لبنان.. العلمانيون يواصلون مواجهة النظام الطائفي باستخدام “الذكاء الاصطناعي”

مشاركة المقال

مدار: 12 فبراير/ شباط 2024

كاترين ضاهر

“لا قيام لدولة حقيقية، مدنية وديمقراطية، إلّا بزوال النظام الطائفي في لبنان”، هذا ما يُجمع عليه عدد من العلمانيين في بلد لم يتعظ شعبه وسياسيوه من مأساة الحرب الأهلية التي اندلعت في 13 أبريل/نيسان 1975، واستمرت لمدة 15 عامًا.

49 عاماً مرت على الحرب، التي توقفت عام 1990، وانتهت بوضع ركائز النظام السياسي اللبناني الحالي، وبتسويات إقليمية، لكن جمرها بقي مشتعلاً حتى اليوم. وعند أي استحقاق سياسي يقوم رجال السياسة والدين باستخدام أبناء الطائفة كوقود للفتن وتأجيج الصراع الأهلي، ويسقط ضحايا من الفريقين، ثم يتصالح الكبار بتسوية معتادة حفاظاً على المحاصصات.

تعترف الحكومة اللبنانية رسمياً بـ18 طائفة دينية، يمثلها أعضاء في البرلمان. لكن في المقابل هناك أشخاص من كل طائفة أجمعوا على نبذ الطائفية وضرورة بناء دولة مدنية، ديمقراطية وعلمانية، وقرروا المواجهة بشتى الطرق، بهدف استعادة هويتهم كمواطنين في دولتهم دون تصنيفات مذهبية ودينية؛ وأولى مواجهاتهم كانت بإقدامهم على شطب القيد الطائفي من سجلات النفوس، بعدما أصدر في 6 فبراير/شباط 2009 وزير الداخلية والبلديات آنذاك زياد بارود تعميماً رسمياً إلى مديرية الأحوال الشخصية ورؤساء أقلام النفوس، يستند إلى “حقّ كلّ مواطن في عدم التصريح عن القيد الطائفي في سجّلات الأحوال الشخصية، أو شطب هذا القيد، المستمدّ من أحكام الدستور اللبناني، الذي كرّس، في المادة التاسعة منه، حرّية الاعتقاد”، والمتعلّق بقبول عدم تصريح صاحب العلاقة عن القيد الطائفي، وقبول طلبات شطبه من سجّلات النفوس، كما ترد دونما حاجةٌ إلى أيّ إجراء إضافي.

وتحت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” غصت شوارع لبنان بالآلاف من المتظاهرين، الذين طالبوا بإصلاحات جذرية في النظام السياسي والاقتصادي. وبدأت هذه التظاهرات في فبراير/شباط 2011، واستمرت عدة أشهر، وكانت تعبر عن الغضب الشعبي تجاه الفساد والمحاصصة الطائفية والمحسوبية، وعدم القدرة على تلبية احتياجات الناس وسط نظام سياسي عليل منذ تشكيله عام 1943.

ورغم أن التظاهرات لم تحقق تغييراً جذرياً في النظام السياسي اللبناني إلّا أنها ساهمت في زعزعة الاستقرار السياسي في البلاد، وإحداث بعض التغييرات الطفيفة، كبدء تكوين حالة من الوعي خارج الاصطفاف الطائفي الموجود في البلد. ثم أعيدت الاحتجاجات الشعبية بزخم أكبر في انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، تحت شعار “لبنان ينتفض“.

رصد لخطاب الطائفيّة والكراهيًة

مؤخراً، وللحدّ من تأجيج الصراع الداخلي ومواصلة الفتن من قبل بعض النافذين في البلد والمؤثرين على القاعدة الشعبية سياسياً ودينياً، اتفق عدد من الباحثين والناشطين على ضرورة رصد الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية في الإعلام اللبناني، خصوصاً إن كان تقليدياً أو حديثاً على مواقع التواصل الاجتماعي، بطريقة علمية، كوسيلة لمواجهته وللحدّ من تأثيره السلبي على المجتمع اللبناني.

وفي هذا الصدد قدّم “مرصد الطائفيّة” في “اللقاء العلماني” عرضًا لتقرير سنة 2023  “رصد الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية باستخدام الذكاء الاصطناعي: وعي مجتمعي زائف – خطاب هلع أخلاقي – تروما جماعيّة”، وذلك في جلسة عامّة في بيروت، بحضور ناشطين ومهتمّين بقضايا العلمانيّة ومواجهة الخطاب الطائفي.

واستُهلّ العرض بكلمة للناشطة آلاء حمادة، عرضت خلالها لمحة موجزة عن “اللقاء العلماني” الذي انطلق في مايو/أيار الماضي، في محاولة لتكوين مساحة علمانيّة جديدة، رأى فيها المدخل الصحيح لبناء نظام لا يفرّق بين إنسان وآخر، يضمن حقوق الجميع، ويحقّق المساواة. إذ إن لبنان محكوم بنظام كرّس الطائفيّة والتمييز والمحاصصة والزبائنيّة، وولّد أزمات وحروبا متكرّرة، وفشل في بناء حسّ المواطنة.

كذلك، أوضحت حمادة أهمّية استخدام “مرصد الطائفيّة” للوسائل الرقميّة والذكيّة الحديثة لرصد الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية، على اعتبار أنّ هذه الوسائل تتيح أولا تغطية نطاق أشمل للخطاب المتداول على منصّات التواصل الاجتماعي في لبنان، وثانيًّا توضح أنّ الوسائل التقليديّة للرصد لا تتجاوز حدود توثيق عدد محدود من الحالاتـ ولا تتيح تطوير إستراتيجية لمواجهة الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية.

يُشار إلى أن مجموعات العمل داخل “اللقاء العلماني” هي “طاولة العلمانيّة”، و”الطاولة الاقتصاديّة” و”مرصد الطائفيّة”.

بدورها، أفادت الناشطة ديالا سريّ الدين، في تصريح خاص لموقع “مدار”، بأن مهمة “مرصد الطائفية” تكمن في رصد الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية في لبنان، بهدف تكوين صورة واضحة عن خلفيّات هذا النوع من الخطاب وأسبابه، وفهم كيفيّة تفاعله مع الأحداث الجارية، بالإضافة إلى تسليط الضوء على دور المؤثّرين من سياسيّين ورجال دين في شحن جماهيرهم وتعبئتها وتحريضها.

والهدف الأهمّ من عمل المرصد هو تطوير مقاربة علميّة موضوعيّة يقوم عليها نموذج عمل يتيح مواجهة الخطاب الطائفي بأدوات متنوّعة تصل إلى عموم الجمهور. وقد بيّن تقرير العام 2023 أنّ “السلطة والزعامات الطائفيّة بدت أكثر تجذّرًا في المجتمعات اللبنانيّة، وقد تمكنت من استعادة زمام المبادرة خلال السنوات التي تلت عام 2019، إذ تمكّنت من تعطيل محاولات مكافحة الفساد ومحاسبة مرتكبيه، والتفّت على قانون الحقّ في الوصول إلى المعلومات”.

وشدّدت سريّ الدين على ضرورة متابعة “مرصد الطائفية” عمله حتى تحقيق أهداف أكبر، عبر مواصلة هذا الرصد سنوياً، كي يتمكن “اللقاء العلماني” من الوصول إلى كافة الناس بطريقة مبسطة، وتكثيف الجهود للتأثير على الرأي العام عبر التوعية والحث على ضرورة المطالبة بحماية الحقوق، بدلاً من تحقيق صراعات أكثر.

وأكّدت الناشطة ذاتها أن “كل هذه الجهود ضرورية بهدف الوصول إلى تحقيق التغيير المنشود وبناء دولة مواطنة، علمانية وديمقراطية”، وتابعت: “إضافة إلى رصد خطاب الطائفية والكراهية في الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي فإن ‘مرصد الطائفية’ سيبادر في تقرير عام 2024 إلى رصد الخطاب السياسي الطائفي لدى السياسيين في لبنان”. ويهدف هذا الإجراء إلى تسليط الضوء على تلك الخطابات، لمنع المؤثرين من تأجيج الصراع الداخلي في البلاد خلال أي حدث مهم.

الجوانب البحثّية والتقنيّة

من جهتها، استعرضت الأستاذة والباحثة في قسم الكمبيوتر في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتورة فاطمة أبو سالم الجوانب البحثيّة والتقنيّة، فأوجزت عناصر الدراسة التي أجراها المرصد ونشرها في تقرير “رصد الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية باستخدام الذكاء الاصطناعي”، شارحة الفرضيّات التي طرحتها الدراسة لتفسير أنماط تفاعل جمهور التواصل الاجتماعي مع الأحداث، وهي: الوعي المجتمعي الزائف وخطاب الهلع الأخلاقي والتروما الجماعيّة.

أما المنهجيّة التي سيّرت العمل على الدراسة فانطلقت من تحديد موضوعات الرصد وجمع البيانات، مرورًا بالتصنيف البشري لعيّنات منها، ثمّ تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على التصنيف الآلي وتقييم دقّة تصنيفها، وصولًا إلى تحليل النتائج ونشرها.

كما عرضت الباحثة جانبًا من تحليل النتائج والخلاصات التي انتهت إليها الدراسة، وكان أهمّها أنّ النظام الطائفي نجح في صرف الأنظار عن قضايا الفساد والجرائم المرتكبة، التي تستحقّ الاهتمام والمتابعة بهدف المساءلة والمحاسبة، عبر بثّ الهلع الأخلاقي من الفئات المهمّشة، وأنّ الجمهور الذي يظهر الاستعداد للاستجابة للتحريض يحمل في المقابل ذاكرةً مستعارة من الأجيال السابقة تسيطر عليها الحرب الأهليّة. وتكتمل الصورة في تشكلّ الوعي المجتمعي الزائف لدى الشعب، بشكل يشوّه نظرته للعلاقات في المجتمع ويدفع الضحيّة لممارسة الاضطهاد في حقّ من هم أضعف منه.

أما عن الصّعوبات التي واجهها الفريق التّقني في هذه الدّراسة فاستعرضت أبو سالم عدّة محدوديّات متعلّقة بصعوبة تدريب الذّكاء الاصطناعي على التعرّف على اللّغة المحكيّة، وبالقيود المفروضة من قبل منصّات التّواصل الاجتماعي على كمّيّة البيانات الّتي يسمح بجرفها، وبصعوبة تأمين عددٍ كافٍ من المتطوّعين الموكّلين بعمليّة التّصنيف اليدوي لأنواع الخطاب، الّتي تشكّل خطوةً أساسيّةً لتعزيز مستوى الدّقّة في التّصنيف الممكن لدى الذّكاء الاصطناعي، مشدّدة على أن الذكاء الاصطناعي هو وسيلة وليس هدفًا.

وبيّنت الأكاديمية ذاتها أهمية الرصد الرقمي بالوسائل الذكية لمحاولة التصدّي للتهديدات في زمن قصير، ولتطوير نماذج ذات فعاليّة في مواجهة خطاب الكراهية وآثاره في الواقع، بشكل يضع الأفراد والمجموعات الرافضة لهذا النمط من الخطاب في موقع المبادرين بدلًا من أن يكونوا متلقّين. فعلى سبيل المثال توفّر السّرعة والشّموليّة الّتي تتمتّع بها البرامج الذّكيّة فرصةً لبناء أنظمة رصد فعّالة تستطيع التقاط حملات التّحريض ضدّ شخصيّاتٍ قد تكون حياتها مهدّدة بفعل حجم التّحريض القائم. كما تساعد التّقنيّات الذّكيّة على إنشاء شبكات معرفيّة تظهر تقاطع المؤثّرين في الخطاب السّام وكيفيّة تطوّر هذه الشّبكة ومدى تأثيرها في المجتمع مع مرور الزّمن.

المنهجية…

بعد تحديد الموضوعات التي يجب رصدها تحت عنواني “الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية”، انطلق “المرصد الطائفي” في جمع الأحداث والتصريحات والمواقف ضمن ستّ فئات هي: السّياسة والأمن، الفساد الإداري والمؤسساتي، الدين، اللجوء، الجندر، الجنسانيّة. وبعدها انتقلت الدراسة إلى فحص ثلاث فرضيات طرحت لتفسير محفزات الخطاب الطائفي في المجال الرقمي، وهي: خطاب الهلع الأخلاقيّ، الوعي الاجتماعي الزائف، والتروما الجماعيّة.

وخلصت الدراسة إلى أن الخطاب الطائفي دائمًا يقع بسبب حدث ما، يساهم في تقسيم الناس، ولديه فعالية قوية بمفهومي الكراهية والتجريح اللذين احتلا نسبا عالية جدًا في الإحصاءات، ما يعكس نوعًا من التروما الجماعية، وهذا يدل على أن الشعب اللبناني لم يتخط بعد الأمور العالقة منذ الحرب الأهلية، بدلًا من أن يقدم على مقاربة المواضيع الحساسة نوعًا ما بعقلانية.

وبالبراهين اتضحت نسب مرتفعة من التحريض والكراهية في موضوع اللجوء والجنسانية. وكذلك أظهر التقرير طفرة كبيرة في انتشار الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية بعد تصريحات أحد الرموز الدينة والسياسية الفعّالة جدًا.

نسبة التفاعل

وأظهر التقرير أن “التحريض” غلب على تصريحات رجال السياسة والدين في “السياسة والأمن” و”اللجوء” و”الجنسانيّة”، يقابله “تجريح وكراهيّة” من قبل الجمهور. ومن خلال هذا التلاعب بـ “الهلع الأخلاقي” نجحت هذه القوى في إعادة إنتاج نفسها في لحظات حرجة وجدّدت شرعيّتها الشعبيّة.

كما أن تزامن ارتفاع التفاعل في “اللجوء” و”الجنسانية” مع الأحداث المرصودة في “الفساد” مؤشّر على تلاعب متعمّد لصرف انتباه الجمهور عن قضايا الفساد. فالتفاعل الأكبر في “اللجوء” و”الجنسانية” أعقب تصريحات من رموز سياسية ودينية، مثل البطريرك الراعي وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، والنائب جبران باسيل وغيرهم. أما النسب الأعلى من “التجريح والكراهية” فكانت في فئة “السياسة والأمن”، وحجم التفاعل الأكبر في هذه الفئة يظهر في أعقاب الأحداث الأمنية. وفي المقابل، كان التفاعل الأدنى مع الأحداث التي تستدعي المساءلة والمحاسبة في فئتي “الفساد” و”الجندر”.

تقاطع مريب إذن بين العناوين المرتبطة بقضايا الفساد وبين العناوين التي استدرجت الهلع الأخلاقي، ما يظهّر دور النظام الطائفي في تخدير المجتمع في ما يتعلّق بالقضايا الحقوقّية المؤثّرة.

ووفقاً للدراسة فإن التفاعل الأكبر في “الفساد” رافق أحداثا وتصريحات متعلّقة بملاحقة رموز قضائيّة أو أمنيّة، مثل قرار المجلس التأديبي في حق القاضية عون والتجاذبات المرتبطة بملاحقة اللواء عثمان.

وكان حجم التفاعل الأكبر في “السياسة والأمن” يلي الأحداث التي تشكل مناسبات للمعلقين عليها لطرح خطاب مأخوذ من ذاكرة الحرب الأهلية (جريمة بشير، شاحنة الكحالة، إلخ). ويقوم الجيل الحالي عند كل حدث أمني أو سياسي كبير بإعادة تدوير خطاب الكراهية الذي أنتجته الأجيال السابقة.

الحجم الأكبر من التفاعل في “الجندر” كان مع التصريحات التي أدلت بها عددٌ من الناجيات من جرائم الاغتصاب التي ارتكبها “الكاهن منصور لبكي“، بخلاف الصمت شبه التام الذي رافق معظم الجرائم الأخرى.

وفي ما يتعلق بـ “الدين”، بلغت نسبة التجريح والكراهية 54% من نسبة مجموع التعليقات المصنّفة يدويًّا و76% من مجموع التعليقات المصنّفة آليًا. ونسبة التجريح مع التحريض في هذه الفئة بلغت 8% من مجموع التعليقات المصنّفة يدويًّا و4% من مجموع التعليقات المصنّفة آليًا.

أما نسبة التصنيف “لا شيء مّما سبق” فكانت الأعلى بالمقارنة مع جميع الفئات الأخرى، بحيث بلغت 30% من مجموع التعليقات المصنّفة يدويًّا و15% من مجموع التعليقات المصنّفة آليًا. واعتبر التقرير أن هذا يدلّ على أنّ خطاب الكراهية الطائفي لا ينشأ عن الاختلافات العقائديّة، بل هو وسيلة تعبئة ضمن الصراع السياسي على السلطة.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة