معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 06 كانون الأول/ ديسمبر 2021
فيجاي براشاد
اتخذ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (UNHRC) في 13يوليو/ تموز 2021 قراراً تاريخياً بشأن انتشار العنصرية وإنشاء آلية مستقلة مكونة من ثلاثة خبراء للتحقيق في السبب الجذري للعنصرية والتعصب المترسخين. لقد دفعت الدول الإفريقية باتجاه هذا القرار الذي ظهر في أعقاب غضب عالمي بعد مقتل جورج فلويد على يد رجال شرطة مينيابوليس في 25 مايو/أيار عام 2020. وتناولت المناقشات التي جرت في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مشاكل وحشية الشرطة والعودة إلى تشكيل نظامنا الحديث في بوتقة العبودية والاستعمار. لقد ترددت العديد من دول الغرب- من قبيل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة- بشأن تقييم الماضي ومسألة التعويضات؛ إذ كانت هذه الحكومات قادرة على إزالة شرط التقصي في العنصرية النظامية في إنفاذ القوانين في الولايات المتحدة.
إن الاعتراف بفداحة تكلفة العبودية والاستعمار مطلب أساسي لغالبية سكان العالم. تتراوح حسابات هذه التكاليف بين 777 تريليون دولار لتجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي و45 تريليون دولار للاستعمار البريطاني في الهند؛ هذه حسابات جزئية، لكنها تعد هائلة. إن التكلفة الإجمالية لـ 191.900 طن من الذهب المستخرج بالتكلفة الحالية يبلغ قدرها 46.5 مليون دولار لكل طن، إذ لا يتجاوز 9 تريليونات دولار – وهو أقل بكثير من إجمالي فاتورة الاستعباد والاستعمار. فلا عجب أن حكومات قليلة مستعدة للنظر في مسألة تعويضات الناجين من العبودية والاستعمار. ومع ذلك، في أحيان كثيرة غالباً لا يتم ضمن أي مناقشة ذات مغزى في مسألة التعويضات إبداء حقيقة أن الأنظمة الاستعمارية دفعت مبالغ ضخمة لتعويض الخسارة الناجمة عن فقدانها مصادر الدخل. لقد جمع الملّاك الفرنسيون من السكان المستعبدين في هايتي ما يقدر بـ 28 مليار دولار من الحكومة الهايتية الثورية، وهو مبلغ لم يتم سداده حتى عام 1947، لتعويضهم عن الممتلكات – باعتبارهم بشرا – التي تم استردادها خلال الثورة. وعلى نحو مماثل، دفعت بريطانيا للمالكين الإنجليز للبشر مبالغ هائلة من المال في أعقاب قانون إلغاء الرق لعام 1833؛ ووفقا للخزانة، تم إكمال هذه المدفوعات من قبل دافعي الضرائب البريطانيين عام 2015.
يظل إنكار الإنسانية على أكثر من نصف سكان العالم جزءاً من الإطار الواسع لنظامنا العالمي. حتى الآن، في العام 2021، أصبحت حياة أي مدني أفغاني أقل أهمية من حياة جندي أميركي. فعندما توفي 20000 شخص أو أكثر بسبب انفجار مصنع مملوك من الولايات المتحدة في بوبال (الهند) في 1984، أعرب السيد اتش. ميشيل أوتيدجيان، المدير الطبي لشركة سياناميد الأميركية، عن حزنه لكنه طلب وضع هذه الحادثة في سياقها الصحيح. والسياق؟ بالنسبة “للهنود” كما قال، أنّ ليست لديهم “فلسفة أمريكا الشمالية بشأن أهمية الحياة البشرية”. بالنسبة لـ أوتيدجان وكثر فإن حياتهم بالإمكان التخلص منها، كما تم التخلص من حيوات 1.6 مليون أفريقي يموتون سنوياً بفعل أمراض الجهاز التنفسي السفلي والإسهال التي هي أمراض بالإمكان الوقاية منها.
تُعزى جميع الوفيات بسبب الإسهال تقريبا إلى سوء النظافة الصحية والصرف الصحي، فضلاً عن المياه غير الصالحة للشرب، وهي مشاكل يمكن إصلاحها بإنتاج أفضل للبنية التحتية. وتنفق ستة من البلدان المكتظة بالسكان ــ الكونغو وغامبيا وغانا وكينيا وسيراليون وزامبيا ــ على خدمة ديونها أكثر مما تنفقه على الصحة والتعليم معاً. هذا دليل أكبر بشاعة على تجاهل الشعوب التي ناضلت لإنهاء الاستعمار ولكنها مازالت ينظر إليها من قبل الأقوياء – على الرغم من ليبراليتهم السطحية – أنها أدنى وأضعف.
أحد الأسباب التي تجعل مكتب معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في جوهانسبرغ (جنوب إفريقيا) يبذل طاقة كبيرة في كشف النقاب عن تواريخ النضال هو من أجل الوقوف عند النضال الذي خاضه السود من أجل الحرية في جنوب إفريقيا. لقد عاودوا الظهور في الوقت المناسب لإخبارنا عن تاريخ اتحاد العمال الصناعيين والتجاريين (ICU) في الفترة من 1919 إلى 1931، أسلاف حركة الاتحاد التجاري الحديث في جنوب إفريقيا (الملف رقم.20، سبتمبر 2019)؛ لقد أخبرونا عن تطور السياسة المعاصرة في جنوب إفريقيا (الملف رقم.31، أغسطس 2020) وعن حركة قاطني الأكواخ المعاصرة- أباهلالي بيس مجوندولو- وقبضتها على خيال فقراء البلاد (الملف رقم.11، ديسمبر2018). رافقت هذه الملفات أخرى عن تأثير المنظرين الاجتماعيين لحركات التمرد الإفريقية وبيداغوجيا المقهورين التي تم عرضها من خلال عمل فرانز فانون (الملف رقم.26، مارس 2020) وباولو فريري (الملف رقم.34، نوفمبر 2020)، اللذين نحتفل بمئويتهما هذا العام. كل من هذين النصين يعمل على بناء أرشيف لنضال السود ضد أنظمة الازدراء.
أطلق على الملف رقم.44 (سبتمبر 2021) برامج مجتمع السود: المظاهر العملية لفلسفة الوعي الأسود. امتدت برامج مجتمع السود (BCP) هذه من عام 1972 إلى عام 1977، وكل برنامج أسسه وقاده سود جنوب إفريقيا، إذ تطور كل برنامج للنهوض بقضية مجتمع السود، وأوقفه كذلك نظام الفصل العنصري. تناولت برامج مجتمع السود مشاريع لرعاية المجتمع، والفن الأسود، واللاهوت الأسود، وتعليم إنهاء الاستعمار. يتمثل أحد المجالات الرئيسية لهذه البرامج في تنمية صحة السود في جنوب إفريقيا المهملة عن عمد. لقد حملت مشاريع مثل مركز الصحة المجتمعية في زانيمبيلو (الرأس الشرقي) وسوليمبيلو (ديربان، KZN) الأهداف التي انعكست في أسمائها: زانيمبيلو تعني “الشخص الذي يجلب الصحة” وسوليمبيلو تعني “عين الصحة”؛ وكلاهما تم وقفهما من قبل نظام الفصل العنصري حينما تم حظر جميع مجموعات الوعي الأسود في أكتوبر 1977.
لقد خرجت برامج مجتمع السود من سياق المقاومة الشعبية المكثفة إلى نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، تلك المقاومة التي لم تنل من المعنويات نتيجة حظر المؤتمر الوطني الإفريقي ومؤتمر عموم إفريقيا، لكنها دوت بتأسيس منظمة طلاب جنوب إفريقيا (SASO) عام 1968. قاد منظمة طلاب جنوب إفريقيا ستيف بيكو (1946-1977)، الذي أرسى فلسفة الوعي الأسود، الذي قُتل في الزنازين الوحشية للحكومة العنصرية؛ كانت أفكاره حول الوعي الأسود واسعة، وكان لديه حس عميق بأن كرامة السود يجب تأكيدها وأنه يجب تطوير قيادة السود من أجل تحقيق المساواة الحقيقية في المستقبل. لم يرد الأفارقة السود الحرية بمنحها لهم؛ كان عليهم انتزاعها، تدعيمها وتحقيق المزيد من رحابها.
عرّف بيكو الوعي الأسود على نحو دقيق بأنه أيدلوجية:
تسعى إلى إضفاء الطابع الإيجابي على نظرة السود إلى مشاكلهم؛ تعمل على أساس معرفي بأن “كراهية البيض” أمر سلبي، وإن كان مفهوماً ويؤدي إلى تعجيل ظهور أساليب عنفية قد تكون كارثية على [جماعة] من السود والبيض على حد سواء. كما تسعى إلى توجيه قوى الجماهير السوداء المقهورة إلى معارضة موجهة وذات مغزى تستند في كفاحها برمته إلى حقائق الوضع؛ فهي تريد أن تكفل تفرد الهدف في أذهان جماعة السود وإتاحة المشاركة الكاملة للجماهير في النضال بصفة أساسية.
لا يعد ذلك تشاؤماً إفريقياً أو يأساً عقيماً بالنسبة للسكان المنحدرين من أصل إفريقي، ولا هو إعلان إفريقي للنزعة الانفصالية، بل إنه التجميع الأعمق لسياسات الكرامة الإنسانية والسياسات الاشتراكية.
في عام 2006، تحدث الصحافي نيرين تولسي إلى الشاعر مافيكا باسكال جوالا (1946-2014) وسأله عن معنى الوعي الأسود في حياته. “لم نتخذ الوعي الأسود كنوع من الإنجيل،” قال جوالا لتولسي، “لقد كان مجرد اتجاه، وهو اتجاه ضروري لأنه قصد جلب ما لا تستطيع المعارضة البيضاء [للفصل العنصري] إدخاله إلى النضال.. تم جلب الكثير إلى الصراع من خلال حركة الوعي الأسود”. ومن المؤكد أن حركة الوعي الأسود ــ إلى جانب الشيوعية في جنوب إفريقيا (على النحو الموثق في كتاب توم لودج الجديد البارز “الطريق الأحمر إلى الحرية، 2021″) والحركة النقابية التي انبثقت عن إضرابات ديربان عام 1973 ــ قد دفعت الجماهير إلى النضال ضد الفصل العنصري على نحو لم تتمكن المعارضة البيضاء من تحقيقه؛ ولكنه جلب أيضا حساسية القيمة، كونها جديرة بالحياة البشرية، وجعل النضال من أجل الحرية شيئا دقيقا وجديراً بالاهتمام من أجل كرامة الوجود وليس تجريداً.
هذا البحث عن الكرامة يتحدث عنه شعر جوالا الذي تتلاقى فيه قصائد سويتو مع الرغبة المنشودة للحرية:
سيُسطر تاريخنا على بوابات المصانع
وفي مكاتب البطالة
في الطوابير المحترقة بالأفواه الميتة
سيكون تاريخنا فرحنا
حزننا
معاناتنا
خربشات في مراحيض قذرة من الدرجة الثالثة
سيكون تاريخنا أرقاما مشوهة
وشعارات مريرة
زينة الجدران في معزِلنا
حيثما لا سلام يكفي كي تنمو الورود.