لماذا تبدو جنوب إفريقيا عاجزة؟

مشاركة المقال

نيو فرايم/ مدار: 03 أيلول/ سبتمبر 2021

جيريمي كورنين

لقد أدت السيطرة المركزية على الإدارة العامة في جنوب إفريقيا إلى تقديم خدمة مدنية يمكن أن تتجاهل المساءلة، وتتجاهل الاحتياجات الحقيقية للمواطنين، الذين يتم التعامل معهم على أنهم “عملاء”.

 إن الحديث عن بناء قدرة الدولة يثير الكثير من الكلام، خصوصا أن ذلك يعتبر مفهوما إذا ما أخذنا عديد الإخفاقات التي مرت منها البلاد، فنظام العدالة الجنائية يزخر بسجل مروع في التعامل مع الجرائم القائمة على النوع الاجتماعي، كما أن النظام التعليمي خذل أجيالا من طلاب المدارس، والقائمة تطول، إذن، على من يقع اللوم؟.

هناك العديد من الإجابات الشائعة، بالإضافة إلى السنوات التسع التي قضاها زوما-غوبتا في الرئاسة، في وقت كان من المفروض أن يقضيها في السجن بسبب مشاريع النهب التي شهدها القطاع الصناعي، هناك تفكيك خدمة الإرادات والضرائب في جنوب إفريقيا، وإساءة استخدام مختلف الفصائل التابعة لمخابرات الدولة، وتوظيف الشركات الإستراتيجية المملوكة للدولة لأهداف خاصة. كما أنه في بعض الولايات تم استغلال بعض المشاريع لمآرب ذاتية، مثل ما تم في مشروع ألبان “إستينا” سيئ السمعة، حيث تم خداع الفلاحين الصغار وتمرير المشروع لأسماء محددة؛ بالإضافة إلى مشاريع أخرى كوكالة السكة الحديدية الجنوب إفريقية، إسكوم، ترانسنت، والخطوط الجوية الجنوب إفريقية.

ساهم هذا النهب للموارد العامة بشكل كبير في اختلال وظيفي؛ لكن هل يفسر هذا العجز الكبير الذي تعانيه الدولة؟ هل كانت الأمور أفضل أو أسوأ قبل عام 2009؟ والأهم من بين كل ما سبق، ما موقف الدولة وكيف جعلت الاستيلاء على مقدرات الشعب ممكنا في المقام الأول؟.

يتم توجيه إصبع الاتهام الثاني، الذي غالبا ما يكون مرتبطا بكل المواضيع، إلى تعيين الكوادر، إذ سيكون من الغباء تجاهل واقع التعيينات التي تتم من خلال أجندات مجموعات معينة؛ لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتم تدوير هذه الكوادر في مختلف المناصب العليا، بالإضافة إلى الفضائح المتكررة التي يكون خلفها هؤلاء. صحيح أن البعض ممن لديهم الرؤية الاستعمارية نفسها سيقولون إن المهم في هذه الكوادر أنها ليست عنصرية، لكن الواقع أن ذلك ليس معيارا لتقييم العمل، فـ”الأمور ليست كما كانت عليه من قبل”.

رغم أنه لا يمكن إعفاء هذه الكوادر من اللوم، لكن المشكل الجوهري يتمثل في التركيز المفرط على تحميلها بشكل فردي كل المشاكل وإيجاد حجج لذلك. إن هذه هي الطرقية التي تفضلها الخزانة الوطنية والجوقة الداعمة لها في وسائل الإعلام المالية للتأكيد على أن سياستنا جيدة، والمشكل يقع على التنفيذ فقط.

لكن ماذا لو لعبت السياسات والبرامج المرتبطة بها دورا مركزيا في تدمير قدرة الدولة؟ ينطبق هذا بالتأكيد على التقشف المتأرجح الذي تم فرضه، والذي أهلك قطاعنا العام، لكنني لن أسهب في الحديث عن هذا الموضوع هنا.

وصول الإدارة العامة الجديدة

هناك موضوع لم يتم التطرق له بالشكل الكافي، بالطبع في المناقشات الأوسع، وهو إصلاح الإدارة العامة في جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري. ما هي السياسة التي استرشدت بها مبادرات التحول على هذا المستوى؟.

تميل الإدارة العامة إلى ألا تكون مجالا ذا أهمية كبيرة بالنسبة لليسار بشكل عام. في بداية التسعينيات، طورت موجة الحركة الشعبية التي انبثقت عن تراكمات للنضالات المجتمعية والقطاعية المتواترة رؤى سياسية تقدمية حول الإسكان، الصحة، التعليم، الطاقة، سوق العمل والضمان الاجتماعي، مع التركيز على الديمقراطية التشاركية. ووجدت الكثير من هذه المتطلبات طريقها إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي عام 1993 (لكن سرعان ما تم تهميشها) وبرنامجه لإعادة الإعمار والتنمية. لكن في ظل كل ما عاناه البرنامج من نقص، تبقى النقطة التي لم يتم إلقاء البال لها هي فقدان البرنامج أي تفكير في الخدمة المدنية المستقبلية.

أدخل اليمين: نهج الإدارة العامة الجديد (NPM).

شهدت فترة منتصف التسعينيات ترويجا كبيرا لآلية الوقاية الوطنية (تحت مسميات كثيرة) في جنوب إفريقيا، ولاسيما من قبل مجموعة من الاستشاريين الأجانب، باعتبارها المعيار الذهبي الجديد لإصلاح الخدمة العامة. بدأ كل ذلك من خلال النموذج NPM الذي كان بمثابة عنصر مساعد للهجوم النيولبرالي، والذي تم تطويره في الأًصل مع بداية السبعينيات في مراكز الفكر والدوائر الأكاديمية، ثم اكتسب تطبيقا عمليا أكثر في الثمانينيات وسط مجتمعات الرفاهية الناطقة بالإنجليزية، التي أدركت تحديات الإدارة العامة المرتبطة بنموذج NPM الذي يأخذ في كثير من نقاطه من الممارسة الإدارية التي يشهدها عالم الشركات الخاصة، ويصور نفسه على أنه يتميز “بالرشاقة والذكاء”، لكن كل مرتكزاته مبنية على “القيمة مقابل المال”.

المشكلة – سواء كانت حقيقية أم لا –أن الأساس الذي تم تطوير البرنامج من أجله في البداية في نيوزيلندا وأستراليا والمملكة المتحدة لم ينطبق بأي شكل من الأشكال على الواقع الجنوب إفريقي في أوائل التسعينيات. بحلول نهاية الفصل العنصري، كان كل ما تبقى من بيروقراطية الرفاهية الاجتماعية الضيقة للبيض هي دولة استبدادية وعسكرة على أوسع نطاق وشبكات استخبارية تعتمد في عملها كل أساليب خرق القانون. ومن النتائج السلبية لهذا البرنامج ظهور مجموعة من “الدويلات المستقلة” العرقية و”مناطق الحكم الذاتي”، كما كانت هناك حوالي 151 دائرة حكومية وعدد لا يحصى من البلديات الخاصة بالبيض والسود. لم تكن التحديات المتعلقة بإرث الخدمة العامة التي واجهتنا مباشرة في ديمقراطية ما بعد الفصل العنصري قريبة من التحديات المزعومة في دول الرفاهية الناضجة نسبيا.

لزيادة الطين بلة، كان مستشارو إصلاح الخدمة المدنية، الذين جرفتهم الأمواج إلى شواطئنا في التسعينيات، يتوافدون في وقت أصبحت آلية NPM ذات تأثير سلبي واضح في بلدانهم الأصلية. لقد كان نموذجا ملموسا وقصة مألوفة لإغراق إفريقيا بالخطط المسمومة.

من الركائز الأساسية في إدارة برنامج NPM: “دع المديرين يديرون”، كما أن هاجسها الأكبر هو تقليص مخصصات الخدمة العامة (عمل المزيد بالقليل) وإعادة توجيهها عند مواجهة أي عائق بدل مواجهته. بالإضافة إلى ما سبق فإن البرنامج ينظر إلى المواطنين على أنهم مجرد “عملاء” ضمن لائحة التوصيل الخاصة بالدولة.

السيطرة على المديرين أو “المسؤولين”

يمتاز نموذج NPM بكونه ذا وظيفة إدارية مالية عامة، ويميل إلى تهميش المهارات المهنية المتنوعة المطلوبة في الخدمة العامة، وفي الوقت نفسه يقوم بمنح استقلالية للأقسام من خلال مسؤولي المحاسبة؛ في حين يتم التحكم في المديرين من طرف المركز عبر مجموعة كاملة من الاختصارات المحاسباتية كمؤشرات الأداء الرئيسية وخطط الأداء السنوية وما شابه ذلك. ويقوم هذا البرنامج على تحفيز الأداء ماليا (الدفع مقابل الأداء) ما يؤدي إلى إزاحة معايير المصلحة العامة.

قد تكون الرقابة الإدارية التي تمارس من خلال أهداف مخرجات الأقسام في شركة خاصة فاعلة/ خصوصا أنها تتعامل مع مجموعة من المواد الناجمة عن خط إنتاج أو تحقيق العديد من المبيعات، أما بالنسبة للخدمة العامة فمن المحتمل أن يودي هذا التوجه إلى تشويه وتعقيد مجموع الخدمات العامة، لاسيما عند معالجة الأولويات الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم وسلامة المجتمع، التي تتطلب عملا مشتركا بين مختلف الإدارات ومشاركة مجتمعية نشطة.

يتطلب العمل في القطاع العام أيضا ممارسة السلطة التقديرية المهنية والقدرة على التكيف. يجب أن يكون لدى معلمي المدارس والعاملين في مجال الرعاية الصحية وضباط الشرطة التدريب المهني والقدرة على الاستجابة بشكل مناسب للوضع الذي يطرح نفسه لهم في أي وقت. ولكن في ظل التأثير المدمر لتفكير NPM وخطط خفض التكاليف النيوليبرالية، تم تخفيض قيمة الخدمة المدنية المهنية في التسعينيات، وهو ما يمثله إغلاق كليات تدريب المعلمين والتمريض.

المحاولات الضيقة والمركزية للغاية لإدارة التدريس في الفصول الدراسية من خلال جعل كل فصل دراسي على سبيل المثال بالمستوى الرابع في الدولة مرتبطا بكتاب عمل يتم الالتزام به، ما يقوض التقدير المهني اللازم الذي يحتاجه المعلم من أجل الاستجابة بشكل مناسب لمختلف ظروف الفصل واحتياجات التلاميذ الفردية. وبالمثل، فإن محاولات تقييم معدلات نجاح مراكز الشرطة من حيث الجرائم المبلغ عنها هي مجردة من الحقائق الاجتماعية المختلفة إلى حد كبير.

أدت هذه المحاولات غير الملائمة لتحقيق المساءلة من خلال التحكم المركزي إلى تجريد مجالات رئيسية من الخدمة العامة من الطابع المهني، ما أدى إلى زيادة سلوكيات الامتثال والإذعان بشكل متكرر لمخرجات التسليم المحددة في مكان آخر، وغير ذي صلة بالتعقيد الفعلي للوضع المطروح – “كنت ألتزم بكتاب العمل كل يوم ومع ذلك فشل صفي، فمن المذنب في ذلك؟”.

مع اعتماد البرنامج على تقارير تدير الإدارات التنفيذية من خلال الاستناد إلى حد كبير على المخرجات، تضيع النتائج الاجتماعية الأوسع، وبالتالي المساءلة العامة. يمكن للمسؤولين، على سبيل المثال، الإبلاغ بدقة عن عدد منازل الصفيح التي تم بناؤها أو الصنابير التي تم تثبيتها، ولكن نظرًا لأن مكافآت الأداء تستند إلى تحديد أرقام مثل هذه، فإن الموظفين العموميين يكرهون لفت الانتباه إلى هذه النتائج الفعلية – ربما تكون رداءة المنازل أو عدم وجود مياه في الصنابير المثبتة “مسؤولية إدارة أخرى”-  كل هذا يؤدي إلى شعور زائف بالرضا عن الذات في الحكومة وفشل النظام في التعلم والتحسن.

الدولة التي تركز على الربح

تفاقمت كل هذه المشاكل بفعل الاعتماد على أن الكفاءة والفعالية ستتعززان تلقائيا من خلال أن تصبح الخدمة العامة في المقام الأول مدارة من خلال عقود، ومشترية للخدمات التي يقدمها القطاع الخاص.

وبغض النظر عن اهتمامات المصلحة العامة الأوسع نطاقا، مثل تحقيق قدر أكبر من المساواة، حتى وفقًا لشروط برنامج NPM، يوجد الآن دليل كبير على الصعيد الدولي على أن السلع والخدمات العامة التي تتم الاستعانة بمصادر خارجية لها، والتي تمت خصخصتها، لا تثبت في كثير من الأحيان أنها أكثر كفاءة أو فعالية من حيث التكلفة، حتى بدون وجود فساد كبير. لنأخذ حالة Gautrain، وهو “مشروع قطار سريع بين القطاعين العام والخاص”، لم يكن لـGuptas (عائلة تستحوذ على معظم القطاعات في جنوب إفريقيا) دور فيه، لكن بالرغم من ذلك زادت تكاليف هذا المشروع إلى أكثر من الضعف في مرحلة بنائه، وعلى مدى اثني عشر عاما كان يستنزف حوالي مليار راند سنويا من ميزانية مقاطعة غوتنغ في “ضمان نقل” مشغلي القطاع الخاص.

في الاقتصاد المختلط، سيتعين على الدولة دائما الشراء من القطاع الخاص إلى حد ما. ومع ذلك، عندما يتم توسيع نطاق هذه المشتريات بشكل كبير وعندما يُنظر إلى المسؤولين الحكوميين بشكل متزايد على أنهم مديرين عامين للعقود بدلا من موظفين عموميين ذوي كفاءة مهنية في مجالاتهم الخاصة، فمن المحتمل أن تنشأ مشاكل. يمكن بسهولة توجيه هؤلاء المسؤولين بواسطة رجال الأموال.

لقد برزت هذه المشكلة في جنوب إفريقيا، إلى درجة أنه يتم وضع السياسات والتخطيط (الأدوات الرئيسية للدولة التي تسير من خلال نموذج NPM) بشكل منتظم من خلال الاستعانة بمصادر خارجية للاستشارات الخاصة، والعديد منها مرتبط بتكنولوجيات وخدمات تجارية معينة. استمعت لجنة زوندو، على سبيل المثال، إلى أدلة وافرة على دور شركات الاستشارات الخارجية (بعضها لها امتداد عالمي كبير) بشكل تطوعي – ومفيد لهم – في وضع سياسة للكيانات العامة نيابة عن الشبكات الحكومية.

المواطنون كعملاء للدولة

من الأمور الأكثر ضررا التي تم نسخها من القطاع الخاص المجسد لنموذج NPM إلى القطاع العام: إعادة تعريف المواطنين كعملاء، وتحويل الخدمة العامة بشكل مغرض إلى معاملة سوقية يصبح فيها المواطنون مشترين مفترضين.

في القطاع الخاص، من الناحية النظرية الليبرالية على الأقل، من المفترض أن يكون للمستهلكين الأفراد “صوت” من خلال الخيارات التي يتم اتخاذها في السوق، بحيث توفر هذه الاختيارات إيحاءات سوقية عند شراء سلعة أو خدمة تابعة لعلامة تجارية معينة دون غيرها. لكن معظم الخدمات العامة ليست ولا ينبغي أن تكون علامات تجارية هادفة للربح وتتنافس على حصة في السوق، فبالنسبة لغالبية سكان جنوب إفريقيا، عندما يتعلق الأمر بالرعاية الصحية أو سلامة المجتمع أو التعليم، لا يوجد “خيار السوق”، ولا خيار للذهاب إلى سوق الرعاية الصحية الخاصة بمساعدة طبية، أو شراء الأمن الخاص، أو الدفع مقابل التعليم الخاص. إن نموذج الخدمة العامة الذي يسعى إلى محاكاة “كفاءات” القطاع الخاص، حيث تخضع المصلحة العامة للأسعار والأسواق ويُنظر إلى المواطنين على أنهم عملاء أو مستهلكون، سيؤدي إلى نتائج سيئة في إعادة التوزيع وتعميق عدم المساواة في النوع الذي يتجلى في واقعنا الحالي في جنوب إفريقيا.

مع تركيز صناع نموذج NPM على إدارة العقود القائمة من خلال التركيز على الأداء بدلا من المشاركة الشفافة مع المجتمع، يتآكل الدور الحاسم للديمقراطية التشاركية، ويُنظر إلى النشاط التنموي الشعبي على أنه مصدر إزعاج في أحسن الأحوال.

هل تعلمنا شيئا خلال الفترة التي تجاوزت العقدين من فشل إصلاح الإدارة العامة؟. يتم الآن استخدام انهيار قدرة الدولة خلال سنوات حكم زوما من أجل الدفاع مرة أخرى عن تبني القطاع العام سياسات تشابه ما يتم اعتماده في الشركات. في تطور خطير، يتم الترويج مرة أخرى للسبب الكامن وراء عجز الدولة كحل.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة