مدار: 25 كانون الأول/ ديسمبر 2021
حين يتعلق الأمر بالحروب العسكرية التي تشنها الولايات المتحدة على مختلف بلدان العالم، من فيتنام إلى العراق، ومن سوريا إلى أفغانستان، فإن العديد من المنصات الإعلامية الكبرى والمؤسسات الرسمية الأمريكية تحاول إقناع الرأي العام في العالم بأن الأمر يتعلق بـ “حروب إنسانية”، هدفها “حفظ الأمن والسلم الدوليين”، أو الدفاع عن “الأمن القومي الأمريكي”.
ولهذا الغرض، سيفعل المسؤولون الأمريكيون أي شيء لكي نصدق بأن مبنى البنتاغون هو فعلا مقر يتم التخطيط فيه لإنقاذ حياة الناس “المضطهدين” في الخارج؛ وبأن طائرات “البريداتور” التي تحوم فوق الشام أو باكستان هي في الواقع محملة بأغصان الزيتون، وربما هي سليلة الحمام الأبيض الذي يرمز إلى “السلام”.
يحدث أن تشن واشنطن ضربة جوية “محدودة” في منطقة من مناطق العالم، تحت ذريعة “تحييد أحد العناصر الإرهابية”، وسيحدث أن يسقط العشرات من المدنيين، منهم أطفال ونساء، لا ذنب لهم سوى أن جهاز التحكم الذي تتم إدارته من أحد غرف العمليات البعيدة لم يكن “دقيقا” بما يكفي، أو أن المعلومات الاستخباراتية التي تم توفيرها “لم تكن شاملة”. سيتصدر النبأ “الواشنطن بوست” أو “فوكس نيوز”، بينما ستعمل “رويترز” و”بلومبورغ” على توزيعه بمختلف لغات العالم؛ لكن سرعان ما سيطال النسيان “المأساة”، لأن “رفاهية” أولئك الذين يعيشون في بلدان “العالم الحر” تتلخص في أنه ليس عليهم أن يحملوا ندوبا جسدية ونفسية طوال حياتهم بسبب قرار مسؤول سياسي جمهوري أو ديمقراطي في البيت الأبيض، “رفاهيتهم” كذلك أنه ليس عليهم أن يعودوا إلى ضميرهم المتلبد ليحاكموا اختياراتهم السياسية وطبيعة الأنظمة التي يضفون “الشرعية” عليها؛ ورغم آفة النسيان، إلا أن الجنوب والشرق يتذكران.
ولا يوجد ما يقدم الوقائع بوضوح أكثر من الأرقام، فحسب إحصائيات أنجزتها منظمة “الحروب الجوية”، يقع مقرها في المملكة المتحدة، بلغت حصيلة القتلى جراء “الحروب الأبدية” للولايات المتحدة، خلال العشرين سنة الماضية ما بين 22679 و 48308 مدنيين، جراء أكثر من 93300 غارة جوية للجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان والصومال وسوريا واليمن.
وأشار مشروع “تكلفة الحرب”، بجامعة براون الأمريكية، إلى أن التدخلات العسكرية الأمريكية المباشرة منذ الـ 11 سبتمبر/ أيلول 2011 خلفت ما بين 363939 و387072 قتيلا مدنيا، من بينهم 680 إعلاميا، 892 من العاملين في المجال الإنساني.
أما حين يتجرأ أحد عملاء وكالات الاستخبارات الأمريكية على كشف الجرائم التي ترتكبها حكومتهم في حق شعوب العالم، يكون مصيره المطاردة والسجن، أما الصحافيون الذي يقومون بعملهم، وينقلون الحقائق الموثقة إلى العالم، فسيتم اتهامهم بالتجسس وسيواجهون عقودا من السجن.
كمثال على ذلك، ما تعرض له إدوارد سنودن من تشهير وتهديدات، بعد أن قدم وثائق سرية إلى الصحافة حول التجسس واسع النطاق خارج القانون الذي تقوم به أجهزة المخابرات الأمريكية على الجميع.
أما المثال الثاني والأبرز فيتعلق بالصحافي ومؤسس موقع “ويكليكس”، جوليان أسانج، إذ كان أول تسريب نشره الموقع هو الفيديو الشهير الذي يوثق هجوما عنيفا لطائرة هليكوبتر عسكرية أمريكية في العراق على مدنيين، من ضمنهم صحفيون لوكالة “رويترز”، أوقع العديد من القتلى والجرحى.
وبشراكة مع صحف عالمية، نشر “ويكيليكس” أكثر من 700 ألف وثيقة ومادة تصنّف ضمن “سري للغاية”، تكشف بطريقة غير مسبوقة كيفية إدارة الولايات المتحدة الأمريكية لحروبها ودبلوماسيتها واعتقالاتها.
وخصت التسريبات وثائق الحروب بأفغانستان والعراق، وملفات معتقل غوانتانامو سيئ الذكر، والسجلات والمراسلات الدبلوماسية الأمريكية. وأخذت واحدة من أهم هذه التسريبات تسمية “مانينغ” في العام 2010، نسبة إلى محللة الاستخبارات تشيلسي مانينغ (معروفة سابقا باسم باردلي مانينغ قبل تحوله إلى امرأة).. حينها اعتبر بعض ناشري الأخبار الأكثر تداولا وأهمية في العالم أنها (التسريبات) تصب في الصالح العام.
وجهت وزارة العدل الأمريكية لأسانج تهمة التآمر مع أشخاص من مجموعتي القرصنة “لولزيسك” و”أنونيموس” لاقتحام حواسيب، والوصل دون إذن إلى نظام حاسوب حكومي تابع لدولة عضو في حلف شمال الأطلسي. وادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن أسانج ساعد تشيلسي مانينغ على سرقة وثائق سرية قبل أن يكشف بشكل متهور مصادر سرية في العالم.
كما وجهت السلطات الأمريكية اتهامات لأسانج بتحويل ويكيليكس إلى قناة لجهود الاستخبارات الروسية للتلاعب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية في العام 2016، من خلال نشره رسائل البريد الإلكتروني التي تمت قرصنتها من حواسيب الحزب الديمقراطي المنافس لدونالد ترامب.
وكان على جوليان أسانج أن يواجه محنة المطاردة والمراقبة في ملجئه لدى سفارة الإكوادور لدى لندن لسنوات، قبل أن يسحب منه حق اللجوء، ويتم اعتقاله من طرف السلطات البريطانية، حيث يواجه الآن خطر ترحيله إلى الولايات المتحدة؛ ففي 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، اليوم العالمي لحقوق الإنسان، أصدرت محكمة بريطانية حكماً يمهد الطريق لتسليمه، وفي حال تم ذلك فسيكون عرضة للمحاكمة وفق قانون التجسس، ما يعني أنه من الممكن أن يُحكم عليه بالسجن لمدة قد تصل إلى 175 عاما.
وحين نقول إن المسؤولين الأمريكية يمكن أن يفعلوا أي شيء لإخفاء حقيقة “الحروب الأبدية” الأمريكية فإن ذلك ليس محض تعبيرات مجازية، إنها أمر واقع، إذ كشف تحقيق أجرته “ياهو نيوز” عن خطط للسلطات الأمريكية لخطف وحتى اغتيال أسانج، وفق تفاصيل كانت وراءها الاستخبارات والإدارات الأمريكية المتعاقبة، وتم استقاؤها من موظفين ومسؤولين سابقين في تلك المؤسسات.
اعتبر “مدار”، في بيان مشترك مع العديد من المؤسسات الإعلامية عبر العالم، أن ما يتعرض له مؤسس موقع “ويكيليكس” اضطهاد و”اعتداء أساسي على الصحافة وحرية الصحافة وحرية التعبير”.
ولا يبالغ أحد حين يتم اعتبار الولايات المتحدة القوة العسكرية الأكبر على الإطلاق، لكنها أيضا القوة العسكرية الأكبر تخبّطا؛ فوفق ما يناهز 1300 وثيقة سرية، حصلت عليها “نيويورك تايمز”، ونشرت مضامينها في مقال حمل عنوان “سجلات البنتاغون المخفية تكشف عن أنماط الفشل في الضربات الجوية المميتة”، تخص الضربات الجوية الأمريكية في سوريا وأفغانستان، فإنه “منذ عام 2014، ابتليت الحرب الجوية الأمريكية بمعلومات استخبارية معيبة للغاية، أدت إلى الاستهداف غير الدقيق ومقتل آلاف المدنيين، كثير منهم من الأطفال “.
في واقع الأمر، سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن الحروب يمكنها أن تحمل خيرا لأي شعب، اللهم المجمعات الصناعية الأمريكية والغربية إجمالا، والمتعاقدين الجشعين مع البنتاغون، فإضافة إلى الحصيلة الثقيلة في حيوات البشر، وملايين النازحين والمشردين والمعطوبين، لا يمكن إغفال جانب تأثير العتاد العسكري الأمريكي على المناخ.
وسبق لـ “مدار” أن كشف في ملف “بيتنا الأخضر عرضة للخطر“، الذي خصصه للجوانب المتعددة من الآثار البيئية والمناخية للرأسمالية على كوكب الأرض، أن المجمع الصناعي الأمريكي مسؤول مباشر عن إلحاق أضرار خطيرة بكوكب الأرض نتيجة الاحتباس الحراري والتلوث المميت.