الصراعات، الحرب، المجاعة والموت تضربك مباشرة في القلب: المراسلة 11 (2024)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 16 آذار/ مارس 2024*

فيجاي براشاد

قدم المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فيليب لازاريني، في 4 آذار/مارس، تقريره المروع حول الوضع في غزة (فلسطين) إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وقال لازاريني إنه خلال 150 يوما فقط، قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 30 ألف فلسطينيا، نصفهم تقريبا من الأطفال. أما أولئك الذين بقوا على قيد الحياة فما زالوا يواجهون الهجمات الإسرائيلية ويعانون من صدمات الحرب.

فرسان يوم القيامة الأربعة المذكورين في سفر الرؤيا في الكتاب المقدس -الصراعات، الحرب، المجاعة والموت- يركضون الآن في غزة من أقصاها إلى أدناها.

قال لازاريني: “الجوع في كل مكان” مضيفا أن “مجاعة متعمّدة تلوح في الأفق”. وبعد أيام قليلة من إجراء لازاريني لتقييمه الصريح، أفادت وزارة الصحة في غزة أن مستويات سوء التغذية بين الأطفال في الجزء الشمالي من القطاع “شديدة للغاية”.

وصرّح منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في فلسطين جيمي ماكغولدريك إن “الجوع وصل إلى مستويات كارثية” مشدّدا على أن “الأطفال يموتون من الجوع”. وبحلول نهاية الأسبوع الأول من شهر آذار/ مارس، مات ما لا يقل عن عشرين طفلاً بسبب الجوع؛ وكان من بينهم يزن الكفارنة البالغ من العمر عشر سنوات من بيت حانون (شمال غزة)، والذي توفي في رفح (جنوب غزة) في اليوم نفسه الذي تحدث فيه لازاريني في الأمم المتحدة. لقد مزقت صورة جسد يزن الهزيل الضمير المحطم لعالمنا.

هبة زقوت (1984–2023)، سلام غزة، 2021.

قصة قبيحة تلي الأخرى وتتراكم بجانب الأنقاض التي خلفها القصف الإسرائيلي. يقول الدكتور محمد صالحة من مستشفى العودة، حيث توفي يزن، إن العديد من النساء الحوامل اللاتي يعانين من سوء التغذية أنجبن أجنة ميتة أو احتجن إلى عمليات قيصرية لإزالتها – دون تخدير.

محمد سامي قريقع (1999–2023)، من معرض” مطار غزة الدولي”، 2022.

لا يلوح أي وقف لإطلاق النار في الأفق، كما ينعدم أي التزام حقيقي بإدخال المساعدات إلى غزة، لا سيما في الشمال حيث خلّف الجوع أكبر عدد من الضحايا (في 28 شباط/ فبراير، أخبر نائب المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، كارل سكاو، مجلس الأمن أن هناك “احتمالًا حقيقيًا لحدوث مجاعة [في شمال غزة] بحلول شهر مايو/أيار، مع تعرض أكثر من 500 ألف شخص للخطر إذا سُمح لهذا التهديد بالحدوث”).

تدخل نحو 155 شاحنة مساعدات إلى غزة يوميا – وهو أقل بكثير من الطاقة الاستيعابية اليومية للمعابر والبالغة 500 شاحنة – ولا يذهب سوى عدد قليل من هذه المساعدات إلى شمال غزة.

لقد كان الجنود الإسرائيليون عديمي الرحمة، ففي 29 فبراير/شباط، عندما وصلت شاحنات المساعدات إلى دوار النابلسي (على الطرف الجنوبي الغربي من مدينة غزة، في شمال القطاع) وهرع إليها الأناس اليائسون، فتحت القوات الإسرائيلية النار وقتلت ما لا يقل عن 118 مدنياً أعزل. يُعرف هذا الآن باسم “مذبحة الدقيق”.

إن عمليات الإنزال الجوي للغذاء ليست كافية من حيث الحجم، بل وتسببت في وجع القلب أيضا، بعد أن سقطت بعض الطرود في البحر الأبيض المتوسط وسحقت طرود أخرى ما لا يقل عن خمسة أشخاص حتى الموت.

أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، في خطاب “حالة الاتحاد” في السابع من آذار/ مارس، أن بلاده ستبني “رصيفا مؤقتا” جنوب غزة لتسهيل دخول المساعدات عبر البحر. غير أن سياق هذا القرار، الذي أغفل بايدن ذكره، واضح: فإسرائيل لا تسمح بمرور الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية عبر المعابر البرية، ودمرت ميناء غزة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول، ودمرت مطار غزة في الدهنية في عام 2006. القرار الأمريكي بالتأكيد لم يأتي من العدم.

وجاءت هذه الخطوة أيضا في خضم حملة للديمقراطيين في الولايات المتحدة للتصويت بـ “غير ملتزمين” في الانتخابات التمهيدية الجارية لتوضيح أن تواطؤ الولايات المتحدة في الإبادة الجماعية سيؤثر سلبًا على جهود إعادة انتخاب بايدن. ورغم أن رغيف خبز واحد أفضل من لا شيء، إلا أن أرغفة الخبز هذه ستأتي إلى غزة ملطخة بالدماء.

هناك جانب غامض في الإعلان الذي أدلى به بايدن، فبمجرد وصول المساعدات إلى هذا “الرصيف المؤقت”، كيف سيتم توزيعها؟ المؤسسات الرئيسية في غزة القادرة على التوزيع على نطاق واسع هي الأونروا ــ التي توقف تمويلها الآن من قِبَل أغلب الدول الغربية ــ والحكومة الفلسطينية التي تقودها حماس ــ والتي تهدف الدول الغربية إلى تدميرها. وبما أن أياً منهما لن يكون قادراً على توزيع المساعدات الإنسانية على الأرض (يذكر أن بايدن أشار إلى أنه “لن تكون هناك قوات أمريكية على الأرض”)، فماذا سيحدث للمساعدات؟

فتحي غبن (1947–2024)، شعاع المجد، 1994.

بدأت الأونروا عملها بعد وقت قصير من صدور قرار الأمم المتحدة رقم 302 (رابعا) سنة 1949، ومنذ ذلك الوقت أصبحت المنظمة الرئيسية التي تقدم الإغاثة للاجئين الفلسطينيين (الذين كان عددهم 750 ألفا عندما بدأت الأونروا عملياتها، ووصل عددهم الآن نحو 5.9 مليون).

إن مهمة الأونروا بالغة الدقة: يجب أن تضمن رفاهية الفلسطينيين، لكنها لا تستطيع أن تعمل على توطينهم بشكل دائم خارج وطنهم. وذلك لأن قرار الأمم المتحدة رقم 194 يمنح الفلسطينيين “حق العودة” إلى وطنهم الذي طردتهم منه إسرائيل. وبالرغم من أن العمل الرئيسي للأونروا كان في مجال التعليم (ثلثي موظفيها البالغ عددهم 30 ألف يعملون في مدارس الأونروا)، إلا أنها أيضًا المنظمة الأكثر تجهيزًا للتعامل مع توزيع المساعدات.

لم يسمح الغرب بتأسيس الأونروا حبا في الفلسطينيين، بل – وكما لاحظت وزارة الخارجية الأمريكية سنة 1949 – إن “ظروف الاضطرابات واليأس من شأنها أن توفر مرتعا خصبا لغرس الشيوعية”؛ ولهذا السبب، قدم الغرب التمويل للأونروا (رغم أن ذلك كان مصحوباً بقيود شديدة منذ عام 1966). وفي أوائل عام 2024، قطعت معظم الدول الغربية تمويلها للأونروا بناءً على اتهام لا أساس له يربط موظفي الأونروا بهجوم 7 أكتوبر. وعلى الرغم من أنه انكشف مؤخرًا أن الجيش الإسرائيلي قام بتعذيب موظفي الأونروا، مثل الإيهام بالغرق والضرب، وإجبارهم على الإدلاء بهذه الاعترافات، فإن معظم الدول التي قطعت تمويلها على أساس هذه المزاعم لم ترجع التمويل (باستثناء كندا والسويد، اللتين استأنفتا تمويلهما مؤخرًا). ومن ناحية أخرى، قامت العديد من دول الجنوب العالمي ــ بقيادة البرازيل ــ بزيادة مساهماتها.

وقال فيليبو غراندي، المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الذي أدار الأونروا من عام 2010 إلى عام 2014، مؤخراً، إنه “إذا لم يُسمح للأونروا بالعمل، أو تم تجميد تمويلها، فلا أستطيع أن أرى بديلا عنها”. لا يمكن تنفيذ أي برنامج إغاثة إنسانية للفلسطينيين في غزة على المدى القصير من دون الشراكة الكاملة للأونروا، وأي شيء آخر ليس سوى خدعة علاقات عامة.

مجد عرندس (1994-2023)، جدتي، 2022.

وأنا أقرأ عن المجاعة في غزة، تذكرت قصيدة كتبتها فيسوافا شيمبورسكا (1923-2012) عن معسكر اعتقال زيبني في جاسلو (جنوب بولندا)، الذي كان يضم اليهود البولنديين، وشعب الغجر، وأسرى الحرب السوفييت من عام 1941 حتى تم تحرير المعسكر على يد الجيش الأحمر في أيلول/ سبتمبر 1944. وقد مارس النازيون أعمال عنف وحشية ومروعة في معتقل زيبني، خاصة ضد آلاف اليهود الذين قُتلوا هناك في عمليات إعدام جماعية.

قصيدة شيمبورسكا، “مخيم الجوع بالقرب من جاسلو” (1962)، لا تتراجع أمام البؤس الذي أحاط بها، ولا عن إمكانية الإنسانية التي كانت تتوق إليها.

قم بتدوينه. أكتبه. بالحبر العادي

على ورق عادي: لم يُعطوا طعامًا،

كلهم ماتوا من الجوع. الجميع. كم؟

إنه مرج كبير. كم من العشب

لكل رأس؟ اكتب: لا أعرف.

التاريخ يقرب الهياكل العظمية إلى الصفر.

ألف وواحد يبقى مجرد ألف.

يبدو هذا الواحد وكأنه لم يوجد أبدًا:

جنين وهمي، مهد فارغ،

أول كتاب فُتح للا أحد ،

الهواء الذي يضحك، ويبكي، وينمو،

سلالم للفراغ الممتد إلى الحديقة،

لا مكان لأحد في الصفوف

*****

لقد أصبح لحمًا هنا، في هذا المرج.

لكن المرج صامت، مثل الشاهد الذي تم شراؤه.

مشمس. أخضر. غابة قريبة في متناول اليد،

مع الخشب لمضغه، وقطرات تحت اللحاء للشرب –

منظر يقدم على مدار الساعة،

حتى تصاب بالعمى. في الأعلى، طائر

الذي نقر ظله على أجنحته المغذية

عبر شفاههم. انخفض الفكين،

أسنان متناثرة.

*****

في الليل تألق المنجل في السماء

وحصدت الظلام من أجل أرغفة حلمت بها.

جاءت الأيدي تطير من الرموز المسودّة،

كل منهم يحمل كأسًا فارغًا.

تمايل رجل

على شباك من الأسلاك الشائكة.

بعضهم غنى والتراب في أفواههم. تلك الأغنية الجميلة

عن الحرب التي تضربك مباشرة في القلب.

اكتب كم هادئة هي.

نعم.

تعود اللوحات والصور الموجودة في هذه المراسلة إلى فنانين فلسطينيين قتلوا في غزة خلال الإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل. لقد ماتوا، ولكن علينا أن نعيش لنروي قصصهم.

*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة الإنجليزية بتاريخ: 14 آذار/ مارس 2024.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة