إذا فهمت العالم، يمكنني أن أسير لتغييره: المراسلة الثامنة (2024)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 29 شباط/ فبراير 2024*

فيجاي براشاد

يعرض التلاميذ فراشة صنعوها في مادو أدو (العلم، أو “دعونا نفعل ذلك”)، الهند.
صور وتركيب معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي.

في عام 1945، عقدت الأمم المتحدة، حديثة النشأة، مؤتمرًا لتأسيس منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). كان الاهتمام الرئيسي للمندوبين، وخاصة أولئك الذين أتوا من العالم الثالث، منصبّا حول محو الأمية. وقال الدكتور خايمي جاراميلو أرانغو، رئيس الجامعة الوطنية في كولومبيا، إنه يجب أن تكون هناك “حملة عالمية ضد الأمية”؛ بالنسبة له ولأشخاص آخرين، كانت الأمية “واحدة من أعظم الاعتداءات على كرامة الإنسان”.

قال عبد الفتاح عمرو، السفير المصري لدى المملكة المتحدة والبطل في رياضة الكرة الصّائتة (الإسكواش)، إن الأمية كانت جزءًا من مشكلة أكبر وهي التخلف، كما يتضح من “نقص الفنيين وندرة المواد التعليمية”. وقد وجد هؤلاء القادة الإلهام في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، الذي نجح برنامجه “ليكبيز” (تصفية الأمية) في القضاء على الأمية فعلياً بين عامي 1919 و1937. إذا كان الاتحاد السوفييتي قادراً على القيام بذلك، فإن المجتمعات الزراعية الأخرى تستطيع فعل ذلك.

أصدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، في كانون الأول/ ديسمبر 2023، تقريرًا مدهشا يوضح أنه منذ عام 2018، انخفض معدل القدرة على القراءة والرياضيات بين طلاب العالم. والأهم من ذلك أنهم لاحظوا أن هذا الوضع “لا يمكن أن يُعزى إلا جزئيًا إلى جائحة كوفيد-19”: فقد كانت النتائج فيما يتعلق بالقراءة والعلوم في انخفاض قبل بدء الوباء، على الرغم من تفاقمها منذ ذلك الحين، ويرجع ذلك، حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، هو تناقص في الوقت والجهد الذي يخصصه المعلمون وأولياء الأمور لمساعدة طلابهم وأطفالهم.

ما لم تذكره المنظمة هو أن هذا التراجع في الدعم خلال الخمسين سنة الماضية هو نتيجة لأنظمة التقشف التي فُرضت على معظم مجتمعات العالم. فقد تم تخفيض ميزانيات التعليم، مما يعني أن المدارس ببساطة لا تملك ما يكفي من الموارد أو الموظفين لمباشرة مهامها، ناهيك عن العدد الكافي من المعلمين لتقديم الدعم الإضافي الذي يحتاجه الطلاب المتعثرون. وكجزء من تخفيض تمويل المدارس، أصرت الدول على أن تقوم مؤسسات التعليم الخصوصية بإنتاج الكتب المدرسية والوحدات الدراسية (بما في ذلك البرامج التعليمية الرقمية) التي تضعف المعلمين وتخفّض معنوياتهم. فبينما يعمل الآباء في مهن متزايدة الصعوبة، فإنهم ببساطة لا يملكون الوقت ولا الطاقة اللازمة لرفد تعليم أطفالهم.

طلاب من سيدابورا والقرى المجاورة يشاركون في مسيرة لافتتاح مهرجان متعة التعلم لعام 2023 في سيدابورا (الهند).

لماذا لم ترغب دول العالم في تمويل التعليم العمومي بشكل كاف؟ في الشمال العالمي، حيث توجد ثروة اجتماعية كبيرة، يحجم القادة عن فرض الضرائب على أصحاب الدخل الأعلى وأصحاب الثروات، ويميلون بدلاً من ذلك إلى استخدام الموارد الثمينة المتبقية لتمويل المؤسسة العسكرية بدلاً من الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة ورعاية كبار السن.

تنفق دول الشمال العالمي العضو في حلف شمال الأطلسي تريليونات الدولارات على الأسلحة (ثلاثة أرباع إجمالي الإنفاق العسكري العالمي)، ولكنها تنفق مبالغ ضئيلة على التعليم والرعاية الصحية. ويتجلى هذا في تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، الذي يشير إلى انحدار حاد في المعرفة المتعلقة بالرياضيات في بلدان مثل بلجيكا، وكندا، وأيسلندا ــ والتي لا يعتبر أي منها من البلدان الفقيرة.

ويشير تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن هذا لا يرجع إلى مستويات التمويل فحسب، بل أيضًا إلى “جودة التدريس”. ومع ذلك، فإن التقرير لا يشير إلى أن هذه “الجودة” هي نتيجة لسياسات التقشف التي تحرم المعلمين من الوقت اللازم لتعليم ودعم الطلاب، ومن أن يكون لهم رأي في المواد الموجودة في المناهج الدراسية، ومن الموارد اللازمة للمزيد من التكوين (بما في ذلك الإجازات الدراسية).

وفي الجنوب العالمي، تُعزى الانخفاضات بشكل مباشر إلى انهيار التمويل. وتظهر الدراسات التي أجريت على مدى السنوات القليلة الماضية، وتحليلنا لتقييمات فريق صندوق النقد الدولي، أن المنظمة مارست ضغوطا على الدول الفقيرة لخفض تمويل القطاع العام.

وبما أن أجور معظم المعلمين تشكل جزءًا من فاتورة أجور القطاع العام، فإن أي تخفيض من هذا القبيل يؤدي إلى انخفاض رواتب المعلمين وارتفاع نسبة المعلمين إلى الطلاب.

وأظهرت دراسة أجرتها منظمة “أكشن إيد” في خمسة عشر بلدا، من غانا إلى فيتنام، أن صندوق النقد الدولي أجبر هذه الدول على خفض فواتير أجور القطاع العام في الميزانيات التي تم إقرارها في عدة دورات (تصل إلى ست سنوات) بما يقارب 10 مليارات دولار – أي ما يعادل تكلفة توظيف ثلاثة ملايين معلم في المدارس الابتدائية.

وتظهر دراسة أخرى، أجراها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن صندوق النقد الدولي قد فرض تخفيضات في الميزانية بـ 189 دولة وستظل سارية حتى عام 2025، وعندها، من المتوقع أن تظل سياسة ثلاثة أرباع العالم خاضعة لشروط التقشف.

وأشار تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن 25 دولة فقيرة أنفقت 20% من إيراداتها سنة 2022 لتسديد ديونها الخارجية ــ أي أكثر من ضعف المبلغ الذي أُنفق على البرامج الاجتماعية بجميع أنواعها (بما في ذلك التعليم). ويبدو أن إرضاء حمَلة السندات الأثرياء أكثر أهمية من إرضاء التلاميذ الذين يحتاجون إلى معلّميهم.

هذا الوضع المروع يدين هدف “التنمية المستدامة” رقم 4 (إنهاء الأمية) ويقوده نحو الفشل. فلتحقيق هذا الهدف، يحتاج العالم إلى توظيف 69 مليون معلم إضافي بحلول 2030، وهذا ليس مطروحا في أجندة أغلب البلدان.

يعرض مجموعة من الطلاب الخريطة التي قاموا بإعدادها بعد القيام بجولة في إحدى القرى كجزء من نشاط يسمى “Uru Tiliyona” (“هيا بنا نتعرف على القرية”).

في عام 1946، شغلت وزيرة التعليم في المملكة المتحدة إلين ويلكنسون منصب رئيسة المؤتمر الأول لليونسكو. قادت ويلكنسون، التي عرفت بـ “إلين الحمراء” (وكانت من ضمن مؤسسي الحزب الشيوعي لبريطانيا العظمى في عام 1920)، النضال من أجل العاطلين عن العمل في الثلاثينيات وكانت أيقونة للجمهورية الإسبانية. أثناء الحرب العالمية الثانية، قالت: لقد شهدنا “المعركة الكبرى التي خاضها العامل المثقف، والرجال والنساء ذوي العقول النزيهة” ضد هذا الشر الوحشي [من “القومية الضيقة” و”الخضوع لآلة الحرب”].

وشرحت إلين الحمراء أن الفاشيين كانوا يعرفون أن العقل ومعرفة القراءة والكتابة هما أعداؤهم: “في كل أرض اجتاحها الشموليون، كان المثقف هو أول من يقع عليه الاختيار لمواجهة فرقة الإعدام – المعلم، والقس، والأستاذ. لقد عرف الرجال الذين أرادوا حكم العالم أن عليهم أولاً قتل أولئك الذين حاولوا إبقاء الفكر حرًا”. الآن، لم يتم تفضيل هؤلاء المعلمين عن فرقة الإعدام؛ لقد تم طردهم ببساطة.

لكن هؤلاء العمال المثقفين لم يستسلموا حينها، ولن يستسلموا الآن. يسلّط ملفنا الأخير، كيف تجلب حركة العلوم الشعبية المتعة والمساواة للتعليم في كارناتاكا، الهند، الضوء على العمال الذهنيين الذين يجدون طرقًا مبتكرة لإيصال الفكر العلمي والعقلاني للأطفال في كارناتاكا (الهند)، على سبيل المثال، من خلال حركتهم “مهرجانات متعة التعليم”، مدارس الأحياء، وبرنامج “الضيف المضيف”.

ويحدث هذا في سياق قررت فيه حكومة الهند إلغاء نظرية التطور والجدول الدوري ومصادر الطاقة من المناهج الدراسية والكتب المدرسية – على الرغم من التحذير الذي أثاره ما يقرب من خمسة آلاف عالم ومعلم وقعوا على عريضة صاغتها جمعية العلوم “Breakthrough Science Society” تدعو الحكومة إلى التراجع عن قرارها.

تعد العريضة و”مهرجانات متعة التعلم”، على حد سواء، جزءًا من حركة أوسع لدمقرطة المعرفة وتفكيك التراتب الاجتماعي البائس. تقيم جمعية “بهارات جيان فيجيان ساميتي” (رابطة المعرفة العلمية الهندية أو “BGVS”) مهرجانات متعة التعلم لتعزيز التعلم العلمي والفكر العقلاني في جميع أنحاء ولاية كارناتاكا الهندية، البالغ عدد سكانها 65 مليون نسمة – وهو نفس عدد سكان فرنسا تقريبًا. يوضح ملفنا كيف جلبت الـ “BGVS” البهجة لتعليم العلوم لملايين الأطفال الصغار في الهند.

الكوبيون يحتفلون في المسيرة الختامية لحملة محو الأمية في ساحة الثورة بهافانا، ديسمبر 1961. تصوير ليبوريو نوفال.

تخيل أنك طفل صغير لم تتعامل قط مع قوانين العلم، وتجد نفسك في مهرجان لـ “رابطة المعرفة العلمية الهندية” في منطقة ريفية في كارناتاكا، حيث توجد حجيرة بها دراجة مفككة. يقول المعلم في الحجيرة أنه إذا كان بإمكانك تجميع الدراجة، فيمكنك الحصول عليها. تمرّر أصابعك عبر السلسلة، والتروس، وإطار الدراجة. أنت تتخيل كيف تبدو الدراجة المجمعة بالكامل وتحاول تجميع القطع معًا، وفي الوقت نفسه تتوصل إلى فهم لكيفية توليد الطاقة عن طريق الضغط على الدواسة، والتي تعمل من خلال التروس على تضخيم حركة العجلات. تبدأ في التعرف على قوانين الحركة وعزم الدوران. ستتعرف على بساطة الآلات وفائدتها الهائلة. وتضحك مع أصدقائك بينما تحاول حل لغز جميع قطع الدراجة.

مثل هذا النشاط لا يجلب البهجة إلى حياة مليون طفل في ولاية كارناتاكا فحسب؛ بل إنه يعزز فضولهم ويتحدى ذكائهم. وهذا هو جوهر عمل “رابطة المعرفة العلمية الهندية” ومهرجانات متعة التعلم التابعة لها، والتي يديرها معلمو المدارس الحكومية الذين عينتهم ودربتهم الحركة العلمية. هذا النوع من المهرجانات لا ينقذ الحياة الجماعية فحسب، بل هو آلية للارتقاء بعمل وقيادية المعلمين المحليين والتأكيد على أهمية التفكير العلمي.

الكوبيون يحتفلون في المسيرة الختامية لحملة محو الأمية في ساحة الثورة بهافانا، ديسمبر 1961. تصوير ليبوريو نوفال.

في عام 1961، كتب المغني الكوبي إدواردو سابوريت الأغنية الجميلة “Despertar” (“الصحوة”) تقديرا منه للحملة الكوبية لمحو الأمية، وغنّى: هناك الكثير من الأشياء التي يمكنني أن أخبرك بها بالفعل، لأنني تعلمت الكتابة أخيرًا، الآن أستطيع أن أقول إنني أحبك. الآن، أستطيع أن أفهم العالم. الآن، لم يعد بإمكاني أن أشعر بالضعف. الآن، أستطيع بثقة أن أضع قدماً أمام الأخرى وأسير لتغيير العالم.

*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة الإنجليزية بتاريخ: 22 شباط/ فبراير 2024.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة