مدار: 28 أيلول/ سبتمبر 2021
كاترين ضاهر
“بيروت تحترق.. ولا ترفع الأعلام البيضاء”، و”اقتحموا بيروت مزهوين وخرجوا منها مرتعبين”؛ هكذا عنونت جريدة “السفير اللبنانية” صفحتها الرئيسية بتاريخ 5 آب/ أغسطس 1982، واختزلت بـ”مانشيت” يوميات “احتلال مدينة” إرادة شعب أبى أن يُهزم أو يستسلم وقرر المواجهة والصمود، فكان الانتصار والتحرير.
هو عنوان أرادته الصحيفة رسالة تحد للقصف الإسرائيلي على العاصمة اللبنانية واجتياحها الذي دمّر المستشفيات ومئات المباني وآلاف المنازل، وأسقط مئات الشهداء والجرحى، فكان سلاح القلم والكلمة أشد فتكاً من سلاح الجو الصهيوني، وتحققت نبوءة “السفير” وانتصرت بيروت بعد 10 أيام على اجتياحها الذي سبقته 88 يوماً من الحصار.
ففي الخامس من آب /أغسطس 1982، كانت بيروت تحترق وتحتضر، ولكنها لم ترفع الأعلام البيضاء، التي أمرت منشورات العدو الصهيوني الجوية برفعها طلباً لـ “النجاة”… فأُسقطت أوامره كما سقطت هيبته التي ادعاها بأنه “الجيش الذي لا يُقهر”، فأصبح الجيش المهزوم الذي يُدحر، وخرج رافعاً الراية البيضاء مذلولاً، مستغيثاً بوقف إطلاق النار، ومعلناً انسحابه من المدينة التي كبدته خسائر فادحة وفاضحة خلال عشرة أيام من احتلالها.
في السادس من يونيو/ حزيران 1982 حاصر الاحتلال الصهيوني بيروت 88 يوماً، فحاصرته ضربات عمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) منذ انطلاقتها في 16 سبتمبر/ أيلول ببضعة أيام بأسلحتها المتواضعة أمام هيبة إمكانياته العسكرية من دبابات وطيرانه… وكانت الأنظار مسلطة على العاصمة اللبنانية تنتظر سماع بيانات الجبهة المقتضبة، تقابلها محاولات جيش الاحتلال الإسراع بنقل جثث قتلاه وحطام آلياته تحت جنح الظلام في محاولة لإخفاء خسائره الفادحة عن العالم.
“كانت أولاً بيروت”…
“… إلى السـلاح تنظيماً للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال وتحريراً لأرض لبنان من رجسه على امتداد هذه الأرض من أقصى الوطن إلى أقصاه… أيها اللبنانيون، إن واجب الدفـاع عن الوطن هو أقـدس واجب، إن شرف القتال ضد المحتل هو الشرف الحقيقي الذي ينبغي لكل وطنيٍّ أن يفاخر به. فلتنتظم صفوف الوطنيين اللبنانيين كـافة وبغض النظر عن انتماءاتهم السـابقة وعن الاختلافات الأيديولوجيّة والطائفية والطبقية، في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كسراً للقيد الذي تحاول أن تفرضه اليوم أميركا وإسرائيل على عنق شعبنا الحر ورفعاً لراية التحرر الحقيقي لشعبنا العظيم”، بهذه النداءات ولدت “جمول”. وصباح الجمعة 17 أيلول/ سبتمبر 1982، حملت الصحف اليومية اللبنانية في عناوينها خبراً هاماً مفاده الإعلان عن انطلاقة “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” (جمول) من أجل تحرير الوطن من الاحتلال الإسرائيلي…
واستجاب الشيوعيون وسائر الوطنيين اللبنانيين لهذا النداء، فكانت العملية الأولى ليل 20-21 أيلول/سبتمبر 1982 في منطقة الصنائع، نفذها ثلاثة شيوعيين وأسفرت عن سقوط 8 جنود للعدو بين قتيل وجريح. وكرت السبحة، وتوالت العمليات ضد الاحتلال، فشهد شهر أيلول/ سبتمبر 1982، الشهر الذي تمركزت فيه القوات الإسرائيلية في العاصمة، والشهر الذي أُعلنت فيه ولادة الجبهة، في 16 أيلول/سبتمبر 8 عمليات، أهمها في الصنائع ومحطة أيوب ومقر منظمة التحرير الفلسطينية في كورنيش المزرعة. وفي ما يلي بعض التفاصيل عنها:
20 أيلول/ سبتمبر
في منطقة الصنائع ببيروت، وبالتحديد في موقع تجمع إسرائيلي يقع قرب صيدلية بسترس، في محيط سينما كونكورد، تمت العملية الأولى للمقاومة الوطنية اللبنانية تنفيذاً للقرار الصادر في 16 أيلول/ سبتمبر ببدء العمليات لطرد قوات الاحتلال من العاصمة اللبنانية، وتمهيداً لطردها من كل لبنان.
الموقع كان مهماً جداً: فهو، من جهة، يقع بالقرب من مقر رئاسة الوزراء والإذاعة الرسمية، ومن جهة أخرى يضم عشرات الجنود الإسرائيليين وأكثر من 15 آلية، هذا عدا عن سيارات الجيب. ولأن الموقع مهم كانت الحراسة مشددة حوله، وقد تجسد ذلك في انتشار جنود الاحتلال على سطوح البنايات الشاهقة التي تحيط به.
سلاح العملية الأولى كان القنبلة اليدوية. وقد سقطت للعدو نتيجتها 8 إصابات بين قتيل وجريح (بعد يومين من تنفيذ العملية، اعترف العدو الإسرائيلي بأربع إصابات).
وبعد تنفيذ العملية صدر أول بيان عن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، جاء فيه: “ليل الإثنين-الثلاثاء هاجمت مجموعة من قوات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية جنود الاحتلال الإسرائيلي في منطقة الصنائع، وذلك بالقنابل اليدوية، فجرحت وقتلت ما لا يقل عن 8 جنود للعدو. وهرعت سيارات الإسعاف إلى مكان الحادث؛ فيما عادت المجموعة إلى أماكنها سالمة. إن هذه العملية جزء من نضال كل المقاتلين الوطنيين من أجل طرد الاحتلال وإجلائه عن تراب الوطن”.
22 أيلول/ سبتمبر
على مدخل منطقة زقاق البلاط، في بيروت، وبالتحديد على مقربة من “محطة أيوب” للمحروقات الواقعة على بعد أمتار من منزل السفير البريطاني، تمت العملية الثانية في الساعة السابعة والنصف مساءً، وقد استخدمت فيها قذائف الـ”ب7″ ورشاشات “الكلاشنكوف”. وقد أسفرت العملية عن إصابة دبابة وملالة، كما جرح وقتل عدد من جنود العدو.
23 أيلول/ سبتمبر
في مقر “منظمة التحرير” الواقع في وسط كورنيش المزرعة، أقامت القوات الصهيونية أحد المراكز العسكرية الضخمة، وانتشر الجنود على الطريق المؤدي إلى المبنى وعلى سطحه وشرفاته، بحيث لا يمكن لأي كان أن يقترب منه خلسةً؛ ورغم ذلك، وفي الساعة السابعة والنصف من مساء ذلك اليوم، وفي أحد الشوارع المتفرعة من حي السريان والمواجهة للمبنى، التقت صدفةً مجموعتان للمقاومة. وجرى التنسيق سريعاً بينهما: واحدة تهاجم والثانية تتولى الحماية.
تم الهجوم بالأسلحة الرشاشة، وأصيب خلاله عدد من جنود العدو بين قتيل وجريح (إذاعة جيش العدو الإسرائيلي اعترفت بإصابة 3 جنود).
24 أيلول/ سبتمبر
عملية “الويمبي” التي نشر “مدار” تفاصيلها يوم الجمعة 24 أيلول/ سبتمبر الجاري.
مقال مقترح: عندما قال منفذ عملية “الويمبي” لجنود الاحتلال في بيروت: الحساب عندي
25 أيلول/ سبتمبر
قرب جامع عائشة بكار في بيروت، وعند حوالي الساعة العاشرة صباحا، أطلق شاب النار على سيارة “جيب” تقل جنوداً إسرائيليين. وقد أصيب أحد الجنود إصابة مباشرة.
وفي محلة الجناح، إلى الجنوب الغربي من بيروت، وبعد ساعتين فقط من العملية الأولى، تم تدمير ملالة للعدو بواسطة ألغام يجري التحكم بها عن بعد (الناطق الإسرائيلي اعترف بتدمير الناقلة وبإصابة ثلاثة جنود).
وفي مبنى منظمة التحرير مجدداً، وعند السابعة والربع مساءً، تم تنفيذ عملية من المنطقة نفسها -حي السريان- التي نفذت عبرها العملية الأولى على هذا الموقع. الأسلحة المستخدمة هذه المرة هي قذائف “ب 7” ورشاشات. كانت نتيجة العملية: تدمير ناقلات جنود وإصابة عدد من جنود الاحتلال بين قتيل وجريح.
قرب صيدلية بسترس في منطقة الصنائع ببيروت، وحيث كانت العملية الأولى، تمت العملية الأخيرة للجبهة في العاصمة، ففي اليوم التالي بدأ العدو الإسرائيلي الانسحاب من بيروت.
وعند الحادية عشرة ليلاً، تسلل ثلاثة مقاتلين إلى موقف سيارات مواجه للموقع، وتم أطلاق قذيفة “اينرغا” مرفقة برشقات أسلحة رشاشة، انسحبوا بعدها بسلام.
تحرير بيروت…
فرضت العمليات البطولية النوعية المتتالية لـ”جمول”، التي نفذت خلال شهر أيلول/ سبتمبر 1982، على العدو الانسحاب، إذ بدأت قواته تجوب شوارع مدينة بيروت موجهة نداء استغاثة عبر مكبرات الصوت: “يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا نحن منسحبون”؛ فجاء وسم “كانت أولاً بيروت” منذ بضع سنوات تأكيداً على أهمية الدور الذي لعبته “جمول”، فمنذ انطلاقتها لاحقت العدو الصهيوني في شوارع بيروت وكبدته خسائر فادحة وأذلته وأجبرته على الانسحاب، فتم تحرير العاصمة في 27 أيلول/ سبتمبر.
ونجح مناضلو ومناضلات “جمول” منذ 39 عاماً في تحرير بيروت، معلنين بدء مسيرة النصر والتحرير… وواصلت “جمول” ملاحقتها جيش الاحتلال، فنفذ أبطالها مئات العمليات ضده من بيروت إلى الجبل وخلدة ثم إقليم الخروب وصيدا والزهراني وصور والبقاع الغربي، فانكفأ الجيش الإسرائيلي وعملاؤه إلى ما سمي “الشريط الحدودي”.
تجدر الإشارة إلى أن “جمول” رغم عملياتها النوعية لم تعتمد على التسويق الإعلامي منذ انطلاقتها، إذ كان هدفها مواجهة الاحتلال والتخطيط ولتحقيق انتصارات التحرير وليس الاستعراضات؛ ومن أطلقها لديه مشروع متكامل لبناء وطن سيد وحر، مستقل وديمقراطي،
وهدف بطرحه الفكري السياسي تمييز المقاومة الوطنية لضرورة ربط التحرير بالتغيير الديمقراطي.
وفي السياق، في نهاية عام 1982 أصدرت الجبهة بياناً سياسياً تحدد فيه موقفها من القضايا المطروحة آنذاك، موردة: “حتى الآن اعتمدنا سياسة عدم الضجيج الإعلامي، سياسة أن تكون الضربة أقوى من الصدى. لم نطنطن كثيراً بما قمنا به لأننا نريد أن نكرس نهجاً جديداً، نهج الجدية والصدق والموضوعية، رغم تقديرنا لجميع وسائل الاعلام التي غطت تقريباً الجزء الأكبر من عملياتنا، فهي قامت بهذا الدور في الواقع بدون جهد كبير بذلناه نحن من أجل ذلك…”.
كما يُشار إلى أن “جمول” تمكّنت بين أيلول 1982 ونيسان 1985 من تحرير 2600 كلم2 من أصل 3450 كلم2 تم احتلالها من قبل العدو الإسرائيلي، بينها بيروت والمدن الكبرى، كصيدا وصور والنبطية والبقاع والجبل. كما نفذت 1113 عملية عسكرية… وقدمت حياة 196 مقاوماً شهيداً ونحو 1200 جريح وحوالي 4000 مقاوم ومناصر تم الزج بهم في معتقلات عتليت وأنصار والخيام وفي السجون الصهيونية داخل الأراضي المحتلة.
ومازال للحزب الشيوعي اللبناني رفات 9 شهداء من مناضلي “جمول” محتجزة في مقابر الأرقام لدى العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة.