مدار: 18 أيار/ مايو 2021
د. ماهر الشريف (فلسطين)
منذ احتلال فلسطين سنة 1948، وفي الخامس عشر من أيار/ مايو كل سنة، يحيي الفلسطينيون في أماكن تجمعاتهم في الوطن والشتات كافة، ذكرى النكبة، التي تمثّلت بتشريد نحو ثلاثة أرباع مليون فلسطيني وتحويلهم لاجئين، وتدمير مئات القرى وعشرات المدن الفلسطينية التي احتُلت في ما أصبح يسمى دولة إسرائيل، في حين مُحِيَ اسم فلسطين من الخارطة.
كان للنكبة الفلسطينية تداعياتها على البلدان والشعوب العربية، فهي لم تعنِ ضياع فلسطين كجزء عزيز من الوطن العربي فحسب، بل كانت كذلك فاتحة هزائم العرب الكبرى، إذ تسبّب قيام كيان غريب في فلسطين بتهديد الاستقرار الإقليمي وتبديد الطاقات والثروات العربية وإعاقة مشاريع التنمية العربية وتعطيل تحقيق الوحدة العربية.
وولّدت النكبة الفلسطينية أدباً سياسياً عربياً حاول منتجوه، من منطلقات فكرية متنوعة، وعْيَ معناها ومعرفة أسبابها وتلمس السبل الكفيلة بتجاوزها، وبرزت في إطار هذا الأدب السياسي مقاربات نقدية رأت في النكبة نتيجة منطقية ومتوقعة للتخلف العربي، وحصيلة عقلانية لمواجهة طويلة بين مجتمعات عربية تقليدية وبين مجتمع يهودي حديث حظي بدعم الاستعمار الأوروبي، فهذا قسطنطين زريق يعتبر في كتابه “معنى النكبة” (إصدار آب/ أغسطس 1948)، أن هناك سبيلين مترابطين لتجاوز آثار النكبة: الأول هو التجدد الحضاري، بمعنى أن يواكب العرب عصرهم وتقوم في بلدانهم مجتمعات علمية وتقدمية، والثاني هو الإنشاء القومي، بمعنى قيام كيان قومي عربي متحد تقدمي.
كانت نكبة 1948 حدثاً أسَّس لكارثة الشعب الفلسطيني، المتمثلة بسلسلة من الأحداث المأسوية التي تظهر أكبر تجلياتها في لجوء الفلسطينيين وتشردهم المتواصل: من الضفة الغربية وقطاع غزة بعد عدوان الخامس من حزيران/ يونيو 1967، ومن لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي صيف سنة 1982، وأثناء “حرب المخيمات” (1985-1987)، ومن الكويت في عامَي 1990-1991 بعد الغزو العراقي، ومن ليبيا عام1994، ومن العراق عام 2003، ومن سورية بعد اندلاع الأحداث الدامية فيها عام 2011.
وإذا كان الفلسطينيون في مخيمات لجوئهم في بلدان الشتات وفي دول الاغتراب البعيدة، يحيون يوم النكبة بتنظيم مسيرات العودة وبالدعوة إلى الاعتصام أمام مقرات هيئة الأمم المتحدة، فإن الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم داخل الخط الأخضر يقفون أيضاً في هذا اليوم على أطلال قراهم المدمرة، إذ تقوم اللجنة القطرية للدفاع عن حقوق المهجرين بتنظيم مسيرة العودة إلى القرى الفلسطينية المهدمة والمهجرة: اقرت وكفربرعم واجزم وصبارين وصفورية والبروة والدامون واللجون… وغيرها الكثير الكثير، هذه المسيرة التي غدت تقليداً سنوياً يعبّرون من خلاله عن رفضهم مشاريع الاقتلاع والتشريد، وعن تمسكهم بحق العودة الى هذه القرى.
وباشتراك فلسطينيي الداخل والشتات في إحياء الذكرى، هم يؤكدون وحدتهم كشعب، ويجددون تمسكهم الثابت بحقوقهم التاريخية، وخصوصاً حق العودة. ومنذ سنة 2008، التي مثّلت منعطفاً في وعي الفلسطينيين النكبة بعد مرور ستين عاماً على وقوعها، صار الوعي الجمعي الفلسطيني بأهمية إحياء الذكرى يتزايد عاماً بعد عام، بكل ما يرمز إليه ويحمله من أبعاد ودلالات ومعان سياسية ووطنية.
أنكرت الحركة الصهيونية النكبة الفلسطينية منذ وقوعها، ومنعت ذكرها أو الحديث عنها، وصارت تحتفل بيوم النكبة كل عام، في الخامس من إيار بحسب التقويم العبري (الذي طابق يوم 15 أيار/ مايو 1948)، باعتباره يوم احتفال بـ “الاستقلال”. وسن الكنيست الإسرائيلي في سنة 2011 قانوناً يحظر على المؤسسات العامة الممولة من الدولة إحياء ذكرى النكبة، ويفرض عقوبات اقتصادية على السلطات المحلية والمؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية إذا نظّمت أو شاركت في إحيائها، وأضيف القانون إلى سلسلة القوانين العنصرية التي تنتهك حقوق العرب الفلسطينيين في إسرائيل، وخصوصاً حقهم في التعبير عن آرائهم وامتلاك روايتهم التاريخية الخاصة، وهو يهدف -عبر منع تعليم تاريخ فلسطين بشكل يختلف عن الرواية الرسمية الصهيونية- إلى محو الذاكرة الجماعية للفلسطينيين عن النكبة من وعي الأجيال الشابة.
وبالتوازي مع هذه الإجراءات، تصر السلطات الإسرائيلية على انتزاع اعتراف الشعب الفلسطيني وقيادته الوطنية بإسرائيل “دولةً للشعب اليهودي”، وذلك كي ينكر بنفسه وجوده شعباً متجذراً في تاريخ وطنه، وينسى المآسي التي عاناها منذ 1948، ويرضى بطمس حقوقه الوطنية المشروعة، وخصوصاً حقه في العودة.
كما تواصل السلطات الإسرائيلية فصول جريمة نكبة الشعب الفلسطيني، من خلال تكثيف الاستيلاء على المزيد والمزيد من الأراضي العربية، وخصوصاً في منطقة النقب، ما يؤدي إلى تهجير عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين من بيوتهم، كما تعمل على تطوير مشاريع الاستيطان اليهودي في المدن الفلسطينية التاريخية، مثل عكا وحيفا ويافا، بهدف تفريغ هذه المدن من سكانها الفلسطينيين.
وفي الوجه الآخر من الصورة، تقف قوى يهودية قليلة داخل إسرائيل في مواجهة السياسات الصهيونية الرسمية، وتسعى إلى تعميق الوعي لدى الجمهور اليهودي إزاء النكبة، من أبرزها جمعية “زوخروت” (ذاكرات، تأسست سنة 2002)، التي تعتبر الاعتراف بحق العودة مفتاح السلام والمصالحة بين الشعبين الفلسطيني واليهودي الإسرائيلي، وتشارك الفلسطينيين إحياء ذكرى النكبة، وتركّز نشاطاتها بوجه خاص على القرى الفلسطينية المهجّرة، من خلال تنظيم مسيرات العودة إليها وعقد الندوات وتنظيم معارض الصور عنها.
وشكّلت الثقافة الفلسطينية المرآةَ التي رسّخت معنى النكبة في الوعي الفلسطيني وطوّرته وتحولت حافظةً للهوية الوطنية، فانقلاب حياة الفلسطينيين رأساً على عقب بعد النكبة أفضى إلى تغيير في أشكال تعبيرهم الأدبي والفني، حتى بات هناك ما يُعرف بـ”أدب ما قبل 1948″ و”أدب ما بعد 1948″، و”أدب المنفى” و”أدب الداخل”.
وسيطر على “أدب الداخل” موضوع المقاومة بشكل كبير، حيث إن الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم لم يكن أمامهم سوى خيار الرحيل أو المقاومة، فاختاروا المقاومة، وصارت قصائد محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، أغانيَ لمعارك العرب الفلسطينيين ضد التمييز القومي الذي مارسته السلطات الإسرائيلية.
أما “أدب المنفى” فتميز، بسبب وقوعه تحت ضغط معاناة التشرد، بوصفه “أدب الحنين والانتظار”، الحنين إلى الوطن الضائع وانتظار العودة إليه، فصوّر الأدباء الفلسطينيون فيه المأساة التي لحقت بشعبهم، وعكسوا في أشعارهم وقصصهم ورواياتهم آلام النكبة والتشرد والضياع والعذاب النفسي والشعور بالغربة والاغتراب، وهو ما عبّرت عنه أصدق تعبير قصص سميرة عزام (نشرتها في بيروت في سنة 1953) وأشعار هارون هاشم رشيد، ومنها ما ورد بصوت فيروز: “سنرجع يوماً الى حيِّنا/ ونغرق في دافئات المنى/ سنرجع مهما يمر الزمان/ وتنأى المسافات ما بيننا”، ورسومات إسماعيل شموط، وبخاصة “سنعود” و”إلى أين؟”.
وفي مطلع الستينيات، ومع نشر رواية غسان كنفاني “رجال تحت الشمس”، راحت تطغى روح التمرد على أدب المنفى، وهو الأدب الذي شهد اندفاعة جديدة مع ولادة المقاومة الفلسطينية بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ومنذ ذلك الحين أصبحت المقاومة الموضوع الرئيسي للإنتاج الأدبي الفلسطيني في الوطن والمنفى على حد سواء، وبرزت في ظلالها على الصعيد الفني، إلى جانب الرسم، أشكال تعبير فنية جديدة، كالسينما والمسرح.
وفي السنوات الأخيرة، صارت الثقافة الفلسطينية تنحو نحو الاستقلال عن شرطها التاريخي وتطمح إلى تعميق طابعها الإنساني المنفتح، وهو ما عبّر عنه -على سبيل المثال- محمود درويش، الذي صار يتطلع في سنوات حياته الأخيرة إلى كتابة “الشعر الصافي”، والسينمائي هاني أبو أسعد في فيلمه “عمر” (حائز إحدى جوائز مهرجان كان السينمائي العالمي سنة 2013)، الذي يغوص فيه بعيداً من الخطاب السياسي في العالم المعقد إلى حياة الفلسطيني اليومية.
لا شك في أن النكبة، أو التراجيديا الفلسطينية، ستظل نبعاً لا يجف ومعيناً لا ينضب في الثقافة الفلسطينية.
*نشر هذا المقال على موقع حزب الشعب الفلسطيني، ونشره “مدار” بموافقة من الدكتور ماهر الشريف.