الجنوب العالمي يجرّ إسرائيل إلى المحكمة: المراسلة الثالثة (2024)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الإجتماعي + مدار: 21 كانون الثاني/ يناير 2024*

فيجاي براشاد

طارق الغصين، (فلسطين)، بلا عنوان 9 من سلسلة بورتريه ذاتي، 2002.

وقفت عديلة هاشم، محامية جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، يوم الـ 11 من يناير/ كانون الثاني أمام قضاة محكمة العدل الدولية، مخاطبة إياهم: “لا يتم الإعلان مسبقًا عن الإبادات، لكن أمام هذه المحكمة ميزة الأدلّة التي تم جمعها خلال الأسابيع الـ13 الماضية والتي تُظهر بلا شك نمطًا من السلوك والنوايا التي تبرر الادعاء المعقول بارتكاب أعمال إبادة”. كان هذا البيان هو أساس عرض هاشم لشكوى جنوب أفريقيا المؤلفة من 84 صفحة ضد الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين في غزة. تعتبر كل من إسرائيل وجنوب أفريقيا طرفان في اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948.

يوثق الملف الذي قدمته حكومة جنوب أفريقيا العديد من الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل، بالإضافة إلى تصريحات نوايا ارتكاب الإبادة الجماعية التي أدلى بها كبار المسؤولين الإسرائيليين. تسرد تسع صفحات من نص الشكوى (الصفحات 59 إلى 67) “التعبيرات عن نية الإبادة الجماعية” التي أدلى بها في المقام الأول مسؤولون في إسرائيل، مثل الدعوات إلى “النكبة الثانية” و”نكبة غزة” (النكبة، التي تعني الكارثة باللغة العربية، وتشير بالمقام الأول إلى طرد الفلسطينيين من منازلهم عام 1948، وكان السبب من ورائها إنشاء دولة إسرائيل). وقد ظهرت إعلانات النوايا المخيفة هذه مرارا وتكرارا في خطابات الحكومة الإسرائيلية وبياناتها منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلى جانب استعمال لغة ومصطلحات عنصرية مثل “الوحوش”، و”الحيوانات”، و”الغابة”، في إشارة إلى الفلسطينيين. وفي واحدة من هذه الحالات العديدة قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إن قواته “تفرض حصارا كاملا على غزة، لا كهرباء، لا طعام، لا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف وفقا لذلك”.

وصف تمبيكا نجكوكايتوبي، وهو محام آخر من جنوب أفريقيا، هذه الكلمات بأنها “لغة مجردة منهجيا من الإنسانية”. إن هذه اللغة، إلى جانب طبيعة الهجوم الإسرائيلي ــ الذي أودى حتى الآن بحياة أكثر من 24 ألف فلسطيني، وتسبب في نزوح جميع سكان غزة تقريباً، وأغرق 90% من السكان في حالة من الفقر الغذائي الحاد ــ ينبغي أن توفر أساسا كافيا لاتهام الإبادة الجماعية.

ومن المناسب أن الاسم الأول لعديلة هاشم يعني النزاهة أو العدالة في اللغة العربية، والاسم الأول لتمبيكا نجوكايتوبي يعني الموثوقية حسب لغة الخوسا.

جون حلقه (فلسطين)، ذكريات الذكريات، 2023.

ولم تتمكن إسرائيل خلال أطوار جلسة محكمة العدل الدولية من الرد بمصداقية على شكوى جنوب أفريقيا. وأمضى تال بيكر، المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، عرضه بأكمله في محاولة توجيه الاتهام إلى حماس، التي ليست طرفا في النزاع. وقال بيكر إن حماس هي التي خلقت “البيئة الكابوسية” في غزة – وليست إسرائيل.

بعد أن قدمت إسرائيل مرافعتها، بدأ قضاة محكمة العدل الدولية الخمسة عشر مداولاتهم. وكانت العروض التي عُقدت يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني مجرد جلسة استماع أولية للتأكد مما إذا كانت هناك أدلة كافية للمضي قدما في المحاكمة، التي – إذا حدثت – فمن المرجح أن تستغرق سنوات. ومع ذلك، طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة تطبيق “تدابير مؤقتة”، قائمة على تبني أمر طارئ من قضاة محكمة العدل الدولية يدعو إسرائيل إلى وقف الإبادة الجماعية التي تستهدف الفلسطينيين، وسيكون هذا، إذا ما تتحقق، بمثابة ضربة كبيرة لشرعية إسرائيل المتضائلة بالفعل، فضلا عن شرعية داعمها الرئيسي، الولايات المتحدة الأمريكية. هناك حالة سابقة تم فيها تبني هذا الإجراء، ففي عام 2019، تمكنت غامبيا من إقناع المحكمة بإصدار أمر باتخاذ إجراءات مؤقتة ضد حكومة ميانمار بسبب هجماتها على شعب الروهينجا. العالم ينتظر حكم المحكمة.

إبراهيم خطّاب (مصر)، افعل ما شئت تحت الأشجار، 2021.

في اليوم السابق لبدء جلسات الاستماع، أصدرت الولايات المتحدة بيانا عبرت فيه عن أن “المزاعم القائلة إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية لا أساس لها من الصحة”. ومرة أخرى، دعمت حكومة الولايات المتحدة إسرائيل بشكل كامل، وتدخلت لصالحها ليس فقط بالكلمات، بل من خلال توفير الأسلحة والدعم اللوجستي للإبادة الجماعية. ولهذا السبب، تعمل جنوب أفريقيا الآن على إعداد دعوى قضائية ضد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتقديمها إلى محكمة العدل الدولية.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، عندما كان طابع الإبادة الجماعية للحرب مقبولا على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، أقر الكونغرس الأمريكي حزمة مساعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة 14.5 مليار دولار. وبينما عقدت محكمة العدل الدولية جلسة استماع، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي للصحافة إن الولايات المتحدة “ستواصل تزويد [إسرائيل] بالأدوات والقدرات التي تحتاجها”، وهو ما فعلته – مرة أخرى – في 9 و29 ديسمبر/كانون الأول، عندما نقلت أسلحة إضافية إلى إسرائيل. وعندما سُئل عن المخاوف بشأن الخسائر في الأرواح داخل الكونغرس، قال كيربي: “مازلنا لا نرى أي مؤشر على أن [إسرائيل] تنتهك قوانين النزاع المسلح”. كما اعترف كيربي، الأميرال السابق، بأن “هناك عددا كبيرا جدا من الضحايا المدنيين”. ومع ذلك، بدلا من الدعوة إلى إنهاء الهجمات على المدنيين، قال إنه يجب على إسرائيل “اتخاذ خطوات للحد من ذلك”. أو بعبارة أخرى، أعطت الولايات المتحدة إسرائيل الضوء الأخضر والدعم المطلق والأسلحة للقيام بكل ما تريد في حق الفلسطينيين.

وعندما قرر شعب اليمن، بقيادة أنصار الله، منع حركة السفن إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر، شكلت الولايات المتحدة “تحالفاً” لمهاجمة اليمن. وفي يوم مرافعة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية قصفت الولايات المتحدة اليمن، وكانت الرسالة واضحة: لن تقدم الولايات المتحدة الدعم غير المشروط للإبادة الجماعية فحسب، بل إنها ستهاجم الدول التي تحاول وضع حد لها.

شيماء التميمي (اليمن)، قريب جداً ولكن بعيد جداً، 2018.

إن الفظائع التي ترتكبها إسرائيل، فضلا عن مقاومة الشعب الفلسطيني، دفعت الملايين في جميع أنحاء العالم إلى النزول إلى الشوارع، وكثيرون منهم خرجوا للمرة الأولى في حياتهم. إن وسائل التواصل الاجتماعي، بجميع لغات العالم تقريبا، مشبعة بمحتوى يدين تصرفات إسرائيل الفظيعة. ولا يبدو أن تركيز الاهتمام يتضاءل، لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار مسيرة 400 ألف شخص إلى مبنى الكونغرس الأميركي في نهاية الأسبوع الماضي بأعداد أكبر من أي وقت مضى في تاريخ البلاد. وقد أثارت الحماسة المتزايدة وحجم هذه المظاهرات مخاوف في الحزب الديمقراطي من أن الرئيس الأميركي جو بايدن لن يخسر أصوات الأميركيين العرب في ولايات رئيسية مثل ميشيغان فحسب، بل وأيضاً من أن الناشطين اليساريين الليبراليين لن يدعموا حملة إعادة انتخابه.

Chie Fueki (Japan), Nikko, 2018.

ومنذ بداية الحرب الأوكرانية وعلى مدى العامين الماضيين وإلى حدود وقتنا الحالي كان هناك انحدار سريع في مصداقية الغرب. لكن هذا الانخفاض في الشرعية لم يبدأ مع حرب أوكرانيا أو الإبادة الجماعية في فلسطين، رغم أن كلا الحدثين كانا سببين بالتأكيد في تسريع تراجع سلطة دول الناتو. نشر المتحدث باسم أنصار الله محمد البخيتي مقطع فيديو لمسيرة مؤيدة لفلسطين في نيويورك، وهو ربما يكون مؤشرا على المزاج العام في معظم أنحاء العالم، وكتب: “نحن لسنا معادين للشعب الأمريكي، بل للخارجية الأمريكية، السياسة التي تسببت في مقتل عشرات الملايين من البشر وتهدد أمن وسلامة العالم، كما تعرض حياة الأمريكيين للخطر. فلنناضل معا من أجل إقامة العدل بين الناس”.

فقد الشمال العالمي، منذ بداية الكساد الكبير الثالث في عام 2007، ببطء، سيطرته على الاقتصاد العالمي والتكنولوجيا والعلوم والمواد الخام، كما عمّق المليارديرات في الشمال العالمي “تهربهم الضريبي“، ما أدى إلى تحويل حصة كبيرة من الثروة الاجتماعية إلى الملاذات الضريبية والاستثمارات المالية غير المنتجة. ولم يترك هذا للشمال العالمي سوى القليل من الأدوات اللازمة للحفاظ على قوته الاقتصادية، بما في ذلك القدرة التي كان يتمتع بها سابقا على القيام باستثمارات في الجنوب العالمي. سيصدر معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في وقت لاحق من هذا الشهر ملفا جديدًا بعنوان “تموج النظام العالمي”، ودراسة بعنوان “الإمبريالية المفرطة: مرحلة خطيرة جديدة من الانحلال”، تشرح بالتفصيل أمراض الحاضر والمزاج الجديد الذي خلقه صعود الجنوب العالمي. إن الشكوى التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية وبدعم من العديد من دول الجنوب العالمي تشكل مؤشرا على هذا المزاج.

أثير الموسوي (العراق-بريطانيا)، نقطة إلى إمكانات في مكان ما، 2014.

 ومن الواضح لأغلب شعوب العالم أن الشمال العالمي فشل في معالجة أزمات الكوكب، سواء أزمة المناخ أو العواقب المترتبة على الكساد الكبير الثالث. لقد حاولوا استبدال الواقع بعبارات ملطفة مثل “تعزيز الديمقراطية” و”التنمية المستدامة” و”الهدنة الإنسانية”، كما حاول وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون ووزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك صياغة خطة “وقف إطلاق النار المستدام” السخيفة. الكلمات الفارغة ليست بديلا عن الأفعال الحقيقية. إن الحديث عن “وقف إطلاق نار مستدام” أثناء تسليح إسرائيل أو الحديث عن “تعزيز الديمقراطية” أثناء دعم الحكومات المناهضة للديمقراطية يعبّر الآن عن نفاق الطبقة السياسية في الشمال العالمي.

أصدرت الحكومة الألمانية، في 12 يناير/ كانون الثاني، بيانا قالت فيه إنها “ترفض بشدة وصراحة اتهامات الإبادة الجماعية الموجهة ضد إسرائيل”. وتماشيا مع المزاج الجديد في الجنوب العالمي ذكّرت حكومة ناميبيا الألمان بأنهم “ارتكبوا أول إبادة جماعية في القرن العشرين في الفترة من 1904 إلى 1908، حيث قُتل عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في أبشع الأعمال وحشية وغير إنسانية”. وتُعرف هذه الإبادة التي تحدثت عنها ناميبيا باسم الإبادة الجماعية لهيريرو وناماكوا. وقالت حكومة ناميبيا إن ألمانيا “لم تكفّر بعد بشكل كامل عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها على الأراضي الناميبية، ولذلك فإن ناميبيا تعرب عن قلقها العميق إزاء القرار الصادم الذي اتخذته الحكومة الألمانية برفض لائحة الاتهام الموجهة إلى إسرائيل”.

وفي الوقت نفسه عبرت إسرائيل عن أنها ستواصل هذه الإبادة الجماعية “مهما استغرق الأمر“، رغم أن مبرراتها الهشة بالفعل تستمر في التدهور بسرعة متزايدة. ووراء هذا العنف تكمن الشرعية المتضائلة لمشروع منظمة حلف شمال الأطلسي، الذي تبدو عقوباته وكأنها مسامير تُسحب على سبورة ملطخة بالدماء.

*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة الإنجليزية بتاريخ: 18 كانون الثاني/ يناير 2024.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة