الهند.. انتصار تاريخي للمزارعين بعد نضال طويل ضد “القوانين الثلاثة”

مشاركة المقال

مدار: 23 كانون الأول/ ديسمبر 2021

شهدت الأسابيع الماضية فوزا مهما وتاريخيا للمزارعين في الهند، الذين تمكنوا من إجبار حكومة مودي على التراجع عن القوانين التي حاولت تمريرها، وكانت تستهدف تعزيز دور الشركات الزراعية الكبرى على حساب المزارعين.

انتصار جاء بعد شهور من النضالات والاعتصامات التي شهدتها مختلف أنحاء البلاد، في مشهد أصبح معتادا لدى الهنود. هذه النضالات التي قوبلت بقمع من طرف السلطات، لكن المزارعين بقوا متمسكين بمطالبهم في مواجهة أداة قمعية كانت تستعمل كل الوسائط من أجل ضرب نضالاتهم، بما فيها الإعلام الذي كان يصفهم بمختلف الصفات، محاولا تأجيج الشارع ضدهم.

ورغم كل ذلك، اضطرت الحكومة للرضوخ لمطالب المزارعين، منهية بذلك معاناة دامت لشهور، كان ضحيتها المزارعون الذين كانوا معتصمين في مختلف الميادين، مستعملين آلاتهم الزراعية، مثل الجرارات، كملاذات تقيهم تقلبات الطقس وتوفر لهم نوعا ما دفء منازلهم التي فارقوها منذ مدة.

خيارات كان بالإمكان الاستعانة بها

لطالما كانت لدى الحكومات خيارات من أجل التعامل مع الأزمات المتواصلة التي سببتها سياساتها الهادفة في عمقها إلى إسكات أصوات المزارعين، أكثر منها إلى تحقيق متطلباتهم، لكنها دائما ما كانت تتعامل مع هذه الخيارات من خلال رؤيتها لمدى تأثيرها على مصالح كبار المزارعين والشركات الناشطة في الميدان. ومن هنا نسلط الضوء على خيارين أحدهما كان قد تم الاعتماد عليه، لكن سرعان ما أُفشل لمصالح معينة:

1. إعادة توزيع الأراضي. كان بإمكان حكومة الهند تنزيل إصلاحات تهدف من خلالها إلى إعادة توزيع الأراضي، وهو ما كان سيعني توفير وتسليم الأراضي للأسر الريفية التي لا تمتلكها، لاسيما أن تركيز الأراضي أصبح عقبة أمام زيادة الإنتاجية الزراعية. تعني العلاقات الإقطاعية الجديدة أن أصحاب العقارات يمكنهم الحصول على إيجارات عالية من المستأجرين، وكذلك الاستحواذ على العمالة المجانية من المستأجرين لاستخدامهم الشخصي؛ بالإضافة إلى أن الملاك يقومون باستخدام مداخيل إيجار الأراضي من أجل إقراض المال بدلا من الاستثمار في أراضيهم وفي التكنولوجيا. كما أن المستأجرين لا يمكنهم تحسين الأرض، نظرا للإيجار المرتفع، واستعمال ما يجنونه من ربح في توفير قوتهم اليومي.

وقد أدى نقص الاستثمار في الزراعة إلى منع معدلات النمو المرتفعة. ومن شأن إعادة توزيع الأراضي، إلى جانب الاستثمارات العامة في البنية التحتية الزراعية، أن تؤدي إلى زيادة العدالة الاجتماعية والاقتصادية والرفع من نسب النمو الاقتصادي، لاسيما أن من الممكن أن تتبع النمو زيادة في الإنتاجية وزيادة الاستهلاك من قبل الفلاحين، الأمر الذي كان من شأنه أن يحفز التصنيع الريفي.

2. الثورة الخضراء. شهدت الفترة الأولى من أوائل الستينيات تطوير المهندس الزراعي نورمان بورلوج أصنافا قزمية من القمح عالي الإنتاجية، الذي كان يتطلب نسبا عالية من الأسمدة الكيماوية والري على نطاق صناعي. كانت هذه التكنولوجيا الزراعية الجديدة أكثر إنتاجية بكثير مقارنة بالتقنيات المحلية الحالية. لكن بعد ذلك جاءت “الثورة الخضراء” التي اعتبرت خيارا مرضيا أكثر للطبقة السائدة الهندية، التي شعرت بأن هذا من شأنه أن يرفع الإنتاجية الزراعية دون إصلاح الأراضي.

في الواقع، لا يجب النظر إلى كل من إصلاح الأراضي وتكنولوجيا الثورة الخضراء على أنه يجب الاختيار بينهما؛ إن الجمع بين الاثنين، إذا استخدم بحكمة، من الممكن أن يؤدي إلى معدلات نمو زراعي عالية يستفيد منها في الأساس الفلاحون. ومع ذلك، اختارت الدولة الهندية تجنب إصلاح العلاقات المرتبطة بالأراضي وركزت بدلا من ذلك على “الثورة الخضراء”.

فترة مودي وما واكبها من آفات

عام 2011، حضر كبار الرأسماليين في الهند – بمن فيهم موكيش أمباني – اجتماعا سريا أطلق عليه Vibrant Gujarat، حيث أشادوا برئيس وزراء الولاية ناريندرا مودي، وغضوا الطرف عن الاتهامات التي كانت تواجهه حول ارتكابه إبادة جماعية للمسلمين عام 2002، كما أيدوا بشكل قاطع مساعيه في أن يصبح رئيسا للوزراء.

 حرصا على المزيد من الإصلاحات النيوليبرالية، اعتمد هؤلاء الرأسماليون على مودي كأداة لـ”تحرير سوق العمل” (أي إلغاء النقابات العمالية) و”الإصلاح الزراعي”، وهو المسعى الذي بدؤوا يجنون ثماره بعد ثلاث سنوات حين فاز حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة مودي في الانتخابات البرلمانية وأصبح رئيس وزراء الهند الجديد.

وشهدت الظرفية التي حضرت فيها حكومة مودي انهيار الأسعار الدولية لمحاصيل التصدير، مثل القطن، وسنتين من الجفاف، وتباطؤا عاما في معدلات النمو الزراعي. وبدلا من معالجة الأزمة التي تكشفت، تسببت حكومة مودي في ثلاث كوارث أخرى على الاقتصاد الهندي:

سحب العملة (2016). جاء ذلك من خلال سحب أكثر من ثمانين في المائة من العملة من التداول دون سابق إنذار، ما جعل الطلب يتقلص، بما يشمل السلع الزراعية. كان على المزارعين التخلص من الحليب والخضروات، كما وجدوا أنفسهم أمام معضلة أن الأموال النقدية التي في أيديهم لا قيمة لها.

ضريبة السلع والخدمات GST (2017). أدى تطبيق ضريبة على السلع والخدمات إلى خفض هوامش الربح الصغيرة للتجار الصغار وشركات البيع بالتجزئة؛ وقد أثر ذلك على الأسواق الزراعية، التي شهدت تواجدا أكبر للشركات الاحتكارية بدلا من قطاع التجار الصغار الأكثر تنوعا.

كوفيد-19 (2020-21). فشلت حكومة حزب بهاراتيا جاناتا في معالجة المرض وانتشاره السريع، كما أن الإغلاق المفاجئ في مارس 2020 أجبر ملايين العمال المهاجرين على ترك وظائفهم في المدن والعودة إلى منازلهم في القرى والبلدات الأصغر. وفي وقت ارتفعت معدلات الإصابة والوفيات، شهد قطاع السلع الزراعية انخفاضا في الطلب عليه، ما أدى إلى تفاقم أزمة المزارعين الذين لم يكن لديهم أي مصدر آمن للدخل يلبي احتياجاتهم المعيشية اليومية.

أزمة القوانين الثلاثة التي أثارت غضب الفلاحين والعمال الزراعيين

استغلت الحكومة مع بداية أزمة كوفيد-19 الوضع لتقديم ثلاثة مشاريع قوانين زراعية في البرلمان في يونيو 2020، تم إقرارها والتوقيع عليها لتصبح قانونا بحلول سبتمبر 2020، دون أن تتم مناقشتها في البرلمان. وكان الهدف من هذه القوانين فتح القطاع الزراعي أمام دخول المشاريع التجارية الزراعية الكبرى، لكن الحكومة زعمت أنها ستسمح للمزارعين باكتشاف أفضل الأسعار في السوق، في حين أنها في الواقع ستضع صغارهم في مواجهة المشاريع التجارية الزراعية الكبرى، التي تتحكم في معلومات السوق وتتمتع بمزايا الحجم والإمكانيات.

وتضعف هذه القوانين الثلاثة الأنظمة الموجودة في السوق الزراعية، التي تؤطر القطاع. وليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها العمل على إقبار هذه الأنظمة، بل كانت هناك خطوات لذلك منذ 1991، لكن الآن كان يراد أن تتم تصفيتها بشكل نهائي.

قانون منتجات المزارعين والتجارة (الترويج والتيسير): يؤكد هذا القانون على عدم فرض ضرائب على التجارة خارج ساحة السوق الخاضعة للتنظيم، ما يعني أن التجار سيتخلون عن الأسواق المنظمة للأسواق غير المنظمة. في الولايات التي توجد بها ساحات سوق منظمة – مثل هاريانا والبنجاب – تأثرت بالفعل من اللحظة الأولى وبشكل مباشر.

اتفاقية (التمكين والحماية) للمزارعين بشأن قانون ضمان الأسعار والخدمات الزراعية: يسمح هذا القانون للشركات التجارية الزراعية الكبرى بالدخول في مفاوضات مباشرة مع المزارعين بشأن كمية محددة من محصول معين بسعر محدد، من دون أن يكون هناك تنظيم أو حد للعقد. ويمكن أن تكون العقود شفوية، كما يبقي القانون أي نزاعات تتعلق بهذه العقود خارج اختصاص المحاكم المدنية، ما يترك المزارعين تحت رحمة الشركات والبيروقراطيين.

قانون (تعديل) السلع الأساسية: من خلال هذا القانون، أزالت الحكومة العناصر الرئيسية (الحبوب والبقول والبطاطس والبصل) من قائمة السلع الأساسية، التي كان – وفقًا لقانون السلع الأساسية (1995)-  يمنع تكديسها أو المضاربة عليها. وصُمم القانون عام 1955 لمنع تضخم أسعار المواد الغذائية، لكن القانون التعديلي يسهل دخول الشركات إلى تجارة الحبوب ويسمح بتخزين السلع الزراعية، ما يسرع من المضاربة في السوق.

أدرك المزارعون على الفور أن هذه القوانين الثلاثة تعني سيطرة الشركات الكبرى على الزراعة، لاسيما أنهم، في ظل الوضع قبل القوانين، كانوا يكافحون من أجل الحصول على نصيب كاف من قيمة محاصيلهم: يحصل مزارعو الأرز على أقل من نصف ما يدفعه المستهلك، فيما يحصل مزارعو البصل والبطاطس على خمسة وثلاثين بالمائة من سعر التجزئة. وبمجرد أن تتولى المشاريع التجارية الزراعية الكبرى القطاع، من المحتم أن يشهد المزارعون انخفاضا أكبر في حصصهم.

علاوة على ذلك، كان يعرف المزارعون أنه بمجرد إغلاق الأسواق المنظمة ستقلل الحكومة من مشتريات الحبوب، وقد تسحب آلية MSP المنظمة للقطاع تماما. وقالت الحكومة إنها بدلا من دعم الأسمدة فإنها ستوفر للمزارعين تحويلات نقدية، في حين يقول المزارعون إنه من الممكن ألا يكون مبلغ التحويل هذا مواكبًا للتضخم، وسيتوقف في النهاية. بمجرد قطع الدعم، سيشهد المزارعون ارتفاعًا في تكاليف المدخلات، وسيتركهم انسحاب MSP في مواجهة الأسواق الزراعية المتقلبة دون دعم.

مبرر هذه القوانين هو أن دعم الأسمدة وشراء السلع الأساسية أدى إلى الإفراط في استخدام الأسمدة، وبالتالي تدهور صحة التربة والإفراط في استخدام موارد المياه الجوفية. ليس هناك سبب للاعتقاد بأن الشركات الكبرى قلقة بشأن صحة التربة أو الإفراط في استخدام المياه، كما أن أفضل حل لهذه المشاكل ليس تفكيك المؤسسات، بل إصلاحها. على سبيل المثال، لطالما طالب المزارعون الحكومة بتوسيع قائمة المحاصيل للشراء، وبالتالي زيادة كمية المحاصيل غير الأرز والقمح، ما سيضمن نمطًا محصوليًا أكثر توازنا، كما أنه من خلال تحسين خدمات الإرشاد لتقديم المساعدة الفنية يمكن تحسين استخدام المدخلات. الاعتماد على شركات الكيماويات الزراعية للحصول على المشورة بشأن الأسمدة ومبيدات الآفات لم يحسن استخدام هذه المواد الكيميائية.

من الواضح أن المشكلة في الزراعة الهندية ليست كثرة الدعم المؤسسي، بل النشر غير الكافي والمتفاوت للمؤسسات، وكذلك عدم استعداد هذه المؤسسات لمعالجة عدم المساواة المتأصلة في المجتمعات القروية. لا يوجد دليل على أن الشركات التجارية الزراعية سوف تطور البنية التحتية أو تعزز الأسواق الزراعية أو تقدم الدعم الفني للمزارعين.. كل هذا واضح للمزارعين.

انتصار المزارعين

بعد عام و15 يوما، انتهى النضال التاريخي للمزارعين على حدود العاصمة الهندية نيودلهي يوم السبت الـ11 من دجنبر/ كانون الأول، في وقت توافدت المئات من الشاحنات والعربات والجرارات المليئة بالمزارعين إلى مواقع الاحتجاج الكبرى من أجل الاحتفال.

وتم التوصل إلى قرار رفع الاحتجاجات أخيرا بعد 380 يوما، نتيجة اجتماع بين قادة نقابات المزارعين في 7 دجنبر/ كانون الأول، بعد أن أرسلت الحكومة المركزية مسودة اقتراح للجنة المفوضة بالحوار من جانب المزارعين. وتضمنت الاتفاقات التي تم تبادلها ومناقشتها في محادثات ممتدة بين الحكومة واللجنة شروطا رئيسية، بالإضافة إلى الإلغاء. وشمل ذلك تشكيل لجنة للبت في مشروع قانون الكهرباء، ووعد بفتح باب المناقشات بشأن فاتورة الكهرباء، وقوانين أكثر ليونة ضد حرق القش، والتأكيد على أنه سيتم سحب جميع القضايا المرفوعة ضد المتظاهرين أثناء الاحتجاجات.

وأصبحت حركة المزارعين التاريخية التي بدأت في نونبر/ تشرين الثاني 2020 أطول حركة تحريض في تاريخ كفاح المزارعين في الهند؛ وجذبت المزارعين من الولايات الأكثر أهمية من الناحية الزراعية في البلاد، مثل البنجاب وأوب وهاريانا، بالإضافة إلى أجزاء أخرى، وتم تعليقها أخيرا بعد أسبوعين من إلغاء مجلسي البرلمان القوانين المثيرة للجدل في 29 نونبر/ تشرين الثاني.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة