مدار: 16 كانون الثاني/ يناير 2024
كانت ثورة ديسمبر السودانية حتى وقت قريب وجها ساطعا للمواجهة التي اضطرت الشعوب للدخول فيها في مواجهة القوى العسكرية المتربصة وقوى الثورة المضادة، لكن الحرب المدمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع أرجعت مشروع التغيير الديمقراطي خطوات إلى الوراء، وجعلت منه بلدا “منسيّا في خريطة الصراعات العالمية”.
الانشغالات بالتوترات التي تشهدها المنطقة، العدوان الصهيوني على قطاع غزة، الحرب في أوكرانيا، الحرب الباردة المتصاعدة التي تشنها واشنطن على بكين.. وغيرها من الملفات الحارقة، هل تكفي لتفسّر لماذا أدار العالم ظهره للسودان؟
بعد أن وصل الصراع على السلطة أشدّه، دخل الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منذ منتصف أبريل/نيسان 2023، في حرب دموية، خلّفت حسب الأمم المتحدة أكثر من 12 ألف قتيل وما يزيد على 7 ملايين نازح ولاجئ، وهي “أكبر أزمة نازحين في العالم”.
وراء هذه الأرقام المرعبة، تتعالى أصوات من أرجاء مختلفة في هذا البلد الإفريقي تطالب بالنجدة والمساعدة، تارة بسبب الجوع والأمراض، وتارة أخرى بسبب ما يقترف في من حقها من فضاعات لا تخرج عن دائرة جرائم الحرب.
بالكاد وصلتنا أصوات نساء يستنجدن مما يتعرضن له من جرائم الاغتصاب والعنف الجنسي الممنهج على يد قوات الدعم السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو، الملقّب بحميديتي.
ليس ذلك فحسب، وُجّهت اتهامات جدّية لقوات الدعم السريع، سليلة ما يعرف بـ “الجنجويد” السيئة السمعة، والمليشيات المتحالفة معها بارتكاب جريمة التطهير العرقي في إقليم دارفور.
الجيش السوداني، بقيادة عبد الفتاح البرهان، لم يسلم أيضا من اتهامات بارتكاب جرائم حرب.
نفق مظلم دخلته السودان بعد مسار معقد من شد الحبل بين القوى المدنية والعسكرية، حسم بانقلاب الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 على الحكومة الانتقالية التي كان يرأسها عبد الله حمدوك، مما أنهى الوثيقة الدستورية وحشر البلاد تحت حكم عسكري سرعان ما انقسم على نفسه.
في وجه آخر لمأساة الشعب السوداني، حذرت رئيسة منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونسيف” في السودان، هذا الأسبوع، من أن استمرار الحرب بين الجنرالين المتقاتلين سيؤدي إلى “كارثة جيلية” في البلاد، سيكون ضحيّتها 24 مليون طفل سوداني.
وقالت مانديب أوبريان، في حديث للصحافة، إن “النزاع في السودان يعرّض للخطر صحة 24 مليون طفل وبالتالي مستقبل البلاد، ما قد يترتب عليه عواقب وخيمة للمنطقة بأسرها”.
وأكدت المسؤولة الأممية أن بين هؤلاء النازحين واللاجئين “3,5 مليون طفل”، مشيرة إلى أن “14 مليون طفل بحاجة الى مساعدة إنسانية عاجلة” في السودان الذي يبلغ عدد سكانه 48 مليون نسمة وطالت فيه الحرب معظم المناطق.
“ملايين الأطفال معرضون للموت والإصابة والتجنيد (في العمل المسلح) والعنف والاغتصاب”، تقول أوبريان.
الحرب التي مر على نشوبها تسعة أشهر طويلة، لم تأتي إلا لتزيد الطينة بلة، في بلد كان ثلث سكانه قبل الاقتتال المسلح يعاني من الجوع. المفارقة هي أن السودان الغني بالثروات الطبيعية الثمينة هو ثالث منتج للذهب في القارة الإفريقية.
ثروات بقيت محط أطماع الجشعين الداخليين، ولكن أيضا، القوى الأجنبية المتلهفة لوضع يدها على خيرات السودان وإحكام القبضة على مستقبل شعبه.
رأينا خلال السنوات والأشهر السابقة، سباقا محموما بين فاعلين دوليين كبار وبلدان المنطقة، بما فيها الإمارات ومصر، من أجل وضع موطئ قدم في هذا البلد ذي الموقع الجغرافي الاستراتيجي، تارة بالتدخلات السياسية، وتارة أخرى بالمال والسلاح والدعاية الإعلامية.. وغيرها؛ وحدهم السودانيون يدفعون ثمنا باهظا.
هل من مخرج لأزمة طالت؟ بعض القوى المدنية، كتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، حديثة التأسيس بقيادة حمدوك، بادرت إلى اتخاذ خطوات من أجل تقريب وجهات النظر ووقف الحرب وتحقيق السلام، حسب ادعائها.
في الثاني من الشهر الجاري، وقعت قوات الدعم السريع مع “تقدم”، في أديس أبابا، على بيان تقول فيه إنها “منفتحة على وقف فوري غير مشروط لإطلاق النار، عبر التفاوض مع الجيش”، لكن البرهان لم يتفاعل حينها مع المبادرة.
“شراكة دم جديدة”
اعترضت العديد من القوى الثورية في البلاد على المسار الذي سلكته “تقدم”، واصفة ذلك بـ “التحالف” مع طرف واحد في الحرب، وعبّرت “لجان مقاومة السودان والقوى الموقعة على الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب” عن نقدها لهذا المسار، حسب ما جاء في وثيقة مطولة، يتوفر “مدار” على نظير منها، تحدثت عن مشاريع “لوقف الحرب تستند على واقع الإعتراف بالدور السياسي لطرفي الحرب ومشاركتهم في العملية السياسية، ومشاركتهم السلطة بشكل مباشر أو مستتر، وتتجاوز عن مبدأ عدم الإفلات من العقاب فيما يليهم”.
القوى ذاتها حذّرت من “الشروع في تدشين أي تحالفات مدنية-عسكرية وشرعنة الدور السياسي لطرفي الحرب يفتح الباب واسعا على مصراعيه لعسكرة الحياة السياسية”، في قراءة تتحسس خطر تحويل طرفي الحرب إلى لاعبين سياسيين مباشرين، ويمنح الطرف الآخر (في إشارة إلى الجيش) الحق في تشكيل تحالف مدني-عسكري موازي.
بهذا الشكل، ترى “لجان مقاومة السودان والقوى الموقعة على الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب” أن الصراع الحالي سيتحول من “صراع على السلطة والثروة بين القوى العسكرية لسلطة الأمر الواقع لانقلاب 25 أكتوبر 2021، إلى صراع سياسي مسنود عسكريا وعلى رأسه جناحي طائر اللجنة الأمنية لنظام البشير”.
من شأن تطور من هذا النوع أن “يحول معظم القوى المدنية إلى أحزاب توالي لطرفي اللجنة الأمنية ويفتح الطريق لحرب أهلية من نوع أخر، بصورة تهيئ المشهد للمزيد من تمزيق وتشتيت القوى المدنية ولشراكة دم جديدة يكون فيها لطرفي اللجنة الأمنية نصيب الأسد في معادلة السلطة والثروة، وتفتح الطريق لتصفية ثورة ديسمبر المجيدة بالكامل”، حسب ما جاء في الوثيقة المذكورة.
بالنسبة لهذه القوة الشعبية، فإن أي مخرج من المأزق الذي تشهده السودان، يجب أن يتأسس على أجندة وقيم وشعارات ثورة ديسمبر، وذلك من خلال خروج جميع المكونات العسكرية من العملية السياسية، وسحب الشرعية السياسية منهم نهائيا، وتكوين سلطة الشعب الديمقراطية الانتقالية القاعدية وتحقيق العدالة وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وفقا لتصورات وشعارات الثورة.
المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني، وهو أحد القوى السياسية الأساسية في البلاد، ثمن هذا النّقد، محذّرا من “المخططات المجرمة لفلول النظام البائد في الحركة الإسلامية الانقلابية في سعيها للقضاء على ثورة ديسمبر المجيدة”.
كما سلّط الضوء، في بيان صدر نهاية الأسبوع، على ما وصفه بـ “النهوض الواسع والمقاومة الباسلة لجماهير شعبنا، في لجان المقاومة والتنظيمات الديمقراطية على مستوى الوطن. حيث ظلت طلائعها تواجه الاعتقالات والتعذيب، سعيا لكسر شوكتها. وصل قمته في القرارات التي أصدرها ولاة نهر النيل والبحر الأحمر بحل لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير..”.
الحزب الشيوعي أدان هذه القرارات “المجرمة الساعية للقضاء على ثورة ديسمبر المجيدة”، داعيا الشعب السوداني إلى “رفضها ومقاومتها على طريق مقاومة الدعوات لحمل السلاح المفضية للحرب الأهلية”.
ويشار إلى أن تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، أكدت اليوم الثلاثاء، تلقيها موافقة رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان على عقد لقاء مع التحالف لبحث سبل وقف الحرب.
لقاءات وبيانات، لكنها لم تغير حتى الآن شيئا على الواقع.
في الـ 12 من الشهر الجاري، أكد المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط، أحمد المنظري، أن الأوضاع الصحية في السودان تزداد سوءا في ظل الصراع القائم حالياً، وأن السودان “منسيّ في خريطة الصراعات العالمية”.