سيبقى الفلسطينيون في أرضهم: المراسلة 13 (2024)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 28 آذار/ مارس 2024

فيجاي براشاد

صورة الواجهة: نبيل العناني (فلسطين)، السعي وراء المدينة الفاضلة # 1، 2020.

عقد جاريد كوشنر صهر دونالد ترامب  وكبير مستشاريه خلال ولايته الرئاسية، في 15 شباط/ فبراير 2024، مقابلة طويلة مع البروفيسور طارق مسعود في جامعة هارفارد. وخلال هذا النقاش، تحدث كوشنر عن “ثروات المنطقة البحرية المواجهة لغزة”، والتي كما قال يمكن أن تكون “ذات قيمة كبيرة”، وتابع، “لو كنت مكان إسرائيل، سأقوم بتجريف شيء ما في [صحراء] النقب وكنت سأحاول نقل الناس [من غزة] إلى هناك … سيكون إنهاء المهمة هو الخطوة الصحيحة”.

اختيار كوشنر لصحراء النقب هو أمر مثير للإهتمام، إذ أنها تقع في ما يسمى الآن جنوب إسرائيل، وكانت منذ فترة طويلة مكانا للصراع والتوتر. في أيلول/ سبتمبر 2011، أقرت الحكومة الإسرائيلية مشروع إقامة مستوطنة بدو في النقب والذي يعرف أيضا بمخطط “برافر-بيغن”، ويروم إخلاء 70 ألف بدوي فلسطيني من 35 قرية فلسطينية غير معترف بها. ينصح كوشنر إسرائيل الآن بنقل المزيد من الفلسطينيين وبشكل غير قانوني إلى النقب، وهم الذين دُفع بالكثير منهم في الأصل إلى غزة من مدن كانت جزءا من فلسطين وأصبحت الآن داخل إسرائيل. ربما يعلم كوشنر بأن ترحيل السكان إلى النقب والاستيلاء على غزة، هما أمرين غير قانونيين بموجب المادة 49 من اتفاقية جنيف لسنة 1949.

عبد عبدي ( فلسطين)، مذبحة اللد، 1980.

إن التهجير التي تعرض له البدو الفلسطينيون عام 2011 والذي يواجهه  الفلسطينيون في غزة اليوم، شبيه بالمحنة التي حلت بالفلسطينيين منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية عام 1948.

يُحيي الفلسطينيون منذ 1976  يوم الأرض في الثلاثين من كل آذار/ مارس، وهي ذكرى مقتل ستة فلسطينيين خلال مسيرة جماهيرية ضد محاولة إسرائيل القضاء على الفلسطينيين في الجليل وتهويد هذه المنطقة.

لقد حاول النظام الإسرائيلي ضم الجليل والنقب بالكامل منذ عام 1948 ولكنه واجه مقاومة شرسة من الفلسطينيين بما فيهم البدو الفلسطينيين، وفشل العنف الإسرائيلي في ترهيب وتطهير المنطقة لإقامة إسرائيل الكبرى (Eretz Yisrael Hashlema)، من نهر الأردن حتى البحر الأبيض المتوسط. لم تعد إسرائيل قادرة على تحقيق مآربها، ولا تستطيع القضاء على الفلسطينيين أو البدو. ويبقى حلمها في إقامة دولة صهيونية خالصة أمرا عقيما.

سماح شحادة ( فلسطين)، منسف، 2018.

في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 1975، انتخب سكان الناصرة الشاعر المرموق توفيق زياد من الحزب الشيوعي (راكاح) بنسبة 67 % من الأصوات. وعُرف زياد “أبو الأمين” (1929-1994) بـ “الجدير بالثقة” نظرا لدوره المتواصل في تشكيل جبهة موحدة بين فلسطينيي الجليل ضد سياسات الإخلاء القسري الإسرائيلية، وقد اعتقل في عدة مناسبات على خلفية هذه الأنشطة، لكنه لم يتزعزع أبدا.

التحق زياد بالحزب الشيوعي (الإسرائيلي: ملاحظة مدار) سنة 1948، وأصبح رئيسا لمؤتمر العمال العرب الناصرة عام 1952، وقاد الحزب في مسقط رأسه في الناصرة، وفاز بمقعد في الكنيست (البرلمان الاسرائيلي) في 1973 و أصبح بعدها رئيسا لبلدية مدينته سنة 1976 كمرشح عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. وقد شكل فوزه مفاجأة للإستابليشمنت الإسرائيلية، ولقي إشادة من فلسطينيي الجليل الذين كانوا يناضلون ضد محاولات سرقة أراضيهم وبيوتهم منذ 1948.

أعلنت السلطات الإسرائيلية سنة 1975 أنها ستصادر 20 ألف دونم (80 مليون متر مربع) من أراضي العرب، معظمها في وسط الجليل أو “المنطقة 9″، مما يعني انقراض قرى عرابة، دير حنا وسخنين.

لم تكن هذه المخططات بالجديدة، فابتداء من 1956، أنشأت اسرائيل مدنا لتهجير القرى العربية المحيطة بالناصرة مثل دير حنا، دير الأسد و نحف: وأحدثت في الأول، نتسيرت عيليت (المعروفة بنوف هجليل منذ عام 2019 )، ثم أنشأت كرمئيل في العام 1964.

عندما زرت الناصرة سنة 2014، تم اصطحابي لجولة في محيط المدينة لأرى كيف تم تصميم المستوطنات الخاصة باليهود لخنق المدينة الفلسطينية القديمة. أخبرتني حنين الزعبي، والتي أصبحت لاحقا عضوا في الكنيست عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي كجزء من القائمة المشتركة، كيف غدت الناصرة، حيث مسقط رأسها، شبيهة بالضفة الغربية، محاصرة بالمستوطنات الغير شرعية، جدار الفصل العنصري، نقاط التفتيش والهجمات  المستمرة من قبل القوات العسكرية الإسرائيلية.

فاطمة شنان (فلسطين)، فتاتان تحملان سجادة، 2015.

قبيل الإضراب العام الذي كان مقررا في 20 آذار/ مارس 1976، أرسل النظام الاسرائيلي وحدة عسكرية مسلحة إضافة إلى الشرطة لقمع الفلسطينيين العزل بدون رحمة، مما خلّف مئات الجرحى وستة قتلى.

كتب توفيق زياد الذي قاد الإضراب أن هذا الحدث “كان نقطة تحول في النضال”، وترتب عنه “زلزال صدم الدولة بأكملها”، وقال إن النظام الإسرائيلي أراد أن يلقن العرب درسا ولكن ذلك “ترتب عنه رد فعل أكبر من الإضراب بحد ذاته، وتجلى ذلك في جنازات الشهداء الذين ارتقوا في الإضراب، والتي شارك فيها عشرات الآلاف من الناس”، وأصبح ذلك التاريخ هو يوم الأرض والذي يشكل الآن جزءا من الأجندة النضالية من أجل تقرير المصير الوطني الفلسطيني.

لم يردع الاحتجاج الشعبي النظام الاسرائيلي، ففي السابع من أيلول/ سبتمبر 1976 نشرت صحيفة “عل همشمار” العبرية مذكرة كتبها يسرائيل كونيغ الذي كان يدير المنطقة الشمالية بما في ذلك الناصرة. دعت مذكرته العنصرية الى مصادرة الأراضي الفلسطينية لإقامة 58 مستوطنة يهودية جديدة وإجبار الفلسطينيين على العمل طوال اليوم حتى لا يكون لديهم وقت للتفكير. ولم يتنصل رئيس الوزراء حينها إسحاق رابين من هذه المذكرة والتي قدمت أيضا تفاصيل خطط لتهويد الجليل. لم تتوقف هذه المخططات أبدا.

قررت الحكومة الاسرائيلية سنة 2005 أن يتولى نائب رئيس الوزراء إدارة الجليل والنقب. وقال شمعون بيريز الذي شغل هذا المنصب آنذاك إن “تطوير النقب والجليل هو أهم مشروع صهيوني في السنوات القادمة”، وخصصت الحكومة 450 مليون دولار لتحويل هاتين الجهتين إلى مناطق ذات غالبية يهودية، وطرد الفلسطينيين بما فيهم البدو الفلسطينيين. لقد بقيت الخطة على ما هي عليه.

فاطمة الرومي ( فلسطين)، حماران، 2023.

من السهل رفض تصريحات جاريد كوشنر باعتبارها مجرد تخيلات تنطوي على قدر من السخافة. ومع ذلك، فإن القيام بهذا سيكون مضللا:كان كوشنر مهندسا لاتفاقات أبراهام في مرحلة ترامب، والتي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والبحرين، المغرب والإمارات العربية المتحدة؛ وتربطه علاقات وثيقة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الذي اعتاد البقاء في غرفة نوم طفولة كوشنر في ليفينغستون ولاية نيو جيرسي).

النقب صحراء حارة، مكان لا يزال قليل السكان حتى بعد طرد الكثير من البدو الفلسطينيين، ولكن غزة تتمتع بالمؤهلات كأن تكون منتجعا ساحليا وقاعدة لاستغلال إسرائيل لاحتياطيات الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط. وهذا ما يفسر الاهتمام المستمر الذي حظيت به في الأجندة الصهيونية، وعبّر عنها تصريح كوشنر الفظ. ولكن إذا كان للتاريخ أن يقول كلمته، فمن غير المرجح أن ينتقل الفلسطينيون من غزة إلى النقب أو حتى صحراء سيناء. سيقاتلون وسيبقون.

توفيق زياد في يافا عام 1974، المصور غير معروف، (عن أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي).

بعد عودته إلى فلسطين من موسكو، عام 1965، كتب توفيق زياد قصيدة “هنا باقون”، ونشرت في السنة الموالية في حيفا، من طرف صحيفة الاتحاد، إلى جانب قصيدة “أشد على أياديكم”، التي أداها المغني المصري الشيخ إمام، وحفظها الأطفال الفلسطينيون حول العالم (حملت دمي على كفي .. وما نكست أعلامي).

زادت أحداث 1976 من شعبية زياد في الناصرة حيث بقي رئيسا للبلدية حتى مقتله سنة 1994، إذ قتل بشكل مأساوي في حادث سير أثناء عودته من الضفة الغربية، حيث ذهب لتهنئة ياسر عرفات والترحيب به بعد اتفاقات أوسلو. بالتفكير في يوم الأرض وفي غزة، ها هي قصيدة الرفيق زياد “هنا باقون”*:

كأننا عشرون مستحيل
في اللد، والرملة، والجليل
هنا.. على صدوركم، باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج، كالصبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار

هنا.. على صدوركم، باقون كالجدار
ننظف الصحون في الحانات
ونملأ الكؤوس للسادات
ونمسح البلاط في المطابخ السوداء
حتى نسل لقمة الصغار
من بين أنيابكم الزرقاء

هنا على صدوركم باقون، كالجدار
نجوع.. نعرى.. نتحدى
ننشد الأشعار
ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات
ونملأ السجون كبرياء
ونصنع الأطفال.. جيلا ثائرا.. وراء جيل

كأننا عشرون مستحيل
في اللد، والرملة، والجليل
إنا هنا باقون
فلتشربوا البحرا
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار، كالخمير في العجين
برودة الجليد في أعصابنا
وفي قلوبنا جهنم حمرا
إذا عطشنا نعصر الصخرا
ونأكل التراب إن جعنا.. ولا نرحل
وبالدم الزكي لا نبخل.. لا نبخل.. لا نبخل
هنا.. لنا ماض.. وحاضر.. ومستقبل

كأننا عشرون مستحيل
في اللد، والرملة، والجليل
يا جذرنا الحي تشبث
واضربي في القاع يا أصول
أفضل أن يراجع المضطهد الحساب
من قبل أن ينفتل الدولاب
لكل فعل:… إقرأوا
ما جاء في الكتاب

*زاد “مدار” من الأبيات أكثر من الاقتباس الوارد في النسخة الإنجليزية، وذلك لدواعي أدبية، وحتى يتحقق الغرض ويصل المعنى.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة