فيتنام..بعد فظاعات الحرب الإمبريالية..القروض تقوض مستقبل فيتنام

مشاركة المقال

مدار + مواقع: 05 آذار/ مارس 2020

“ما وراء فيتنام: لحظة كسر الصمت”، هكذا عنون مارتر لوثر كينغ رسالته التي تلاها أمام تجمع في إحدى الكنائس، كعنوان لرفض الحرب التي قادتها الجيوش الأمريكية ضد فيتنام، والتي امتدت بعد حرب “الأندوشين” (الهند الصينية) إلى غاية خروج آخر جندي أمريكي سنة 1975، لكنها أخذت أشكالا متعددة، إذ تبقى الفترة ما بين 1963 و1975 هي الفترة التي عرفت سنوات سود مرت على الشعب الفيتنامي. كما يشير التعاطي الذي كان آنذاك، والتقارير عن صدى الجرائم والصور التي كانت متداولة، والتي وصل مداها إلى كل بقاع العالم، إلى مدى تأزم الوضع.

كانت فيتنام بأكملها مستعمرة فرنسية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية قاد “هو تشي مينه” التحركات ضد المستعمر متسلحا بنهجه المستوحى من الماركسية اللينينية وحماسة قومية لتحرير البلد، ليدحروا بذلك الفرنسيين الذين عاشوا واحدة من أذل الهزائم، بالنظر إلى الخسائر التي تكبدتها قوى الاستعمار رغم الفرق الشاسع في العتاد. عام 1954 أعلنت فرنسا خروجها من فيتنام. لكن بسبب الدور الخفي الذي لعبه المستعمر رغم انتهاء وجوده العسكري انقسمت فيتنام إلى واحدة جنوبية وأخرى شمالية. عند هذه المرحلة ورثت الولايات المتحدة الأمريكية المشروع الاستعماري من الفرنسيين فأرسلت تدريجيا “مستشارين” عسكريين إلى الجنوب.

 واصل الرئيس جون كينيدي هذا المشروع من خلال دعم حكومة فيتنام الجنوبية بالمساعدات والمعدات العسكرية. كان سبب هذا التدخل هو منع انتشار الشيوعية في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا. لكن عام 1963 خلص كينيدي إلى عدم جدوى هذا المسعى فأعطى أوامر للبدء في سحب القوات وخطط لإزالة جميع الأفراد العسكريين من فيتنام بحلول نهاية عام 1965، لكن في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963، اغتيل الرئيس كينيدي وتولى الرئيس ليندون جونسون القيادة، فقام على الفور بإلغاء أوامر كينيدي، مبررا ذلك بحادثة خليج تونكين في أغسطس/ غشت 1964، حيث زُعم أن مجموعة من زوارق الطوربيد الفيتنامي الشمالي أطلقت النار على سفينة تابعة للبحرية الأمريكية (اتضح أنها خاطئة – وكانت الإدارة على علم بذلك حسب مذكرات بعض الجنود الذين شاركوا في الحرب)، ما دفع الكونغرس إلى منح جونسون السلطة التي يحتاجها لزيادة نشر القوات بشكل كبير والبدء في حملة قصف جديدة. وكنتيجة لذلك تم عام 1968 تمركز أكثر من 500 ألف جندي أمريكي في فيتنام.

في هاته الفترة كان هناك نقاش بين الأمريكيين عن سبب إرسال أبنائهم للقتال في منطقة بعيدة بآلاف الكيلومترات، ولم يسبق لمعظمهم أن كان لهم علم بها، ما أشعل شرارات الاحتجاجات في سائر أمريكا، خصوصا وسط الطلبة، وأسواق البورصة التي أصبحت متوجسة مما يمكن أن تؤول إليه الأمور في حالة ما تلقت أمريكا الهزيمة، مستحضرين في ذلك ما عانته فرنسا وتأثيرها على معاملاتها. لكن رغم كل الجدل الدائر لم يغير ذلك من واقع أن الحرب أرخت بظلامها وثقلها على الشعب الفيتنامي..20 عاما من الحصار الذي طبقه الأمريكي على كل ركن من المنطقة.

قتل ما يقارب 1،5 مليون فيتنامي بطرق مختلفة، إذ كانت الجرائم مثل مذبحة “ماي لاي” شائعة، ففي عام 1968 قتل الجنود الأمريكيون 500 من الرجال والنساء والأطفال المسنين العزل في قرية ماي لاي الفيتنامية، ومع ذلك أشار موقع البنتاغون الخاص بحرب فيتنام فقط إلى “حادثة ماي لاي”، رغم حقيقة أنه اعترف بأن الذين قتلوا كانوا مواطنين عزل، لكنه أدرجها في خانة الأخطاء الفردية.

ويبقى أحد أكثر المخلفات الموروثة في حرب فيتنام فتكا هو استخدام الجيش الأمريكي للعامل البرتقالي الضار “الديوكسين”، رشه الجيش عشوائيا على جزء كبير من أراضي فيتنام. تشير التقديرات إلى أن 3 ملايين فيتنامي مازالوا يعانون من آثار هذه المواد الكيميائية الفتاكة، كما تأثر عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين، وقد تسبب في عيوب خلقية لمئات الآلاف من الأطفال، في كل من فيتنام والولايات المتحدة، ومازالت تبعاته قائمة إلى الآن، فهو يؤثر حاليًا على الجيلين الثاني والثالث من الأشخاص الذين تعرضوا بشكل مباشر لديوكسين قبل عقود.

ويمكن أن تعزى بعض أنواع السرطان والسكري وشلل الحبل الشوكي وغيرها من العيوب الخلقية الخطيرة إلى التعرض للعامل البرتقالي حسب منظمة الصحة العالمية. بالإضافة إلى ذلك، دمرت المواد الكيميائية الكثير من البيئة الطبيعية في فيتنام، فالتربة في العديد من “النقاط الساخنة” بالقرب من قواعد الجيش الأمريكي السابقة مازالت ملوثة.

 وعلى الرغم من الأضرار والإصابات الدائمة التي سببها العامل البرتقالي، فإن موقع البنتاغون لا يذكر أن “عملية مزرعة اليد” (عملية كان الهدف منها القضاء على الغطاء الغابوي وإضعاف الطرف الآخر) كانت لها آثار جانبية، بل كل ما يرشح عنها أنه من عام 1961 إلى عام 1971 قامت الولايات المتحدة برش 18 مليون جالون من المواد الكيميائية في 20 ٪ و36 ٪ من غابات فيتنام الجنوبية، غابات المانغروف.. لكن الموقع لا يشير إلى الآثار المدمرة لهذا الرش.

وكدليل على فجاعة الأحداث، قام مجموعة ممن شاركوا في الحرب ضد فيتنام بإنشاء منظمة لكشف حقيقة بشاعة ما جرى، كرد على إنشاء البنتاغون موقعا خاصا بفيتنام يروج فيه للرواية الرسمية.

في اتفاقات باريس للسلام الموقعة عام 1973 لحسم الحرب، تعهدت إدارة نيكسون بالدعم بمبلغ 3 مليارات دولار من أجل المساهمة في التئام جراح الحرب وإعادة إعمار فيتنام. هذا الوعد لم ينفذ وبقي حبرا على ورق.

ومع ذلك، مباشرة بعد المؤتمر، عقد اجتماع سري تحت رعاية نادي باريس، حضره ممثلو الحكومات الغربية. على الجانب الفيتنامي لعب الدكتور نجوين زيان أوانه، المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، دوراً رئيسياً في المفاوضات. كان الدكتور أوانه، وهو مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي، وزيراً للمالية ثم القائم بأعمال رئيس الحكومة العسكرية في حكومة الجنرال دونج فان مينه، التي نصبتها الولايات المتحدة عام 1963 بعد اغتيال الرئيس نغو دينه ديم أخ. الدكتور أوانه، بينما كان يقدم رسميا الوساطة نيابة عن الحكومة الشيوعية، استجاب لجميع طلبات الدائنين الغربيين.

كانت الاتفاقية الموقعة مع صندوق النقد الدولي (والتي أصبحت علنية) رمزية إلى حد كبير. لم يكن المبلغ كبيرًا: اضطرت هانوي إلى دفع 140 مليون دولار من صندوق النقد الدولي (التابعة لنظام سايغون الراحل) كشرط لاستئناف القروض الجديدة.

شكلت اليابان وفرنسا أسياد الاستعمار الفيتنامي السابق في عهد فيشي، ما يسمى لجنة “أصدقاء فيتنام” لإقراض هانوي الأموال اللازمة لتسديدها لصندوق النقد الدولي.

بعد حرب استنزفت فيتنام من كل النواحي جاءت هاته القروض لتشل حركة النمو وتفرض إستراتيجية للإصلاح وضعتها القوى المقرضة. وأدت هذه الإصلاحات إلى تخفيضات جذرية في البرامج الاجتماعية مع فرض الرسوم المدرسية، ما أدى إلى حذف 750 ألف طفل من النظام المدرسي في بضع سنوات (1987-1990). وانهارت المستوصفات والمستشفيات، مع إعلان وزارة الصحة والجهات المانحة عودة ظهور عدد من الأمراض المعدية بما فيها الملاريا والسل والإسهال.

تؤكد دراسة منظمة الصحة العالمية أن الوفيات الناجمة عن الملاريا تضاعفت ثلاث مرات في السنوات الأربع الأولى من الإصلاح، إلى جانب انهيار الرعاية الصحية وارتفاع أسعار مضادات الملاريا. كما أنهت الحكومة (تحت قيادة مجتمع المانحين الدولي) دعم الموازنة لتزويد وصيانة المعدات الطبية، ما أدى إلى حدوث شلل شبه كامل في نظام الصحة العامة بأكمله.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة