اللبنانيون ما بين خيار الموت غرقاً أو جوعاً

مشاركة المقال

مدار: 29 نيسان/ أبريل 2022

كاترين ضاهر

مجدّداً قرر فقراء مدينة طرابلس، عاصمة شمال لبنان، المخاطرة بأنفسهم وأرواح أطفالهم وركوب “قارب الموت” سبيلاً للهجرة، لعل اختيار رهان الهروب بحراً من بلد يموتون فيه يومياً يكون الخلاص لتأمين الحياة الكريمة الآمنة لهم ولعائلاتهم؛ فهذه ليست الفاجعة الأولى ولن تكون الأخيرة جرّاء تفاقم الأزمات في البلاد ومواصلة المنظومة الحاكمة سياساتها الإفقارية والتجويعية الفاسدة.

إن حادثة غرق المركب، التي أودت بحياة عدد من المواطنين الأبرياء من جنسيات لبنانية وسورية وفلسطينية، فتحت مجدّداً ملف باب الهجرة غير النظامية من جهة، ومن جهة أخرى أعادت تسليط الضوء على سياسات الإهمال والحرمان في حق هذه المدينة وفقرائها. ومهما كانت أسباب هذه الفاجعة فالمسؤولية الأولى تقع عنها على عاتق السلطة الحاكمة التي أوصلت الناس إلى الفقر والعوز واليأس والإحباط، من خلال تدمير مقدرات الدولة ومؤسساتها وانتهاج سياسات اقتصادية ومالية خاطئة وفاسدة، ومخالفة لمبدأ الإنماء المتوازن، وحرمان أهالي طرابلس والشمال من أبسط حقوقهم التنموية والإنسانية خلال 30 عاماً. وأيضاً تقع المسؤولية الكبرى على سياسيي مدينة طرابلس المعروفين بثرواتهم الطائلة وفي مقدمتهم رئيس الوزراء اللبنانية نجيب ميقاتي، الذي ورد اسمه في تسريباتوثائق باندورا، وهو يصنف من أكثر وأكبر الأغنياء في شمال لبنان ومدينة طرابلس المنكوبة التي تعتبر العاصمة الثانية في لبنان.

وقد تصدر ميقاتي قائمة الأثرياء العرب لعام 2021 في مجلة فوربس، واحتل المرتبة السادسة في تصنيف بالشرق الأوسط. كذلك بقي رئيس الحكومة النجم الأبرز في قائمة فوربس السنوية في نسختها السادسة والثلاثين لأثرياء العالم 2022، التي تضم 2668 مليارديراً، وكان لافتاً في التقرير ورود اسمي نجيب وشقيقه طه ميقاتي في قائمة أثرياء العالم الذين ارتفعت ثرواتهم بـ700 مليون دولار، لتصل إلى 3.2 مليار دولار.

ميقاتي مدان ليس لأنه فقط سياسي من منطقة الشمال وابن طرابلس، أو بسبب المصادر المشبوهة لثروته الطائلة، وإنما أيضاً لكونه رئيس الحكومة التي عجزت عن إيجاد أي حلول لأزمات البلاد، بل فاقمتها أكثر، ومازالت عبارته “بدنا نتحمل بعض في هذه المرحلة الصعبة”، التي أطلقها بعد جلسة مجلس الوزراء التي مرر خلالها مشروع الموازنة، منتصف شهر شباط/فبراير الماضي، تثير غضب الشعب اللبناني.

تورط الجيش!..

لليوم الخامس على التوالي تتواصل عملية البحث عن مفقودين جراء حادثة قارب الهجرة غير النظامية الذي غرق في مدينة طرابلس بتاريخ 23 نيسان/إبريل الجاري، قبالة شواطئ الميناء، وقد تم إنقاذ نحو 48 راكباً وانتشال تسعة جثامين حتى يوم 26 نيسان/ أبريل.

يُشار إلى أنّ عدد المفقودين غير مؤكّد بالضبط، وبحسب المعلومات فهو يتراوح ما بين نحو 22 شخصاً أو يزيد عن 30 شخصاً، بعضهم نساء، إحداهن حامل، إضافة إلى أطفال.

ومازالت الاتهامات تتقاذف حتى الساعة حول من يتحمل مسؤولية هذه الفاجعة. فيما عقد مجلس الوزراء جلسة استثنائية في قصر بعبدا يوم الثلاثاء، للبحث في حادثة طرابلس بحضور قائد الجيش ومدير الاستخبارات وقائد القوات البحرية، حيث عرض الجيش تقريره وأطلع الحكومة على ما توصلت إليه التحقيقات.

ورداً على اتهامات إفادات عدد من الناجين حول تورط الجيش اللبناني في هذه الحادثة، وضعت قيادة الجيش نفسها والضباط المسؤولين في تصرف القضاء لدواعي التحقيق، حتى التوصل إلى حقيقة ما جرى، كما طالب مجلس الوزراء الجسم القضائي بتحقيق شفاف بمساعدة قيادة الشمال العسكرية، وكلف وزيري الدفاع والخارجية بالتنسيق مع جهات في الخارج لطلب المساعدة اللوجستية لانتشال الجثامين ورفع المركب من عمق البحر، لدواع تتعلق بالتحقيقات.

في المقابل، نفذ أهالي ضحايا “مركب الموت” اعتصاماً أمام بوابة مرفأ طرابلس، وطالبوا بتكثيف الجهود للعثور على المفقودين، متهمين الحكومة والأجهزة الأمنية بالتقاعس والإهمال، ومهدّدين بالتصعيد.

وأكدّ المعتصمون في كلمتهم ألا مشكلة لدى أهالي الضحايا مع الجيش، “فعناصره هم أخوتنا وأبناؤنا ويعانون ما نعانيه من هذه الضائقة الاقتصادية الصعبة، وما يتقاضونه لا يكفيهم. مشكلتنا مع هذه الطبقة السياسية الحاكمة التي سرقت البلد وأفقرت الناس وأوصلتنا إلى هذا الانهيار الكبير، ما دفع أهلنا إلى المغامرة بأنفسهم وعائلاتهم للهروب من هذا الوضع الصعب نحو وطن يعيشون فيه بكرامة”، مشدّدين على أن “المشكلة مع الضابط المسؤول عن قتل أهلنا”، ومطالبين بمقابلة قائد الجيش و”لا نقبل بالتواصل مع أي سياسي”.

وفي سياق متصل، دعا المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان السلطات اللبنانية إلى فتح تحقيق فوري ومستقل في حادثة غرق مركب للمهاجرين وطالبي اللجوء قبالة سواحل طرابلس شمالي لبنان، وقال في بيان صحافي يوم الأحد، إنّ قارباً كان يحمل على متنه نحو 75 مهاجراً وطالب لجوء، بينهم عائلات بأكملها، انطلق في حوالي الساعة 7:30 مساءً بالتوقيت المحلي من منطقة القلمون تجاه السواحل الإيطالية، لكنّه سرعان ما تعرّض للغرق بعد أقل من نصف ساعة على إبحاره، وسط إفادات مُقلقة تشير على ما يبدو إلى تورّط زوارق تابعة للجيش أو الأمن اللبناني في الحادثة، مشدّداً على ضرورة أن تركّز السلطات اللبنانية جهودها في الوقت الحالي على عمليات البحث والإنقاذ في محيط موقع غرق القارب، على أمل العثور عن ناجين من المفقودين.

واستعرض التقرير إفادات منفصلة لأربعة ناجين من الحادثة، إذ قالوا إنّ زورقاً حربياً اقترب منهم بشكل كبير ونادى عليهم بضرورة العودة وعدم الاستمرار في الإبحار، إلّا أنّهم لم يستجيبوا وواصلوا طريقهم. وبعدها بوقت قصير، صدم الزورق الحربي قارب المهاجرين وأحدث به تلفاً أدى إلى تسّرب كميات كبيرة من المياه بداخله، وغرق من كانوا على متنه، وبعد وقت وجيز قدمت زوارق حربية وبدأت عمليات الإنقاذ.

وفي تصريح صحفي بعد الحادثة مساء السبت أفاد الجيش اللبناني بأنّ قواته البحرية تمكنت “حتى الساعة من إنقاذ 48 شخصاً بينهم طفلة متوفاة، كانوا على متن مركب تعرّض للغرق أثناء محاولة تهريبهم بطريقة غير شرعية، قبالة شاطئ القلمون – الشمال”، مرجحاً غرق المركب إلى “تسرّب المياه بسبب ارتفاع الموج والحمولة ‏الزائدة”، ومؤكداً أنّ “القوات البحرية […] عملت على سحب ‏المركب وإنقاذ معظم من كانوا على متنه، حيث قُدمت لهم الإسعافات الأولية ونُقل المصابون منهم إلى المستشفيات، فيما تواصل القوى عملياتها براً وبحراً وجواً لإنقاذ آخرين مازالوا في عداد المفقودين”، كما ذكر.

من جهته، دعا مدير العمليات في المرصد الأورومتوسطي، أنس جرجاوي، إلى ضرورة فتح تحقيق مستقل ومحايد لتحديد وكشف ملابسات غرق أو إغراق المركب، واتخاذ جميع المقتضيات القانونية التي قد تسهم في عدم تكرار هذه الحادثة الخطيرة، مضيفاً أن الحادثة مثلّت تذكيراً مأساوياً بحالة اليأس التي يعيشها اللبنانيون نتيجة التدهور غير المسبوق في الأوضاع المعيشية، إذ باتوا مستعدين أكثر من أي وقت مضى للمغامرة بأرواحهم في رحلات خطيرة هرباً من الواقع الصعب الذين يعيشونه منذ سنوات.

يُذكر أن المرصد الأورومتوسطي وثق وفاة أو فقدان نحو 220 مهاجراً وطالب لجوء في 10 حوادث منفصلة في مياه البحر المتوسط منذ بداية أبريل/ نيسان الجاري، ليرتفع العدد منذ بداية العام الجاري إلى نحو 590 شخصاً، قضى معظمهم عقب انطلاقهم من تونس وليبيا نحو السواحل الإيطالية.

كذلك، وثّق المصدر ذاته في تقرير سابق تصاعد أعداد الغرقى من المهاجرين وطالبي اللجوء، وكذلك الواصلين إلى أوروبا، خلال العام الماضي، إذ تشير الأرقام إلى وصول نحو 116.573 مهاجرا وطالب لجوء إلى أوروبا عبر البحر المتوسط عام 2021، أي بزيادة أكثر من 20% عن عام 2020، الذي شهد وصول 88.143 مهاجرا وطالب لجوء. وبالمثل شهد العام ذاته تصاعداً في أعداد الوفيات والمفقودين في البحر المتوسط، إذ سُجّل وفاة وفقدان نحو 1.864 شخصاً، منهم 64 طفلاً، بزيادة تقدر بنحو 21% عن عام 2020 الذي قضى فيه 1.401 شخص.

ودعا المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان السلطات اللبنانية إلى التعامل على نحو مسؤول وجاد مع اتهامات ضحايا غرق القارب حول ملابسات الحادثة، وإطلاق تحقيق معمّق لتحديد التفاصيل الدقيقة للحادثة، ومحاسبة جميع الأشخاص الذين يُحتمل تورطهم على نحو مباشر أو غير مباشر في غرق القارب، في حال أثُبتت تلك الادعاءات. كما حث الاتحاد الأوروبي على إنشاء آلية جديدة يُمكن من خلالها استحداث ممرات آمنة للهجرة، بما يؤدي إلى حماية المهاجرين وطالبي اللجوء من استغلال تجار البشر، بالإضافة إلى تطوير آليات وظروف الاستقبال، وعدم التعسف في رفض طلبات اللجوء، والعمل على نحو إيجابي لإدماج المهاجرين واللاجئين في مجتمعاتهم الجديدة، مطالباً دول المقصد الأوروبية بالكف عن تجريم وملاحقة جهود الإنقاذ غير الرسمية، والعمل بدلاً من ذلك على تفعيل مهام الإنقاذ الرسمية بشكل دائم لضمان الاستجابة السريعة لحوادث الغرق، على النحو الذي قد يساعد في الحد من الأعداد المتصاعدة للغرقى في مياه المتوسط.

بدورها، أعربت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة عن حزنهما العميق إزاء انقلاب قارب يقل 84 شخصاً قبالة سواحل مدينة طرابلس في لبنان، مشددتين على أنهما ستواصلان العمل مع اللاجئين والمهاجرين والمجتمعات المضيفة لتحذير الناس من مخاطر الرحلات غير النظامية.

ودعت المنظمتان في بيان مشترك إلى الإنزال الآمن للأشخاص المعرضين للخطر في البحر واحترام مبدأ عدم الإعادة القسرية.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة