قلب المعادلات.. الدلالات الكبرى لـ “طوفان الأقصى”

مشاركة المقال

مدار: 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2023

أطلقت المقاومة الفلسطينية، بقيادة كتائب “القسام”، الجناح العسكري لحركة “حماس”، وبمشاركة فصائل فلسطينية أخرى، السبت الماضي، من غزة، معركة “طوفان الأقصى”، ردا على “اعتداءات القوات والمستوطنين الإسرائيليين المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته، ولا سيما المسجد الأقصى في القدس الشرقية المحتلة”.

على الأرض، أسفرت هذه العملية الغير المسبوقة عن مقتل 1300 إسرائيلي وإصابة نحو 3300 آخرين حتى الآن، من بينهم 222 من الجنود والضباط، مع أسر ما لا يقل عن 100 إسرائيلي.

من جانبه، أطلق جيش الاحتلال الصهيوني ما أسماها عملية “السيوف الحديدية” الانتقامية، وشن غارات مدمّرة على قطاع غزة، عبر استهداف مناطق ذات كثافة سكانية مدنية عالية، مما أدى حتى الآن إلى استشهاد أكثر من 1350 فلسطينيا، بينهم مئات الأطفال، وإصابة أكثر من 6000 آخرين، وفرار ما لا يقل عن 218 ألف شخص من منازلهم للاحتماء بالمدارس التابعة للأمم المتحدة.

وبينما تتواصل المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وقف “مدار” عند خمسة دلالات كبرى لهذه المعركة التاريخية:

1. فشل أمني واستخباراتي كبير

المقاومة الفلسطينية هي التي قررت موعد المواجهة، ودون سابق إنذار، وهو ما يبين على قدرتها الكبيرة على التحكم زمام المبادرة وإعادة رسم قواعد الاشتباك؛ وتزامنت المعركة مع الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973، التي صنع فيها الجيشان المصري والسوري المفاجأة، لما كان الجيش الإسرائيلي في إجازة بمناسبة يوم “عيد الغفران”، بينما كان الإسرائيليون، يوم السابع من أكتوبر الجاري، منغمسين في احتفالات “عيد العُرش” الديني اليهودي.

أمام النجاح الكبير للعملية، والشلل الذي أصاب الكيان المحتل، اعترفت الأوساط الإسرائيلية وبسرعة بالفشل الأمني والاستخباراتي الذريع للمحتل، وقالت صحيفة “يديعوت أحرنوت” إن “فشل إسرائيل الاستخباراتي والعملياتي يتردد صداه بشكل لا يمكن تصوره”، مضيفة أن الأمر يتعلق بـ “فشل مشترك مدوي للجيش والمخابرات، وقبل كل شيء المستوى السياسي، المسؤول عنهما”.

النجاح الباهر للمقاومين في اختراق الجدار الأمني والدخول إلى المستوطنات في غلاف غزة، بقدرة كبيرة على المناورة والابتكار، بالرغم من التجهيزات الهائلة التي خصصتها إسرائيل لضمان عدم حدوث أمر مشابه، أصاب المراقبين والمحلّّلين بالصدمة والذهول، إذ “كانوا يعتقدون أن الاستعداد الاستخباراتي هو الرصيد الرئيسي لدولة إسرائيل، وأن إسرائيل قوة عسكرية جبارة ذات تكنولوجيا عالية تستبق، نظرياً، التهديدات وتحيّدها، وهي في حالة تأهب قصوى دائمة”، حسب ما لاحظه الكاتب الفلسطيني ماهر الشريف.

بينت إنجازات المقاومة على الأرض، أخذا بعين الاعتبار إمكانياتها المتواضعة في وجه كيان نووي يدعي أنه يتوفر على “أقوى جيش في الشرق الأوسط”، مدى محدودية هذه الإدعاءات، وقدرة المقاومة، إذا توفرت على الإمكانيات اللازمة، على إلحاق الهزائم بإسرائيل.

2. انتصارات للمقاومة

بالرغم من الرد الهمجي المتوقع من جانب الكيان المحتل، من خلال تقتيل الأطفال و استهداف المدنيين، والمنشآت الصحية، وفرض عقاب جماعي على سكان القطاع عبر قطع الماء والكهرباء والوقود عليهم، واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا كالفسفور الأبيض، إلا أن المقاومة، حسب المراقبين، حققت انتصارا استراتيجيا غير مسبوق على الكيان المحتل.

الملمح الأبرز لهذا الانتصار بحد ذاته فارق في تاريخ الصراع: المقاومة هي التي هاجمت الأراضي المحتلة، وهي من قرّر مكان وزمن المواجهة، وبالتالي كسرت الأنماط المعتادة حيث تكون إسرائيل هي المتحكمة في تحديد ذلك.

استطاعت المقاومة أسر عدد كبير من جنود المحتل ومن المستوطنين، بالرغم من أن أعدادهم لم تحصر بدقة بعد، إلاّ أن المؤشرات تظهر أنهم فاقوا المئة، مما يعني أنهم سيكونون ورقة حاسمة في المفاوضات التي ستلي وقف إطلاق النار، حيث يرتقب أن يؤدي ذلك، على الأرجح، إلى صفقة تبادل ستسمح بإطلاق أعداد كبيرة من الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجون المحتل.

بالرغم مساعي الكيان إلى تشويه الحقائق والإدعاء بأن المقاومين ارتكبوا جرائم حرب أثناء الهجوم على غلاف غزة، إلا أنه سرعان ما ظهر زيف ذلك، وتأكد علو كعب المقاومة بعد بث أشرطة مؤكدة تظهر المقاومين يترفعون عن أسر نساء وعجائز وأطفال، كما أطلقت كتائب القسام سراح امرأة إسرائيلية وطفليها بعد التحفظ عليها أثناء العملية، علاوة على أن صحف دولية معروفة تراجعت عن مزاعمها بقتل المقاومة للأطفال أو اغتصاب النساء والتي كان روج لها الإعلام الصهيوني بقوة في البداية؛ وبالرغم من الآلة الإعلامية الرهيبة المساندة للكيان الصهيوني، إلا أنها فشلت مرة أخرى في إقناع العالم بهذه الأكاذيب.

أظهرت هذه الحرب، مجددا، الوجه العنصري الحقيقي للإسرائيليين والذي يذكّر العالم إلى حد بعيد بالنازية: وزير الدفاع الصهيوني وصف الفلسطينيين بأنهم “حيوانات على شكل بشر”، وأضاف أن إسرائيل تتعامل معهم على هذا الأساس، وهو ما اعتبرته هيومن رايتس ووتش أمرا مقززا، وسطّرت على أنه دعوة لارتكاب جرائم حرب. ويشار إلى أن الأمم المتحدة اعتبرت الحصار الكامل الذي أعلنت إسرائيل فرضه على قطاع غزة محظور بموجب القانون الدولي، كما هدّد الكيان باستهداف المساعدات الإنسانية المتجهة إلى القطاع، في مخالفة صريحة للقانون.

3. استرجاع الانتباه

كان واضحا أن الحرب في أوكرانيا حولت الأنظار إلى هذه الساحة الإستراتيجية بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة، وبالتالي تحولت القضية الفلسطينية إلى “ملف ثانوي” من وجهة نظر الفاعلين الرئيسيين في المجتمع الدولي.

تزامن ذلك مع تركيز الإعلام الدولي على الحرب الأوكرانية وقضايا الصراعات الجيوسياسية المتصاعدة بين واشنطن وبكين، وهو ما غيب القضية الفلسطينية بشكل ملحوظ من مشهد الأحداث.

ومع ذلك، عادت معركة “طوفان الأقصى” لتذكّر من يحتاجون إلى تذكير بالقضية الفلسطينية والجرائم اليومية التي يرتكبها الكيان المحتل في حق الشعب الفلسطيني وأعادت إلى الطاولة كفاحه المستميت وحقوقه التاريخية المغتصبة.

ويعتبر استرجاع الانتباه الدولي إلى القضية الفلسطينية بحد ذاته مكتسبا استراتيجيا هاما، من شأنه أن يعزز من صمود الفلسطينيين ويقوي موقفهم الداخلي والخارجي.

4. قلب المعادلات

الولايات المتحدة وإسرائيل ومعهم الغرب الأوربي مسرورون بالزخم الذي اكتسبته اتفاقات التطبيع التي انخرطت فيها أنظمة العديد من بلدان المنطقة (البحرين، الإمارات، المغرب، السودان)، لكن أحد قطع الأحجية الأساسية التي كانت تراهن على استقطابها إلى هذا المسار هي العربية السعودية نظرا وزنها الاقتصادي والسياسي في المنطقة.

النظام السعودي نفسه لم يكن يخفي رغبته في أن يكون جزء “اتفاقات أبراهام”، إذ أن ولي العهد محمد ابن سلمان في مقابلة مع قناةفوكس نيوزالأمريكية، منتصف الشهر الماضي، ردّ على سؤال من محاوره عن “وجود تقارير تفيد بأنك أوقفت المحادثات (مع إسرائيل)”، أجاب: “هذا ليس صحيحا.. وكل يوم تتقدم وسنرى إلى أين ستصل”، وتابع: “في حال نجحت إدارة (الرئيس الأمريكي) بايدن بأن تعقد اتفاقا بين السعودية وإسرائيل، فسيكون أضخم اتفاق منذ انتهاء الحرب الباردة (1947-1991)، والاتفاقيات المرتقبة مع الولايات المتحدة مفيدة للبلدين ولأمن المنطقة والعالم”.

لكن “طوفان الأقصى” جاء ليقلب المعادلات، فمن ناحية، وأمام فداحة الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، وُضعت الأنظمة المطبعة في موقف “محرج” أمام شعوبها التي هبت إلى مناصرة المقاومة والشعب الفلسطينيين، ووضعت مسارات التطبيع محط شكوك خصوصا وأن رهان الأنظمة المطبعة على الاستفادة من القدرات العسكرية والأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية لم تعد ذات معنى.

ومن ناحية أخرى، صرّح رئيس الدبلوماسية الأمريكية أنتوني بلينكن، إن “عرقلة التطبيع المحتمل للعلاقات بين إسرائيل والسعودية ربما يكون من دوافع الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل”.

وتتزايد المخاوف لدى الأوساط الأمريكية والإسرائيلية من خروج الأوضاع في المنطقة عن السيطرة، أمام تزايد الاحتقان الشعبي العربي، مما سيدفع الأنظمة المطبعة، تحت الضغط، إلى التراجع عن علاقاتها الرسمية مع إسرائيل، مما سيكون ضربة موجعة للمشروع الصهيوني في المنطقة.

5. تعمّق الوهن الإسرائيلي

قبل معركة “طوفان الأقصى”، كانت مؤشرات التمزق الداخلي بادية للعموم، من رهانات نتانياهو على التيارات الفاشية الدينية، إلى الأحداث التي صاحبت إقرار “التعديلات القضائية”، التي كانت كافية لتأكيد هذه التمزقات، وهي ليست على كل حال وجها لـ “الديمقراطية الإسرائيلية” المزعومة.

سارع بنيامين نتنياهو وبيني غانتس إلى تشكيل حكومة طوارئ خلال الحرب، وهو ما يعني أن إسرائيل تمر بظروف استثنائية. وسترتبط مختلف الإجراءات والقوانين التي ستتخذها هذه الحكومة حصريا بالحرب.

ومع ذلك، فإن الكثير من الأوساط الإسرائيلية حملت مسؤولية الفشل الكبير في صد هجوم المقاومة لنتنياهو واليمين الفاشي المكون لحكومته، واعتبرت أن الحصار المفروض على قطاع غزة والاقتحامات المتكررة للأقصى، علاوة على سياسات الفصل العنصري التي تطبع الكيان الصهيوني كلها تؤدي إلى تقوية الموقف الفلسطيني واشتداد عود المقاومة.

ورأى مراقبون أن “طوفان الاقصى” من شأنه أن يؤدي لاحقا إلى حدوث تمزقات هائلة في الأوساط السياسية الإسرائيلية، وسقوط رؤوس كبيرة في  الحكومة والجيش والمخابرات الصهيونية.

سبق لوضّاح خنفر، المدير السابق لشبكة الجزيرة القطرية، ورئيس منتدى الشرق، أن أشار إلى أن “إسرائيل تضعف ولا تقوى”، مرجعا ذلك إلى أربعة أسباب:

الأول: إسرائيل ولدت كنتاج للحرب العالمية الثانية، إذ كان الغرب يراهن على أن تصبح إسرائيل قاعدة متقدمة له في الشرق الأوسط، ويعرف العالم الذي تشكل في ذلك السياق تراجعا مستمرا في المرحلة الراهنة، باتجاه أوليات أخرى، منها استراتيجية جديدة في اتجاه الصين، وموازين قوى جديدة، بمعنى أن إسرائيل تفقد قيمتها الاستراتيجية بسبب تغير في النظام الدولي.

الثاني: إسرائيل التي حاربت العرب وهزمتهم في حرب 67، كان لديها مجموعات عسكرية ذات عقيدة قومية صهيونية، لم تعد قائمة، إذ أن “المقاتل العادي” في الكيان المحتل لم يعد يشبه المقاتل في 67 وما شاب، لأن الواقع الإسرائيلي تغيّر جذريا، وأصبح مطبوعا بالإنقسام والتمزّق، والصراع العنيف ما بين المكونات الدينية والعلمانية، أدى إلى “تفكك الفكرة الصهيونية” و “لم تعد صلبة كما كانت في الماضي”، كما أن المجتمع الإسرائيلي “لم يعد متفقا على معنى وجود دولة إسرائيل”.

الثالث: إسرائيل استطاعت أن تصعّد المعركة مع الفلسطينيين ومع العالم الإسلامي، من خلال تركيزها على المسجد الأقصى، لأن الصراع لم يعد يقتصر على الأرض واللاجئين فقط، إذ أن إسرائيل تركز من خلال زيادة تأثير الديني في حكومتها على المسجد الأقصى، فعلاوة على أهمية القضية الفلسطينية بأبعادها الوطنية والإقليمية، إلا أن المسجد الأقصى لما ينضاف إليها تتحول المعركة إلى المسلمين عموما، وحتى العالم المسيحي في ظل المس بالمقدسات المسيحية في فلسطين، “كلما دخلت في مفاصلة مع شعائر التديّن فإنك ستخسر دائما”، لأنها نقطة فاصلة في الصراع، وإسرائيل تتحرك نحوها، بالإضافة إلى الاشتباك المباشر مع المستوطنين الذين باتوا يتحركون على شاكلة عصابات.

الرابع: تغير فكرة الاشتباك مع الفلسطينيين بعد نهاية اتفاق أوسلو، وواقع أن “العملية السياسية لم يعد لها قيمة على الإطلاق”، خصوصا وأن فكرة حل الدولتين “مجرد كلام فارغ”، وتحول السلطة التي تشكلت بفعل اتفاق أوسلو إلى سلطة تآزر الإحتلال في كثير من المناحي، و”أصبحت مفيدة جدا كأداة”، وبالتالي فإن الفلسطيني بات في مواجهة مباشرة مع المستوطن على الأرض.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة