه المنصات (كلما تركت لتقرر وضعها) أو أقل انخراطاً في التجربة (كلما كانت تابعة للولايات المتحدة).

لقد شهدت القمة السادسة لمجتمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (CELAC) التي أقيمت في ميكسيكو سيتي عام 2021 اقتراح الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور بأن يتم حل منظمة الدول الأمريكية (OAS)، وأن تساعد القمة في المقابل في بناء منظمة متعددة الأطراف على مستوى الاتحاد الأوروبي، يكون دورها العمل على حل النزاعات الإقليمية وبناء الشراكات التجارية وتعزيز وحدة الأمريكيتين.

تيسا مارس (هايتي) ، بدون عنوان ، الصلاة من أجل سلسلة التأشيرات ، 2019.

ما هي قمة الأمريكتين؟

حاولت الولايات المتحدة مع سقوط اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السيطرة على العالم من خلال استخدام قوتها العسكرية لتأديب أي دولة لا تقبل هيمنتها (مثلما حدث في بنما عام 1989 والعراق في 1991)، معتمدة في ذلك على منظمة التجارة العالمية التي تأسست عام 1994 من أجل إضفاء الطابع المؤسسي على قوتها الاقتصادية. ودعت الولايات المتحدة عام 1994 الدول الأعضاء في منظمة الدول الأمريكية إلى حضور القمة الأولى للأمريكتين في ميامي، ليتم بعد ذلك تكليف المنظمة بإدارة نفسها، ومنذ ذلك الحين تنعقد القمة كل بضع سنوات، بقصد “مناقشة القضايا السياسية المشتركة والتأكيد على القيم المشتركة والالتزام بالإجراءات التي تم تنسيقها على المستويين الوطني والإقليمي”.

 ورغم النفوذ الموجود لديها على منظمة الدول الأمريكية، إلا أنه لم تكن للولايات المتحدة أبداً القدرة على فرض أجندتها بشكل كامل في هذه القمم. وعرفت كل من القمة الثالثة في مدينة كيبيك (2001) والقمة الرابعة في مار ديل بلاتا (2005) احتجاجات مضادة كبيرة قادتها العديد من الحركات الشعبية. ففي مار ديل بلاتا، قاد الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز مظاهرة حاشدة ترتب عنها انهيار اتفاقية منطقة التجارة الحرة بين الأمريكتين التي حاولت الولايات المتحدة فرضها. وتحولت القمتان الخامسة والسادسة التي أقيمتا في بورت أوف سبين (2009) وكارتاخينا (2012) على التوالي إلى ساحة لمعركة النقاش حول حصار الولايات المتحدة المفروض على كوبا وطردها من منظمة الدول الأمريكية. وبسبب الضغط الهائل الذي مارسته الدول الأعضاء في منظمة الدول الأمريكية، تمت دعوة كوبا إلى القمتين السابعة ببنما (2015) والثامنة بمدينة ليما (2018)، وذلك بعكس ما كانت ترغبه الولايات المتحدة.

ومع ذلك، لم تدع الولايات المتحدة أيّاً من كوبا أو نيكاراغوا أو فنزويلا لحضور القمة التاسعة في لوس أنجليس في يونيو/ حزيران 2022، وفي المقابل صرحت العديد من البلدان – بما في ذلك بوليفيا والمكسيك –بأنها لن تحضر الاجتماع إلا إذا كان ممثلاً بالبلدان الخمسة والثلاثين التي تشكل معاً القارتين الأمريكيتين. وشهدت الفترة من 8 إلى 10 يونيو/ حزيران عقد مجموعة من المنظمات التقدمية قمة شعبية في خطوة غرضها مواجهة قمة الدول الأمريكية ورفع أصوات جميع شعوب الأمريكتين عالياً.

روفينو تامايو (المكسيك)، حيوانات، 1941.

نشر الشاعر ديريك والكوت (1930-2017) عام 2010 قصيدته “الإمبراطورية المفقودة”، وذلك احتفالاً بمنطقة البحر الكاريبي وجزيرة سانت لوسيا، وخصوصاً في ظل تراجع الإمبريالية البريطانية. لقد نشأ والكوت في ظل الاختناق الاقتصادي والثقافي وبشاعة الشعور بالدونية وبؤس الفقر الذي فرضه الاستعمار. بعد سنوات عديدة،  كتب والكوت وهو يستحضر ابتهاجه نتيجة تراجع الحكم البريطاني:

وفجأةً لم يعد هناك وجود للإمبراطورية.

كانت انتصاراتها هواء، وسيطرتها تراباً:

بورما، كندا، مصر، أفريقيا، الهند والسودان.

الخريطة التي تسربت لطختها على قميص تلميذ

مثل حبر أحمر على ورق جاف، معارك وحصار طويل.

المراكب الشراعية والقوارب، محطات التلال، البؤر الاستيطانية، الأعلام

ترفرف في الغسق، وحامياتها الذهبية 

اندثرت مع بروز الشمس، آخر وميض على صخرة عظيمة…

تغرب شمس الإمبريالية بينما نخرج ببطء ودقة إلى عالم يسعى نحو مساواة ذات دلالات، بدلاً من التبعية. يكتب والكوت عن سانت لوسيا: “هذا المكان الصغير لا ينتج سوى الجمال”. سيكون هذا صحيحاً بالنسبة للعالم بأسره إذا تمكنا من تجاوز تاريخنا الطويل والحديث من المعارك والحصارات والسفن الحربية والأسلحة النووية.

* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 26 أيار/ مايو 2022.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة