معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 21 شتنبر/ أيلول 2022
فيجاي براشاد*
خلال فترة العشرين سنة الماضية، وجدت الدول الأوروبية نفسها أمام فرصتين عظيمتين للاستحواذ واتخاذ خياراتٍ معقدة؛ فالاعتماد غير المستدام على الولايات المتحدة في التجارة والاستثمار، وتشتيت البريكسيت المثير للفضول، أديا إلى التكامل المطرد للدول الأوروبية في أسواق الطاقة الروسية، والمزيد من الاستفادة من فرص الاستثمار الصينية وبراعتها التصنيعية.
استفزت الروابط الأكثر قرباً بين أوروبا والدولتين الآسيويّتين الكبيرتين (الصين وروسيا) أجندات الولايات المتحدة لمنع هذا التكامل أو تأخيره. إن هذه الأجندات، التي تعمقت الآن في الاجتماع الأخير لمجموعة الدول الصناعية السبع (جي 7) في ألمانيا، وقمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في إسبانيا، تشكل وضعًا خطيرًا للعالم بأسره.
الأمر يعود إلى الأزمة المالية عامي 2007 و2008، التي فجرها انهيار سوق الولايات المتحدة العقاريّ والعديد من المؤسسات المالية الأمريكية الرئيسية. لقد أرسلت تلك الأزمة رسالة إلى سائر العالم بأن النظام الماليّ المتمركز في الولايات المتحدة ليس جديراً بالثقة. لا يمكن أن تبقى الولايات المتحدة هي السوق الذي يشكل الملاذ الأخير لسلع العالم. وتوسلت مجموعة الدول الصناعية السبع، التي اعتبرت نفسها حارسة النظام الرأسماليّ الدوليّ، الدول من خارج فلكها، كالصين والهند، أن تمدّ السوق المالية الغربية بالفائض لديها حتى تمنع انهياره بالكامل. وفي مقابل تلك الخدمة، قيل للدول خارج مجموعة السبع إنه من الآن فصاعداً ستكون مجموعة العشرين (جي 20) هي الجسم التنفيذي للنظام العالمي، وسيتم حل مجموعة الدولة الصناعية السبع تدريجياً. لكن وبعد عشرين سنة، مازالت مجموعة الدول السبع في مكانها منتحلة دور قيادة العالم، وذلك إلى جانب الناتو – حصان طروادة الخاص بالولايات المتحدة، الذي ينصب نفسه كشرطيٍ على العالم.
صرح السكرتير العام للناتو بأن المنظمة ستخضع لأكبر إصلاح “لردعها الجمعي ودفاعاتها منذ الحرب الباردة”. وستقوم دول الأعضاء في الناتو، بالإضافة إلى فنلندا والسويد، بتوسعة “قوى جاهزيتها عالية المستوى” من 40 ألفاً إلى 300 ألف، التي تتسلح بالأسلحة الفتاكة، إذ ستكون مستعدة للانتشار في مناطق محددة في خاصرة الحلفاء الشرقية، وبالتحديد الحدود الروسية. كما قال رئيس الأركان العامة للمملكة المتحدة، الجنرال سير باتريك ساندرز، إن القوات المسلحة يجب أن تستعد “للقتال والنصر” في حرب ضد روسيا.
ومع الصراع الدائر في أوكرانيا، كان واضحاً أن الناتو سيضع مسألة روسيا في مقدمة قمة مدريد. لكن المواد التي أنتجها الناتو أوضحت أن هذا ليس فقط متعلقاً بروسيا وأوكرانيا، ولكن أيضاً لمنع التكامل الآسيويّ الأوروبيّ. ذُكرت الصين لأول مرة في وثيقةٍ للناتو في اجتماع لندن في 2019، وقيل إن تلك الدولة تشكل “تحديات وفرصا”. وفي عام 2021، تغيرت هذه النبرة، إذ اتهمتها قمة الناتو في بروكسل “بتشكيل تحدياتٍ ممنهجة للنظام العالمي المستند إلى القواعد”. ويُصَعّد التصور الإستراتيجي المعدل لعام 2022 من هذا الخطاب التهديديّ، مع اتهام الصين بـ”المنافسة الممنهجة… التي تتحدي مصالحنا وأمننا وقيمنا وتسعي إلى تحجيم النظام العالمي المبني على القواعد”.
حضرت قمة الناتو لأول مرة أربع دولٍ من غير الأعضاء في المنظمة، وهي: أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية (شركاء المحيط الهادئ-آسيا الأربعة)، ما قربها أكثر من أجندات الولايات المتحدة والناتو للضغط على الصين. وتشكل أستراليا واليابان، إلى جانب الهند والولايات المتحدة، جزءاً من الحوار الأمني الرباعي (كواد)، المعروف بالناتو الآسيويّ، والمنتدب بشكل واضح لتقييد شراكات الصين في المناطق المطلة على المحيط الهادي. وقد عقد شركاء المحيط الهادئ-آسيا الأربعة اجتماعاً خلال القمة لمناقشة التعاون العسكري ضد الصين، مزيلين كل الشكوك حول نوايا الناتو وحلفائه.
وفي خضم تجليات الأزمة المالية لعامي 2007-2008 ونكث وعود مجموعة الدول السبع، تبنت الصين مساريّن لتكسب استقلاليةً أكثر عن سوق الولايات المتحدة الاستهلاكيّ: أولاً، تطوير السوق المحلي الصينيّ، وذلك من خلال زيادة الأجور الاجتماعية، ودمج مقاطعات الصين الغربية بالاقتصاد، والقضاء على الفقر المدقع. ثانياً، بناء تجارة وتنمية وأنظمة مالية لا تتمحور حول الولايات المتحدة. حيث شارك الصينيون بنشاط مع البرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا لبدء المسيرة في مجموعة بريكس عام 2009، ووضعوا موارد ضخمة في مبادرة الحزام والطريق (BRI) في عام 2013. وقامت الصين وروسيا بتسوية خلافٍ حدوديّ كان قد طال أمده، وعززا تجارتهما العابرة للحدود، وطورا تعاوناً إسترايجياً (لكن، بخلاف الغرب، لم يخلقا معاهدةً عسكرية).
في هذه الفترة، نمت مبيعات الطاقة الروسية للصين وأوروبا وانضمت عدد من الدول الأوروبية إلى مبادرة الحزام والطريق، ما زاد من الاستثمار المتبادل بين أوروبا والصين. وكانت أشكال العولمة المبكرة في أوراسيا مقيدةً بفعل الاستعمار والحرب الباردة؛ كانت تلك هي المرة الأولى منذ مائتي عام التي يبدأ فيها التكامل على أرضية منصفة في أرجاء المنطقة. وكانت خيارات أوروبا التجارية والاستثمارية عقلانية بشكل تام، إذ إن ضخ الغاز الطبيعي عبر أنابيب خط نورد ستريم 2 النرويجي أرخص بكثير وأقل خطورة من ضخ الغاز المسال من الخليج الفارسي وخليج المكسيك. وبالنظر إلى حالة البريكسيت الكارثية وصعوبات إطلاق التجارة والشراكات الاستثمارية عبر المحيط الأطلسيّ فإن جزءًا كبيرًا من أوروبا رأى أن فرص الاستثمارات الصينية هي أكثر كرماً ومحل ثقة من البدائل الأخرى. وفي المقابل، أصبحت الأصول الخاصة في وول ستريت الهادفة إلى التأجير وتجنب المخاطر أقل جذباً للقطاع الماليّ الأوروبيّ.
وكانت أوروبا تنجرف بلا هوادة نحو آسيا، ما هدد ركائز النظام الاقتصاديّ والسياسي الذي تهيمن عليه أمريكا (والمعروف أيضاً بـ”النظام العالمي المبني على القواعد”). وفي عام 2018، أنًّب رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب السيكرتير العام للنيتو ستولسنبيرغ، قائلاً له: “نحن نحمي ألمانيا، نحمي فرنسا، نحمي كل هذه الدول× وبعدها تذهب عديدٌ من هذه الدول إلى عقد اتفاق خط أنابيب مع روسيا، حيث تدفع الملايين لخزائنها… ألمانيا رهينة عند روسيا… أعتقد أن هذا غير لائق البتة”.
بينما أصبحت لغة الناتو عبارة عن تهديداتٍ بالحرب ضد الصين وروسيا، تعهدت مجموعة الدول السبع بتحدي المبادرات التي تقودها الصين من خلال تطوير “الشراكة من أجل بنى تحتية واستثمار دوليين (PGII)” وهي عبارةٌ عن صندوق يقدر بنحو 200 مليار دولار للاستثمار في الجنوب العالمي. في هذه الأثناء، وخلال قمة دول البريكس التي عُقٍدت في الوقت ذاته، قدم القادة تقييماً رصيناً للأوضاع الحالية، داعين إلى المفاوضات من أجل إنهاء حرب أوكرانيا واتخاذ التدابير لإيقاف ما تسببت فيه من أزمة يعاني منها فقراء العالم. لم يتم التلويح بالحرب من قبل هذا الجسم الذي يمثل 40% من سكان العالم، بينما يمكن أن تزداد قوة البريكس بعد أن تقدمت كل من الأرجنتين وإيران بطلبٍ للانضمام إلى الكتلة.
تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى أن تبقى مهيمنة وإلى إضعاف الصين وروسيا، أو إلى نصب ستار حديدي جديد حول هاتين الدولتين. إن كلا المقاربتين قد تقودان إلى صراع عسكريّ انتحاريّ؛ إذ إن المناخ العام في الجنوب العالمي هو تقبلٌ محسوب لواقع التكامل الآسيوي الأوروبيّ ونشوء نظام عالمي مبني على السيادة الوطنية والإقليمية وكرامة كل البشرية. ولا يمكن تحقيق أي من تلك الأمور عن طريق الحرب والتقسيم.
إن التوقعات لحربٍ على صعيد لم يسبق أن رأيناه قبلاً تستحضر قصيدة “نشيد شخصي”، للشاعر العراقي سعدي يوسف (1934-2021)، التي كتبت بالضبط قبل بدء الولايات المتحدة قصفها الدموي للعراق عام 2003:
أهو العراقُ؟
مباركٌ مَن قالَ إني أعرفُ الطُّرقَ التي تُفْضي إليهِ
مباركٌ من تمتمتْ شفتاهُ أربعةَ حروفِ:
“عراقُ، عراقُ، ليس سوى عراقٍ” ..
سوف تنقَضُّ الصواريخُ البعيدةُ
سوفَ يَدهمُنا الجنودُ مدجّجِينَ
وسوف تنهارُ المنائرُ والمنازلُ
سوف يهوي النخلُ، منقصفاً؛ وسوف تضيقُ بالجثثِ التي تطفو
ضفافُ البحرِ والأنهارِ
سوف نرى ، لُماماً ، ” ساحةَ التحريرِ ” ، في كتُبِ المراثي والتصاويرِ …
المطاعمُ والفنادقُ:
ماكدونالد Mc Donald
دجاج كنتاكي KFC
وهوليداي إنْ Holiday Inn
سوف تكون خارطةَ الطريقِ، وبيتَنا في جنّة المأوى،
وسوف نكون غرقى
مثلَ اسمكَ يا عراقُ
” عراق ، عراق ، ليس سوى عراق… “
* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 7 يوليوز/ تموز 2022.