ريتشارد ليونتين.. أحد المكافحين ضد كل أساس بيولوجي للعرق

مشاركة المقال

بريسينزا/ مدار: 12 أغسطس/ غشت 2012

برابير بوركاياستا*

توفي الناشط الماركسي وصاحب كتاب عالم الأحياء الدياليكتيكية، ريتشارد ليونتين، في 4 يوليو/ تموز عن عمر ناهز 92 عاما، وبعد ثلاثة أيام عن وفاة زوجته التي وافقته لما يزيد عن 70 عاما. لقد كان ريتشارد أحد مؤسسي علم الأحياء الحديث، الذي يرتكز على ثلاثة تخصصات أساسية: الإحصاء، علم الأحياء الجزيئي وعلم الأحياء التطوري؛ ومن خلال مساهمته هذه كان له الدور المهم في محاربة العنصرية الفضة التي ترتدي رداء العلم، كما أنه ساهم في إلقاء الضوء على الماهية الحقيقية للعلم.

انطلاقا من كل هذا فإن ريتشارد ينتمي إلى مجموعة صغيرة من العلماء الذين استطاعوا أن يوازنوا بين عملهم في المختبر وقدرتهم على التحدث عن العلم والإيديولوجيا على المستوى الفلسفي. ليونتين هو أحد المنظرين والدعاة لما يمثله العلم، كما أنه متصل بما هو غير ذلك.

لطالما كان ليونتين يستحضر ما يعنيه أن تكون راديكاليا: العودة إلى الأساسيات من أجل استنباط وجهة نظر. لقد كانت هذه الطريقة مهمة وضرورية لأنها تجعل من البحث المعمق أداة قوية في العلم، بالمقارنة مع الطرق الكسولة التي تعتمد على ربط المواقف ببعض وجهات النظر الطبقية. ما هي العلاقة بين الجينات، العرق، الطبقة والجنس؟ هل ينبع التفوق الاجتماعي من الجينات المتفوقة أم من الاختلافات البيولوجية بين الجنسين؟ لقد كان ليونتين يعتقد بصفته ناشطا ماركسيا أننا بحاجة إلى النضال على مستويين: على مستوى فضح الصور النمطية للطبقة، العرق والجنس، باعتبارها انعكاسا للقوة داخل المجتمع، بالإضافة إلى مستوى العلم الراديكالي من خلال الاعتماد على أساسيات النظرية العلمية والبيانات.

يتشارك كل من ريتشارد ليونتين وعالم البيئة والوراثة السكانية ريتشارد ليفينز شغف التعمق والبحث في البيولوجيا والنشاط الاجتماعي والماركسية، كما أنه من غير المعروف أن صديق ليونتن المقرب ستيفن جاي جولد، وهو عالم أحياء وحفريات وكاتب مهتم في العلوم الشعبية، هو أيضا من بين الزملاء الماركسيين. لقد خاض هؤلاء العلماء الثلاثة طيلة حياتهم معركة ضد التمييز العنصري في علم الأحياء، وفيما نقل البعض هذه المعركة إلى البيولوجيا الاجتماعية، هذا التخصص الذي سعى إلى “تفسير” كل ظاهرة اجتماعية على أنها مشتقة من جيناتنا. لقد اعتقد عالما الأحياء التطورية ويلسون وريتشارد دوكينز _ بالإضافة إلى كثيرين _ أن البشر مبرمجون بحيث لا يمكن للمجتمع أن يعبر سوى عما هو موجود في جيناتنا، فوفق وجهة نظرهم فإن الأجناس البيضاء متفوقة بسبب تفوقها الجيني. تشهد الهند أيضا هذا النوع من النظريات الوراثية للطبقة، التي تسعى إلى شرح الاختلافات المفترضة بين المجموعات الطبقية، فطالما هناك اختلافات كبيرة بين مجموعات من الأشخاص – بناء على الطبقة، العرق، الجنس أو الطبقة الاجتماعية – فسيتم دائما تقديم تفسيرات بيولوجية لهذا الاختلاف.

من أبرز الأعمال التي قدمها ليونتين هي اكتشافه مقدار التنوع الجيني الموجود داخل الأنواع، وجاء ذلك في وقت لم نكن نعرف أي شيء عن عدد الجينات التي يمتلكها البشر؛ وقد كان تخمين ليونتين أن العدد هو 20 ألفا، وهو رقم أصغر بكثير مما كان يعتقده علماء الأحياء آنذاك، وقريب بشكل كبير مما هو معروف اليوم، وأحد الأسباب التي جعلت العلماء الأوائل يعتقدون أن هناك عددا أكبرا بكثير من الجينات التي تحمل سمات مختلفة، هو إيمانهم بأن الأعراق لها اختلافات بيولوجية كبيرة.

استخدم كل من ليونتين وعالم الوراثة جون هوبي تقنية البروتين الكهربائي الهلامي، التي طورها هابي، لتحديد التنوع الجيني لذباب الفاكهة، خصوصا أنه في ذلك الوقت كان الهدف المفضل لاختبارات النظريات الجينية في المختبر. لقد حاول العالمان من خلال هذا التمرين نقل تتبع التطور من مستوى الأنواع إلى اقتفاء التغيرات على المستوى الجزيئي – وهو أساس مجال التطور الجزيئي – باستخدام الأساليب الإحصائية، وأسفرت عن نتائج مذهلة، فعكس ما اعتقده معظم علماء الأحياء أظهر التمرين قدرا مذهلا من التنوع الجيني داخل مجموعة سكانية معينة، وكشف أيضا أن التطور أدى إلى استقرار وتنوع السكان داخل الأنواع. استخدم ليونتين هذه الطريقة في ما بعد على مجموعات دم بشرية لإظهار أن نتيجة التنوع الجيني المستقر تنطبق على البشر أيضا، وأبانت النتائج أن 85.4% من التنوع الجيني في البشر تم العثور عليه داخل مجموعة سكانية، فيما الـ6.3% الباقية هي التي تم إيجادها بين “السلالات”؛ الأمر الذي جعله يخلص إلى أن العرق لم يكن بنية بيولوجية بل تكوينا اجتماعيا.

شارك ليونتين بالإضافة إلى ستيفن جاي جولد في تأليف ورقة بحثية حول عدم توجيه التطور لتطوير كل ميزة نراها في الكائن الحي اليوم، والتي ربطا مسبباتها بالفروع العرضية المصاحبة لتغير جيني محدد ناتج عن التطور تحت الضغط. وشبه غولد وليونتين ذلك بالعناصر الموجودة في العمارة، فحين يتم نحت قوس من جدار مستطيل فإن هناك جزءا مثلثيا يبقى بين القوس والجدار يسمى spandrel. وهذا ما يقع عندما ترتكز القباب على هياكل مستطيلة، إذ إن نحت هذه الـ”spandrel” وتزيينها ليس سبب وجودها، لكن بمجرد إنشائها يمكنك استخدامها كيفما تريد. وبالمثل في الأنواع، تستفيد الطبيعة من الفروع العرضية للتغير التطوري تماما كما يتم في العمارة.

إن ما يميز كتابات ليونتين الشعبية والعلمية هو قدرته على ربط قضايا العلوم بالمجتمع، ونقده للفهم الاختزالي الخام للبيولوجيا، التي أطلق عليها اسم المغالطة الديكارتية: القائمة على أنه إذا تمكنا من تقسيم أجزاء الكل إلى مجموعة أجزاء مكونة ثم التوصل بعد ذلك لقوانين الأجزاء، سيمكننا ذلك من تجميع الكل وفهمه بالكامل. بالطبع لم تعد وجهة النظر الديكارتية قابلة للتطبيق حتى في الفيزياء، ناهيك عن شرح الكيمياء انطلاقا من الفيزياء أو علم الأحياء من الكيمياء (العضوية) أو المجتمع من علم الأحياء.

وهذا يعود بنا إلى التساؤل مرة أخرى، لماذا تتكرر هذه الرؤية، لاسيما في فهم عدم المساواة في المجتمع؟ قام ليونتين بتتبع هذه المحاولات المتكررة لإعطاء تفسيرات بيولوجية لعدم المساواة البنيوية العميقة داخل المجتمع، مشبها ذلك بوحش هيدرا الذي سيستمر في رفع رأسه مرارا وتكرارا طالما أن عدم المساواة الهيكلية موجودة في المجتمع. لقد كانت هذه هي المعركة التي خاضها ليونتين بمعية زملائه ضد العنصرية ومغالطة وضع الاعتماد الكبير على اختبارات الذكاء وعلم الأحياء الاجتماعي الذي سعى إلى تقديم تفسيرات لجميع التفاوتات الاجتماعية في علم الأحياء قائمة على أن التفاوتات مبرمجة مسبقا في جيناتنا.

لقد كانت هذه المعركة، التي دامت طوال حياة ليونتين، ولم تتحدد في علم الأحياء بل تجاوزت ذلك إلى مجال العلوم الأوسع، لاسيما أنه لم يفصل نضاله الإيديولوجي ضد العنصرية والطبقة الإمبريالية عن عمله، فقد رأى في هذه المعركة أنها صراع داخل العلوم وخارجها، بحيث يجب أن يتم خوضها على مستويين: على مستوى المجتمع وعلى مستوى العلم. لم يجادل ليونتين ببساطة في أن العرق هو طريقة خاطئة للنظر إلى الاختلافات المجتمعية، معتمدا في ذلك على بيانات تجريبية وأعمال نظرية. كانت هذه الأعمال دليلا على نزاهته كعالم وناشط اجتماعي.

عرفت الولايات المتحدة في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات اجتماع عدد كبير من العلماء التقدميين الذين قاموا بإنشاء منظمة تحت مسمى “العلم للناس”. تم إحياء المنظمة مؤخرا، خصوصا أنها كانت انعكاسا للحركات المناهضة للعنصرية والحرب في الولايات المتحدة. وتطرقت مناقشات الاجتماع حول العلم والمجتمع، خصوصا أن العلماء والنشطاء الاجتماعيين في الهند كانوا قد أنشؤوا حركة العلوم الشعبية بعد كل ما اختبروه.

قررت منظمة “العلوم للناس” أن ينكون لها دور أكبر وتتوغل أكثر داخل المجتمع العلمي، عكس الحركة في الهند التي ارتأت أنها يجب أن تكون حركة شعبية أكبر، ليس فقط في قضايا العلم والمجتمع، ولكن أيضا من خلال بناء المزاج العلمي في المجتمع.

يخلد فيلم أنتجته نتفلكس مؤخرا بعنوان “The Trial of the Chicago 7” الصراع الذي دار في الستينيات ضد حرب فيتنام. ويتناول الفيلم قصة بوبي سيل، أحد مؤسسي منظمة “الفهود السود”، وأحد الأشخاص الذين وجهت لهم الحكومة الأمريكية تهمة “التآمر وتنظيم احتجاجات مناهضة لحرب فيتنام في شيكاغو تزامنا مع مؤتمر الحزب الديمقراطي لعام 1968”. (هنتك فيلم يوثق بكيفية أفضل لهذه الحقبة أنتجته HBO تحت مسمى Conspiracy: The Trial of the Chicago 8). أثناء المحاكمة، اغتالت شرطة شيكاغو أحد القادة المهمين لـ”الفهود السود”، فريد هامبتون، الذي كان من بين المدافعين عن بوبي سيل. الجدوى من هذه القصة أن ليونتين ورفيقه المقرب ليفينز، المشاركان في كتاب “علم الأحياء تحت التأثير”، كان لهم دور في هذه الأحداث، لذا سأدعهم ليخبرونا كيف ارتبطوا بهذه الحركات:

“لقد كنا بالإضافة إلى دورنا كناشطين سياسيين رفاقا من ليكون العلم من أجل الشعب، من أجل فيتنام ومن أجل مؤتمر الجامعة الجديدة، بالإضافة إلى كفاحنا ضد الحتمية البيولوجية والعنصرية “العلمية”، ودعما للحركة الطلابية والحركات المناهضة للحرب. في اليوم الذي قتلت فيه شرطة شيكاغو أحد قادة “الفهود السود”، فريد هامبتون، قمنا بزيارة غرفة نومه وإذا بنا نجدها مازالت مليئة بالدماء بجانب مائدته المليئة بالكتب: لقد قتل بسبب نضاله المستميت. نشاطنا هو تذكير دائم بالحاجة إلى ربط النظرية بمشاكل العالم الحقيقي، مع استحضار النقد النظري، ففي الحركات السياسية غالبا ما يتعين علينا الدفاع عن أهمية النظرية لكي لا نغرق أنفسنا فقط في الحاجيات الآنية، بينما في الأوساط الأكاديمية مازال الحديث عن أن الحق في الغذاء بالنسبة للجائعين ليس بالحق الفلسفي. هنا تكمن المشكلة”.

علم الأحياء تحت التأثير، هي مجموعة مقالات بقلم ليونتين وليفينز نشرت عام 2007، وكانت مخصصة لخمسة كوبيين – الكوبيين الخمسة – الذين قاموا باختراق إحدى الجماعات الإرهابية الكوبية الأمريكية في ميامي، التي كانت مدعومة بشكل كبير من قبل الولايات المتحدة، ونتيجة لذلك هم الآن يقضون عقوبة سجنية طويلة في الولايات المتحدة.

كان كل من ليونتين وليفينز من الماركسيين والناشطين الذين خاضوا معركة ضد العنصرية، الإمبريالية والقمع الرأسمالي، استمرت طيلة حياتهم، فقد ساهموا في إدخال الماركسية إلى علم الأحياء وقضاياها الفلسفية الأكبر. كرس هذان العالمان كتابهما الصادر عام 1985، تحت عنوان “عالم الأحياء الجدلي” إلى فريدريك إنجلز، “الذي أخطأ في كثير من الأحيان، ولكن في الواقع كان فهمه صحيحا للأمور حين يعتمد عليه”. ينطبق هذا أيضا على ليونتين الذي كان له دور كبير وفي الوقت المناسب في مجال العرق، الطبقة وعلم الوراثة.

*أنجز هذا المقال بشراكة بين نيوز كليك و مشروع غلوب تروتر.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة