معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 14 آذار/ مارس 2024*
فيجاي براشاد
نفّذت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفيلد، في الـ 20 من شباط/ فبراير، مهمة رهيبة، تمثلت في استخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع القرار الذي تقدمت به الجزائر لوقف إطلاق النار في غزة.
وقال السفير الجزائري لدى الأمم المتحدة عمار بن جامع إن مشروع القرار صيغ من خلال محادثات بين الأعضاء الخمسة عشرة في مجلس الأمن الدولي؛ وبالرغم من ذلك، طُلب منه تأجيل مشروع القرار، غير أن بلاده رفضت، مشدّدا على أن “الصمت ليس خيارا”، وزاد: “الآن هو وقت العمل ووقت الحقيقة”.
وكانت الجزائر تعهّدت باتخاذ إجراءات فورية عبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، عقب الأمر الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في الـ 26 من كانون الثاني/ يناير، والذي أشار إلى أن هناك أسبابا “معقولة” تؤكد أن أفعال إسرائيل في غزة ترقى إلى الإبادة الجماعية.
قتلت إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر ما يقرب 30 ألف فلسطيني في غزة، من بينهم أكثر من 13 ألف طفل؛ ومنذ صدور قرار محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني لوقف الإبادة الجماعية، قتلت إسرائيل أكثر من 3000 فلسطيني.
بعد أشهر من الفرار من منطقة آمنة مزعومة إلى أخرى قامت إسرائيل بقصفها، أصبح أكثر من 1.5 مليون فلسطيني – أكثر من نصف سكان غزة – محاصرين الآن في رفح، أقصى نقطة في جنوب غزة والتي أصبحت الآن المنطقة الأكثر كثافة سكانية في العالم. رفح، التي كان يبلغ عدد سكانها 275 ألف نسمة قبل 7 أكتوبر، تتعرض الآن للقصف الاسرائيلي.
وعلى الرغم من هذا الواقع المرير، قالت السفيرة توماس غرينفيلد إن الولايات المتحدة لا تستطيع دعم قرار وقف إطلاق النار لأنه لم يدن حماس، ولأنه من شأنه أن يعرض للخطر المفاوضات الجارية لإطلاق سراح الرهائن. ولم يتفق سفير الصين لدى الأمم المتحدة، تشانغ جون، مع هذا الموقف، مشيرًا إلى أن الفيتو “لا يختلف عن إعطاء الضوء الأخضر لاستمرار المذبحة”، وقال إنه من خلال “إطفاء نيران الحرب في غزة، يمكننا منع نيران الجحيم من اجتياح المنطقة بأكملها”.
والواقع أن بيان توماس غرينفيلد في مجلس الأمن جاء تزامنا مع محاولة حكومتها تقديم مساعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة 14 مليار دولار. منذ عام 1948، عندما تم إنشاء إسرائيل، قدمت لها الولايات المتحدة أكثر من 300 مليار دولار من المساعدات، بما في ذلك دفوعات سنوية قدرها 4 مليارات دولار من المساعدات العسكرية (وعشرات المليارات في طور الإعداد منذ 7 أكتوبر 2023). عندما تحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 11 فبراير/شباط، وبدلاً من انتقاد الإبادة الجماعية، أعاد التأكيد على “هدفهما المشترك المتمثل في رؤية حماس مهزومة وضمان أمن إسرائيل وشعبها على المدى الطويل”. لم يأت الفيتو الذي استخدمه توماس غرينفيلد من العدم.
تم استخدام حق النقض في مجلس الأمن الدولي حوالي 300 مرة. منذ عام 1970، استخدمت الولايات المتحدة هذه القوة أكثر من أي دولة أخرى من الأعضاء الدائمين في المجلس (الصين، فرنسا، روسيا والمملكة المتحدة). المرّات العديدة التي استخدمت فيها واشنطن الفيتو كانت، أولا، للدفاع عن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والذي بدأ في العام الذي تأسست فيه إسرائيل، ثم للدفاع عن إسرائيل ضد أي انتقاد. على سبيل المثال، 27 من أصل 33 مرة استخدمت فيها الولايات المتحدة حق النقض منذ عام 1988 كان دفاعًا عن ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد ثلاثة مشاريع قرارات في الأمم المتحدة كانت تهدف إلى إجبار إسرائيل على وقف القصف (18 أكتوبر/تشرين الأول، 8 ديسمبر/كانون الأول، و20 فبراير/شباط).
وعلى الرغم من استخدامه المتكرر من قبل الولايات المتحدة، إلا أن كلمة “الفيتو” لا تظهر في ميثاق الأمم المتحدة (1945). ومع ذلك، تنص المادة 27 (3) من الميثاق على أن التصويت في مجلس الأمن يتم “بموافقة أصوات تسعة من أعضائه يكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة”. تفسّر فكرة “الأصوات المتفقة” على أنها “حق النقض”.
لعقود من الزمن، أصرّت أغلب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على أن مجلس الأمن الدولي ليس ديمقراطيا، وأن حق النقض يجعله أقل مصداقية. ولا تتمتع أي دولة أفريقية أو أميركية لاتينية بمقاعد دائمة في المجلس، كما أن الدولة التي تضم أكبر عدد من السكان على مستوى العالم ــ الهند ــ محرومة أيضاً من هذا الامتياز. لم تهيمن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن فحسب، بل أدت أيضاً إلى إضعاف أهمية الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي لا تتمتع قراراتها بسلطة الإنفاذ.
في عام 2005، عقدت الأمم المتحدة قمة عالمية لتقييم التهديدات عالية المستوى للنظام العالمي، حيث قال نائب رئيس كوستاريكا آنذاك، لينيث سابوريو شافيري، إنه “يجب إلغاء حق النقض في قضايا الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”. وبعد تلك القمة، انضمت كوستاريكا إلى الأردن وليختنشتاين وسنغافورة وسويسرا لإنشاء مجموعة الخمسة الصغار (S5) للترافع على إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد وضعوا بيانًا في الجمعية العامة ينص على أنه “لا يجوز لأي عضو دائم أن يستخدم حق النقض بالمعنى المقصود في الفقرة 3 من المادة 27 من الميثاق في حالة وقوع إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني”. لكن هذا لم يكن له أي تأثير.
بعد حل مجموعة الخمسة الصغار سنة 2012، اتحدت 27 دولة لإنشاء مجموعة المساءلة والتماسك والشفافية (ACT)، وذلك لإصلاح “حق النقض”؛ وفي عام 2015، قامت المجموعة بتعميم مدونة قواعد سلوك خاصة بإجراءات الأمم المتحدة ضد الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني. وبحلول عام 2022، كانت 123 دولة قد وقّعت على هذه المدونة، بالرغم من أن الدول الثلاث الأكثر استخداما للفيتو خلال السنوات القليلة الماضية (الصين، روسيا والولايات المتحدة) لم تفعل ذلك. ومع التوترات المتزايدة التي فرضتها الولايات المتحدة على الصين وروسيا، فمن غير المرجح أن توافق هاتان الدولتان ــ المهددان الآن بالهجوم من قِبَل الولايات المتحدة ــ على إلغاء حق النقض.
إن ميثاق الأمم المتحدة، وهو المعاهدة الأكثر أهمية على هذا الكوكب، محاولة لإنهاء الحرب وضمان الاعتزاز بحياة كل إنسان. ومع ذلك، فإن عالمنا ممزق بسبب التقسيم الدولي للإنسانية، والذي بموجبه تكون حياة بعض الناس أكثر قيمة من حياة آخرين. ويشكل هذا التقسيم انتهاكاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والغريزة الأساسية المشتركة للمساواة الاجتماعية. على سبيل المثال، يتم التعامل مع حماية أطفال فلسطين بقدر أقل إلحاحًا بكثير من حماية أطفال أوكرانيا (كأن تقول كيلي كوبيلا، مراسلة شبكة إن بي سي نيوز في لندن، إن الأوكرانيين ليسوا لاجئين من أي مكان: “بتعبير صريح… هؤلاء مسيحيون؛ إنهم بيض”). هذا التقسيم الدولي للبشرية يتسرب إلى الوعي العام جيلا بعد جيل.
في كتاب المعانقات (1992)، كتب صديقنا إدواردو غاليانو مقتطفًا قصيرًا عن الانقسامات الخطيرة التي تصيب عالمنا وتغرس وتدًا حديديًا باردًا في قلب شعورنا الإنساني. يُطلق على هذا الجزء اسم “اللاأحد”:
البراغيث تحلم بشراء كلب، واللاأحد يحلمون بالنجاة من البؤس: أنه في يوم سحري ما سيمطر الحظ الجيد عليهم فجأة – سينهمر بكميات كبيرة. لكن الحظ الجيد لم يمطر البارحة، ولن يمطر اليوم، غدا أو في أي وقت، والحظ الجيد لا يتساقط حتى في رذاذ رائع، مهما عانى اللاأحد في استحضاره، حتى لو كانت أيديهم اليسرى مدغدغة، أو إذا بدأوا يوما جيدا بأقدامهم اليمنى، أو بدأوا العام الجديد بتغيير المكانس.
اللاأحد: أطفال لا أحد، الذين لا يملكون شيئا، اللاأحد: الذين ليسوا أحدا، الذين جعلوا هكذا، يركضون كالأرانب، يموتون في الحياة، الثملون بكل طريقة.
الذين ليسوا، ولكن يمكن أن يكونوا.
الذين لا يتحدثون لغات وإنما لهجات.
الذين لا أديان لهم، وإنما خرافات.
الذين لا يبدعون فنا، وإنما صنعة يدوية.
الذين لا يملكون ثقافة وإنما فلكلورا.
الذين ليسوا كائنات بشرية وإنما مصادر بشرية.
الذين ليس لهم وجوه بل أذرع.
الذين لا أسماء لهم إنما أرقام.
الذين لا يظهرون في تاريخ العالم، بل في دفتر الشرطة، في الصحيفة المحلية.
اللاأحد، الذين ليسوا بقيمة الرصاصة التي تقتلهم.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة الإنجليزية بتاريخ: 29 شباط/ فبراير 2024.