من أمريكا اللاتينية الجريحة يأتي المطلب بوضع حد للحرب اللاعقلانية على المخدرات: المراسلة التاسعة والثلاثون (2022)

مشاركة المقال

مدار : 03 يونيو/ حزيران 2023

في الأسابيع الأخيرة من شهر أيلول/سبتمبر من كل عام يجتمع زعماء العالم في مدينة نيويورك للتحدث من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة. عادة ما يمكن توقع الخطب مسبقاً، فلا نسمع سوى كلمات باهته عن القيم التي لا يتم تنفيذها أو تعلو الأصوات العدوانية التي تهدد بالحرب من داخل مؤسسة بنيت أساساً لمنع الحرب.

<أوسكار مونيوز (كولومبيا)، Línea del destino (“خط القدر” “، 2006.>

ومع ذلك يسطع خطاب بين الحين والآخر مطلقاً صوتاً من القاعة ليتردد صداه في جميع أنحاء العالم بصدق ووضوح. وهذا العام، كان ذلك الصوت البارز هو صوت الرئيس الكولومبي الذي تم تنصيبه مؤخرًا، غوستافو بيترو، والذي كثفت ملاحظاته الموجزة بدقة شاعرية المشاكل في عالمنا والأزمات المتتالية للضائقة الاجتماعية، والإدمان على المال والسلطة، والكارثة المناخية والدمار البيئي. لقد قال الرئيس بترو: “حان وقت السلام. نحن في حالة حرب مع الكوكب. بدون سلام مع الكوكب لن يكون هناك سلام بين الأمم. بدون العدالة الاجتماعية لا يوجد سلم اجتماعي”.

<هيربيرتو كوغولو (كولومبيا)، كرنفال مجالس كارتاخينا ( Carnival Los Vabildos de Cartagena)، 1999>

عانت كولومبيا من العنف منذ انتزاعها استقلالها عن إسبانيا عام 1810. لقد نبع هذا العنف من النخب الكولومبية، التي أدت رغبتها النهمة في الثروة إلى الإفقار الكامل للشعب وفشل الدولة في تطوير أي شكل من الليبرالية. لقد توّجت عقود من العمل السياسي لبناء ثقة الجماهير في كولومبيا بدورة من الاحتجاجات بدأت عام 2019، وأدت إلى فوز بترو الانتخابي. تعهدت حكومة يسار الوسط الجديدة ببناء مؤسسات ديمقراطية اجتماعية في كولومبيا، والقضاء على ثقافة العنف في البلاد. ورغم أن الجيش الكولومبي، مثل أي قوات مسلحة في جميع أنحاء العالم، يستعد للحرب، أخبرهم الرئيس بترو في أغسطس 2022 بأنه يجب عليهم الآن “الاستعداد للسلام”، ويجب أن يصبحوا “جيش سلام”.

عند التفكير في العنف في بلد مثل كولومبيا هناك رغبة في التركيز على المخدرات، وخاصة الكوكايين. فغالبًا ما يُقال إن العنف هو نتاج تجارة الكوكايين غير المشروعة، لكن هذا تقييم غير تاريخي، فقد شهدت كولومبيا إراقة دماء مروعة قبل فترة طويلة من زيادة شعبية الكوكايين المعالج بشكل كبير منذ الستينيات فصاعدًا. استخدمت النخبة في البلاد القتل لمنع أي إضعاف لسلطتها، بما في ذلك اغتيال خورخي غايتان عام 1948، عمدة العاصمة الكولومبية بوغوتا السابق، الذي قاد اغتياله إلى فترة تعرف باسم La veolencia (“العنف”). واجه السياسيون الليبراليون والمسلحون الشيوعيون بنادق الجيش والشرطة الكولومبيين، وهما ذراع الكتلة الجرانيتية للسلطة المدعومة من الولايات المتحدة، التي استخدمت كولومبيا لتوسيع نفوذها إلى أمريكا الجنوبية. وتم استخدام أوراق التين بطرق مختلفة لتغطية عورات طموح النخبة الكولومبية وداعميها في واشنطن؛ وفي التسعينيات، كان أحدها الحرب على المخدرات.

<إينريكي غارو أراوخو (كولومبيا)، فطور في فلورنسا، 1964>

إن كل التقارير – سواء الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أو وكالة مكافحة المخدرات التابعة للحكومة الأمريكية – تشير إلى أن أكبر عدد من مستهلكي المخدرات غير المشروعة (القنب والمواد الأفيونية والكوكايين) هم في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. وأظهرت دراسة حديثة للأمم المتحدة أن “تعاطي الكوكايين في الولايات المتحدة يتغير ويزداد بعد عام 2013، مع بعض الاستقرار عام 2019”. إن إستراتيجية الحرب على المخدرات التي أطلقتها الولايات المتحدة والدول الغربية كانت ذات شقين في التعامل مع أزمة المخدرات: أولاً، تجريمها تجارة وترويج المخدرات في الدول الغربية، وثانيًا شنها حرباً ضد الفلاحين الذين ينتجون المواد الخام لهذه المخدرات في بلدان مثل كولومبيا.

ففي الولايات المتحدة مثلاً يتم القبض على ما يقرب من مليوني شخص – أغلبهم من السود واللاتينيين- في مجمع السجون المدار من شركات خاصة، مع وجود أربعة مائة ألف منهم في السجن أو تحت المراقبة لارتكابهم جرائم مخدرات غير عنيفة (معظمها كتجار صغار في إمبراطورية المخدرات المربحة). يستمر انهيار فرص العمل للشباب في مناطق الطبقة العاملة وقابلية الأجور من اقتصاد المخدرات في جذب الموظفين ذوي المستوى المنخفض في سلسلة تجارة المخدرات العالمية، على الرغم من مخاطر هذه المهنة. لقد كان للحرب على المخدرات تأثير ضئيل على خط إمداد المخدرات، وهذا هو السبب في أن العديد من البلدان بدأت الآن في إلغاء تجريم حيازة المخدرات وتعاطي المخدرات (خاصة القنب).

ديبورا أرانغو (كولومبيا)، بينيلا الحمراء، 1957.>

إن تعنت النخبة الكولومبية – المدعومة من قبل حكومة الولايات المتحدة – الذي منع تشكل أي فضاء ديمقراطي في البلاد، قد دفع اليسار إلى خوض الكفاح المسلح عام 1964، ثم تكررت العودة إلى السلاح عندما سدت النخبة المسار الديمقراطي في التسعينيات. لقد سحق الجيش والشرطة الكولومبيان أي معارضة في البلاد باسم الحرب ضد اليسار المسلح، وكذلك باسم الحرب على المخدرات. على الرغم من وجود أدلة على الروابط المالية والسياسية بين النخبة الكولومبية والجماعات شبه العسكرية وكارتيلات المخدرات، بدأت حكومة الولايات المتحدة خطة كولومبيا عام 1999 لتحويل 12 مليار دولار إلى الجيش الكولومبي لتعميق هذه الحرب (عام 2006، كشف بترو حينما كان عضواً في مجلس الشيوخ عن العلاقة بين هذه القوى الشيطانية التي تعرضت لعائلته بالتهديد).

ألقت القوات المسلحة الكولومبية كجزء من هذه الحرب السلاح الكيميائي الرهيب “الغليفوسات” على الفلاحين (عام 2015، أفادت منظمة الصحة العالمية بأن هذه المادة الكيميائية “ربما تكون مسرطنة للإنسان”، وعام 2017، قضت المحكمة الدستورية الكولومبية بأنه يجب تقييد استخدامها). وعام 2020، تم تقديم التقييم التالي في مجلةHarvard International Review: “بدلاً من تقليل إنتاج الكوكايين، تسببت خطة كولومبيا في الواقع في تحول إنتاج الكوكايين ونقله إلى مناطق أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، أدت العسكرة في الحرب على المخدرات إلى زيادة العنف في البلاد. هذا بالضبط ما قاله الرئيس بيترو للعالم في الأمم المتحدة”.

<ساندرا فاسكيز دي لا هورا (تشيلي)، الرياح (Los Vientos)، 2016.>

يشير أحدث تقرير لإدارة مكافحة المخدرات إلى أن تعاطي الكوكايين في الولايات المتحدة لم ينقص، وإلى أن “الوفيات الناجمة عن التسمم بالعقاقير التي تحتوي على الكوكايين تزداد سنوياً منذ عام 2013”. وتركز سياسة مكافحة المخدرات الأمريكية على إنفاذ القانون، وتهدف فقط إلى تقليل توافر الكوكايين محليًا. سوف تنفق واشنطن 45٪ من ميزانيتها الخاصة بالمخدرات على إنفاذ القانون، و49٪ على علاج مدمني المخدرات، و6٪ فقط على الوقاية. هنا يتكشف أمامنا غياب التركيز على الوقاية، فبدلاً من معالجة أزمة المخدرات من جانب الطلب (الاستهلاك)، تتظاهر الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى بأن المشكلة تكمن في جانب العرض (الإنتاج)، ويمكن معالجتها باستخدام القوة العسكرية ضد تجار المخدرات الصغار والفلاحين الذين يزرعون نبات الكوكا. حاولت صرخة بترو النابعة من صميم القلب في الأمم المتحدة لفت الانتباه إلى الأسباب الجذرية لأزمة المخدرات:

وفقا للقوة اللاعقلانية للعالم فإن السوق المدمر ليس هو المسؤول؛ بل يقع اللوم على الغابة ومن يعيشون فيها. أصبحت الحسابات المصرفية بلا سقف؛ الأموال التي يملكها أكثر الأشخاص نفوذاً على وجه الأرض لن يتمكنوا حتى من إنفاقها على مدار قرون. إن الوجود الأجوف الناتج عن زيف المنافسة مليء بالضوضاء والمخدرات. الإدمان على المال واقتناء السلع له وجه آخر: إدمان المخدرات للأشخاص الذين يخسرون المنافسة في السباق المزيف الذي أصبحت عليه البشرية. لا يتم علاج مرض الوحدة عن طريق [حقن] الغليفوسات في الغابات؛ الغابة ليست مسؤولة. اللوم هو مجتمعكم الذي يتم توجيهه نحو الاستهلاك اللامتناهي، من خلال الخلط الغبي بين الاستهلاك والسعادة الذي يكدس المال في جيوب المتنفذين.

كما قال بيترو إن الحرب على المخدرات هي حرب على الفلاحين الكولومبيين وحرب على الفقراء غير الآمنين في الدول الغربية. وزاد: “إننا لا نريد هذه الحرب. وبدلاً من ذلك، نحن بحاجة إلى النضال من أجل بناء مجتمع مسالم لا يستنزف المعنى من قلوب الناس الذين يتم التعامل معهم على أنهم فائض عن المجتمع”.

<فرناندو بوتيرو (كولومبيا) ، لا كالي (“الشارع”) ، 2013.>

كان بيترو في شبابه جزءًا من حركة حرب العصابات M-19، وهي إحدى المنظمات التي حاولت كسر الطوق الذي كانت تضربه النخب الكولومبية حول عنق ديمقراطية في البلاد؛ وكانت من ضمن رفاقه الشاعرة ماريا مرسيدس كارانزا (1945-2003)، التي كتبت بحزن عن العنف الذي تعرضت له بلادها في كتابها Hola، Soledad (“مرحبًا ، العزلة”) (1987) ، الذي عبر عن الخراب في قصيدتها ” La Patria ‘(“الوطن”):

كل ما في هذا البيت خراب،

حتى العناق والموسيقى خراب،

القدر والضحكات في كل فجر خراب

والدموع والصمت والأحلام.

تُشَرّع النوافذ على مشاهد الدمار،

من لحم ورماد على جوه الناس،

تندمج الكلمات مع الخوف في أفواههم.

في هذا المنزل، دُفننا جميعًا أحياء.

أنهت كارانزا حياتها بنفسها عندما اجتاحت نيران الجحيم كولومبيا.

لقد أدى اتفاق السلام عام 2016، ودورة الاحتجاجات من عام 2019، والآن انتخاب بترو وفرانسيا ماركيز عام 2022، إلى إزالة الرماد عن وجه الشعب الكولومبي ومنحه فرصة لمحاولة إعادة بناء البلاد. إن انتهاء الحرب على المخدرات، أي الحرب على الفلاحين الكولومبيين، لن يؤدي إلا إلى دفع كفاح كولومبيا الهش نحو السلام والديمقراطية.

* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 03 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة