مدار: 17 آذار/ مارس 2021
عشر سنوات مرت على “الربيع الليبي”، إذ اندلعت الانتفاضة في 15شباط/ فبراير في بنغازي أولاً، ثم تمددت إلى باقي المناطق الليبية، وبعد تسعة أشهر، من مقتل الرئيس معمر القذافي في 20 أكتوبر/تشرين الأول، الذي حكم البلاد منذ أيلول/ سبتمبر/ 1969، بدعم جوي من حلف الناتو في آذار/مارس، سقط نظامه الذي دام اثنتي وأربعين سنة، لكن الثوار الليبيين لم ينجحوا في التوصل إلى توافق داخلي.
إثر ذلك نظمت ليبيا أول انتخابات في تاريخها في تموز/ يوليوز، أفرزت “المؤتمر الوطني العام” (البرلمان) في غشت/ آب، لكنها سرعان ما دخلت في انقسام سياسي بين برلمانين وحكومتين، وانزلقت إلى حرب أهلية، إذ استمر الثوار في حمل السلاح بينما كان من المتوقع أن تتفرغ البلاد لعملية إعادة بناء الدولة وتحقيق تطلعات الجماهير المنتفضة، وتسهيل المرحلة الانتقالية.
وزع المنتصرون “الغنيمة” إلى ثلاث مناطق متحاربة: الشرق حيث غرفة البرلمانيين، وحيث يسود الماريشال خليفة حفتر في بنغازي، الذي نصب نفسه على رأس ما سماه الجيش الوطني الليبي؛ والغرب في طرابلس، حيث تسود “حكومة الوفاق الوطني” المعترف بها من لدن الأمم المتحدة؛ بينما سادت جنوبا في منطقة فزان الغنية بالنفط ميليشيات التوبو، التي يتوزع ولاؤها بين المعسكرين.
وتحولت ليبيا إلى ساحة للتدخلات الأجنبية، فحكومة الوفاق الوطني تلقى الدعم من تركيا وقطر، وأيضا بدرجة أقل من إيطاليا وألمانيا، أما حفتر فيتلقى مساندة مصر والإمارات العربية المتحدة والسعودية، وهو التحالف المعادي للإخوان المسلمين، كما يلقى دعم روسيا الطامحة إلى تعزيز نفوذها في البحر الأبيض المتوسط، والتي دفعت بـ”مرتزقة الفاغنر” إلى اكتساح التراب الليبي. ورغم الدعوات الدولية الملحة بهذا الشأن، فإنه لم تظهر أي مؤشرات على انسحاب قريب للمرتزقة من ليبيا، الذين تقدر الأمم المتحدة عددهم بنحو 20 ألفا، حيث تتصرف روسيا ببرغماتية بمساعدة حليفها الليبي في حدود مدروسة، وترى مصلحتها في عدم تعافي الوضع، وألا يميل ميزان القوى كثيرا، كما وقع في تموز/يوليو حين حطت طائرات ميغ 29 وسوخوي 24 في منطقة الجرفة، دون أن تتدخل لمنع القوات التركية من الهجوم على الحليف.
أما فرنسا الضالعة في الأزمة الليبية منذ البداية فاختارت اللعب على الحبلين، إذ لم تقطع مع معسكر طرابلس، في وقت تساند سرا حفتر. ففي يوليو 2019/تموز جرى اكتشاف أسلحة فرنسية في طرابلس بعد أن تخلت عنها قوات حفتر.
ولم تتوافق أطراف النزاع قط على نتائج الانتخابات، فبعد قرار المحكمة العليا في أيلول/سبتمبر 2014 ببطلان الانتخابات البرلمانية الثانية التي جرت في 25 يونيو/ حزيران من العام عينه، دعا حفتر مجلس النواب إلى عقد جلساته في مدينة طبرق، أقصى شرق البلاد، وحوّله إلى واجهة سياسية شرعن من خلالها “عملية الكرامة” التي أطلقها في شباط/فبراير 2014؛ ما حدا بـ”كتائب الثوار” التي كانت حكومة “المؤتمر الوطني العام” تعمل على دمجها في المؤسسات العسكرية والأمنية إلى إعلان “الثورة” مجدداً وإطلاق عملية عسكرية عُرفت وقتها بـ”فجر ليبيا”، طُرد خلالها من العاصمة طرابلس أنصار الانتخابات البرلمانية المبطلة بحكم القضاء، وأعادت “المؤتمر الوطني العام” مجدداً إلى الواجهة السياسية.
تدخلت الأمم المتحدة بقوة لإقناع الطرفين بالجلوس إلى طاولة حوار، وعقد أكثر من اتفاق في الصخيرات وبوزنيقة (المغرب) وفي جنيف وبرلين وغيرهما من العواصم دون أن تتقدم أطراف النزاع في إيجاد حل.
كما عرفت ليبيا أكثر من حرب، فخلال 6 أشهر من عام 2013 اندلعت حرب بين الطوارق والتبو وبين التبو والزوية وأخرى بين القذاذفة وأولاد سليمان، حيث لا توجد دولة في الجنوب الليبي بتاتاً، وهو منقسم إلى مناطق نفوذ قبلي تسعى كل قبيلة فيه إلى توفير الأمن لأبنائها.
وشجع الوضع الأمني نشاط عصابات تهريب الوقود والسلع والمخدرات والخطف من أجل المال وصولاً إلى تهريب البشر عبر الحدود الجنوبية إلى نقاط “قوارب الموت” على الساحل الشمالي، في وقت انخرطت النخبة طوال هذه السنين في مداولات سياسية، لكنها لم تجد حلولا لأزمة البلد المنهار، فحتى بعد نجاح اتفاق الصخيرات، في كانون الأول/ ديسمبر 2015، في تشكيل حكومة وفاق وطني انقسم النواب في طبرق على خلفية منحها الثقة.
وكان تمسك مجلس النواب بحكومته في الشرق وعدم اعترافه بحكومة الوفاق سبباً رئيسياً لتقديم الحماية السياسية لحفتر حتى منتصف عام 2018، ومن ثم اتساع دائرة الدعم العسكري من حلفائه الذين رأوا فيه، وقتها، الرجل الأنسب لتكرار النموذج العسكري الذي حدث في الجارة مصر. ومكّن ذلك الدعم حفتر من السيطرة على أغلب أجزاء البلاد، خصوصاً مواقع النفط المهمة للمجتمع الدولي، ما جعله مفاوضاً أساسياً للمرة الأولى في المحادثات التي استضافتها فرنسا في أيار /ماي 2018 مع قادة مجلسي النواب ورئيس حكومة الوفاق، وبعدها في باليرمو الإيطالية في تشرين الثاني/نونبر من العام عينه.
آخر هذه اللقاءات كان في أبو ظبي في شباط/فبراير 2019، وهو لقاء تلقى فيه حفتر كل التنازلات من جانب السراج، حسب مصادر عدة، لكنه انقلب على الاتفاقات، كما انقلب على الجهود الأممية التي كانت ستتوج بعقد ملتقى غدامس منتصف نيسان/نيسان 2019، مع بدئه حملة عسكرية استهدف خلالها العاصمة.
وفي خضم كل ذلك، جاء إعلان توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين حكومة الوفاق والحكومة التركية، فضلاً عن توقيع مذكرة للتعاون الأمني، ليعيد خلط الأوراق وتصعيد الخلافات الدولية حول الملف الليبي، خصوصاً بين تركيا التي بدت حاسمة في خيارها بالوقوف إلى جانب الوفاق ضد حفتر مقابل روسيا التي تصر على تغطيته إلى جانب دول غربية أخرى وأخرى إقليمية وعربية، تتقدمها مصر والإمارات والسعودية، التي تمده بمختلف أنواع الدعم العسكري.
ووسط اتساع دائرة التوتر، تسارعت الخطى لعقد قمة دولية في برلين بعدما حاولت ألمانيا لأشهر طرح نفسها طرفاً قادراً على جمع الأطراف الخارجية والمحلية الفاعلة في ليبيا. وهو ما حصل بالتزامن مع وقف إطلاق نار كانت قد دخلته ليبيا منذ 12 يناير/ كانون الثاني الماضي، وتخلله الاتفاق على عدد من المخرجات، أبرزها تعهد الدول المشاركة في المؤتمر بعدم التدخل في الحرب الليبية ودعم حظر الأسلحة المفروض من قبل الأمم المتحدة التي تبنى مجلس الأمن الدولي فيها قبل أيام قراراً يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار في ليبيا في أقرب فرصة ودون شروط مسبقة، معرباً عن “القلق من تدخل المرتزقة المتزايد في ليبيا”، بعد أسابيع من الخلافات والنقاشات بشأنه.
البلد الذي يسبح فوق بحر من النفط فقد السيطرة على ثروته النفطية بعد أن امتدت لها يد النهب، وهكذا تحول النفط الليبي، عصب الحياة في البلاد، إلى “لعنة ليبيا” التي تؤجج طمع القوى الإمبريالية، وأصبحت مناطقها تعاني أزمة وقود، كما جرى أكثر من مرة على مدار عقد من الزمن في أكثر من منطقة.
يذكر أنه جرت أكثر من محاولة لوقف تدفق النفط على مدى السنوات الماضية، وجميعها كانت مرتبطة بحفتر وحلفائه. وقد توقف تصدير النفط عام 2013 على أيدي مسلحين مدعومين من دعاة الفدرالية المطالبين بحقوقهم في موارد النفط، بينما كانت المرة الثانية في 18 يناير الماضي على يد الجضران، قائد مليشيات حرس المنشآت النفطية، مطالباً بتوزيع عادل لموارد النفط التي فشل حفتر في الاستفادة منها على الرغم من مرور ثلاث سنوات على سيطرته الكاملة على حقول الهلال النفطي وموانئه.
ويحدث ذلك وسط تصاعد التدخلات الدولية والإقليمية في الصراع، على الرغم من أن بعض القوى الدولية شاركت في مؤتمر فيينا في ماي/ أيار 2015 ومؤتمر برلين في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، لبحث عملية السلام الليبية التي يظهر أنها بعيدة المنال.
مر عقد من الزمن على انتفاضة ليبيا ضد العقيد معمر، ولم تعرف البلاد أي استقرار، وتسيدت الميليشيات المسلحة الساحة مستبيحة الأعراض ومنتهكة أبسط حقوق الإنسان، بينما تتصارع النخبة في اللقاءات الدولية من أجل تقسيم المناصب “السيادية”.
لكن على الرغم من كل ذلك ينتظر عامة الليبيين بأمل مجيء اليوم الذي سيتحقق فيه الأمن، وتنتهي دوامة القتال.