معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 13 أغسطس/ آب 2021
فيجاي براشاد من كارابوبو – فينزويلا
قبل مائتي عام، وتحديداً في 24 يونيو 1821، هزمت قوات سيمون بوليفار القوات الملكية الإسبانية في معركة كارابوبو التي تبعد بضعة مئات من الكيلومترات إلى الغرب من كاراكاس في فنزويلا. دخل بوليفار كراكاس منتصراً بعد خمسة أيام؛ إذ استولت جيوش التحرير على حصون قرطاجنة وبويرتو كابيللو الإسبانيتين، ما جعل عودة إسبانيا إلى السلطة أمرا مستحيلاً. في كوكوتا، اجتمع الكونغرس لوضع دستور جديد وانتخاب بوليفار رئيساً.
لم يهدأ بوليفار الذي أصبح حينها رئيس جمهورية غران كولومبيا (المسمّاة اليوم كولومبيا وفنزويلا)، امتطى حصانه وظلّ متجها نحو كيتو، حيث بقيت القوات الإسبانية وهزمت في نهاية المطاف في 24 من مايو 1822 في معركة بيشينشا. لقد استغرق الأمر عامين آخرين لطرد إسبانيا من نصف الكرة الأرضية ذاك، لكن التوجه كان حتمياً. لقد حطمت كارابوبو الشبح الإمبريالي للملكية الإسبانية.
فقدت الملكية الإسبانية قبضتها على الأميركيتين، لكن ظهرت تهديدات أخرى. ففي 2 ديسمبر 1823، أبلغ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو الكونغرس الأمريكي بأن الأمريكيتين لم تعودا من اختصاص القوى الأوروبية القديمة. لكنّ مبدأ مونرو لا يعني ضمناً أن مختلف أجزاء الأمريكتين، بما في ذلك غران كولومبيا، ستكون ذات سيادة، وإنما قصد أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تتصرف في نصف الكرة الأرضية كأنها قوة إمبراطورية قديمة، وهي نزعة من شأنها أن تصبح أكثر وضوحاً مع تحسن التكنولوجيا العسكرية للولايات المتحدة. يأتي الوضوح بشأن أهداف مبدأ مونرو بطريقتين: أولاً، من خلال سلوك الولايات المتحدة التي تدخلت قواتها المسلحة بشكل مباشر في مختلف أنحاء القارة، من البيرو (1835-36) إلى غواتيمالا (1885) إلى كوبا وبورتوريكو (1898). ثانياً، من خلال النتيجة التلقائية لمبدأ مونرو التي توصل بها الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت سنة 1904، وتضمنت حق الولايات المتحدة في التصرف ــ على حد تعبير روزفلت ــ باعتبارها “قوة شرطة دولية” في ذلك النصف من الكرة الأرضية.
أدرك بوليفار طبيعة هذا التهديد الجديد في رسالته عام 1829 إلى البريطاني باتريك كامبل القائم بالأعمال، إذ كتب أنه “بدا مقدراً للولايات المتحدة أن تسبب المآسي للأمريكتين تحت راية الحرية”، ولهذا السبب دعا إلى عقد مؤتمر في بنما عام 1826 لإنشاء برنامج الوحدة السياسية. لسوء الحظ، حضر عدد قليل من الولايات الجديدة إلى بنما، وظلت الوحدة الإقليمية حلماً، لكنه حلم وجد في الوقت المحدد أتباعا حاولوا جعله حقيقة واقعة.
تولى هوغو تشافيز في القرن الحادي والعشرين مشروع الوحدة الإقليمية في الأمريكتين، ولسبب وجيه، وصف العمليات الثورية في فنزويلا وأمريكا اللاتينية بالثورة البوليفارية. قال تشافيز إن “ما نراه في الحقبة التاريخية الممتدة بين عامي 1810 و1830 هو الخطوط العريضة لمشروع وطني لأمريكا الجنوبية”. إنه المشروع الذي طوره تشافيز داخل فنزويلا وفي المنطقة من خلال التحالف البوليفاري لشعوب أمريكتنا (ALBA) ومن خلال اتحاد دول أميركا الجنوبية (UNASUR) اللذين تأسسا في العام 2004.
حاولت الولايات المتحدة منذ أن حقق تشافيز نصراً انتخابياً لأول مرة في 1998 عرقلة العملية البوليفارية. لقد عمّت خباثة مونرو السياسة الأمريكية، في حين رفعت روح كارابوبو من حدة المقاومة الفنزويلية. تستمر العقوبات الانتقامية الأمريكية ضد فنزويلا، والمحددة بدقة للإطاحة بالبوليفارية رغم انتشار الوباء. في العام الماضي حالت الضغوط التي مارستها وزارة الخزانة الأمريكية على صندوق النقد الدولي بعدم السماح لفنزويلا بالوصول إلى أموالها الخاصة وغيرها من الأموال المرتبطة بظروف الجائحة الطارئة. وقد أذنت فنزويلا ما بين أبريل ومايو من العام 2021 لبنك الاتحاد السويسري (UBS) بالدفع لمنظومة كوفاكس 10 ملايين دولار من أجل شراء لقاحات ضد فيروس كورونا (كوفيد-19). وكتبت كوفاكس في 7 يونيو إلى الحكومة الفنزويلية لإعلامها بأن البنك ذاته ألغى المدفوعات. لقد شعر البنك بحمل ثقيل بفعل السياسة الأمريكية التي تقبع على أبوابه.
اتفقت الحكومات السبع من الولايات المتحدة إلى ألمانيا في الاجتماع الذي عقدته مجموعة الدول الصناعية السبع في ويلز على استخدام صياغة ضعيفة للتزود باللقاحات، رافقها وعودات بمليار لقاح لتكون متاحة في مختلف أرجاء العالم دون أي تفاصيل. من المدرَك جيداً أنّ الوعودات التي قُطعت في اجتماعات مجموعة الدول الصناعية السبع نادراً ما يتم الإيفاء بها. شكك الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بشأن العنوان الرئيسي حول المليار لقاح، إذ قال: “نحتاج أكثر من ذلك، نحن بحاجة إلى خطة تطعيم عالمية”، تتطلب زيادة إنتاج اللقاحات و”فرقة عمل معنية بحالة الطوارئ لضمان تصميم ومن ثم تنفيذ خطة التطعيم العالمية تلك”.
وتحقيقاً لذلك، اجتمعت ثلاثة أصوات مهمة من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية – كيه كيه شايلاجي (وزيرة الصحة السابقة بكيرالا في الهند)، أنيانغ نيونغو (حاكم مقاطعة كيسومو في كينيا) وروجيليو مايتا (وزير خارجية بوليفيا) – ليكتبوا حول تأميم اللقاحات. لقد طرحوا ثلاثة مقترحات:
1. إلغاء براءات الملكية الفكرية المتعلقة باللقاحات.
2. مشاركة المعرفة حول كيفية تصنيع اللقاحات.
3. التركيز على عدم الامتثال الجماعي بغرض إبطال حقوق الملكية الفكرية.
يتضمن المقترح الثالث تعبيراتهم الخاصة المشبعة بروح كارابوبو:
توجد بالفعل أحكام معينة لإبطال تدابير حماية الملكية الفكرية، مثلاً من خلال إعلان الدوحة الصادر عن منظمة التجارة العالمية عام 2001. ومع ذلك فإنّ بلداناً عدة كانت مترددة في القيام بذلك بسبب الخوف من العقوبات من بعض الحكومات والانتقام من شركات الأدوية الكبيرة. سننظر في الكيفية التي يمكن بها سن تشريعات وطنية لتجاوز تدابير حماية الملكية الفكرية بشكل جماعي، ما يشكل تهديدا معقولاً لنموذج الاحتكار الدوائي في الوقت الراهن.
ثمة عنصران مهمان لهذه النقطة حول التمرد الجماعي: أولا أنه يقر بعدم الودية المرافقة التي ستفرض بها “حكومات معينة” عقوبات على أي شخص يجرؤ على كسر القبضة الخانقة المتعلقة بجوانب حقوق الملكية الفكرية (TRIPS)، التي تعود بالفائدة على شركات الأدوية الكبرى قبل أي شيء آخر.. ثانياً أنه يقدم اقتراحاً شجاعاً لدول الجنوب العالمي لإيجاد الوسائل القانونية داخل بلدانها لتنحية شركات الأدوية الكبرى من الاستحواذ في مجال المشاعات المعرفية. هناك لمحة من الواقعية في هذا المقترح الأخير؛ سوف يكون من الأقوى كثيراً أن تتحد بلدان الجنوب – وخاصة الدول الخمس والعشرين التي تنفق على خدمة الديون أكثر من إنفاقها على الرعاية الصحية – وأن تنشئ فرقة من أجل تأميم اللقاحات.
غير أن هذا النوع من التضامن الإقليمي واسع النطاق ليس من السهل تحقيقه اليوم، لأن المنصات الإقليمية والعالمية – بما فيها حركة عدم الانحياز (NAM) التي دامت ما يقارب الستين عاماً – أصبحت ضعيفة للغاية. لقد كان تعزيز النزعة الإقليمية هو برنامج تشافيز والحركة البوليفارية.
أدرك تشافيز أن الإقليمية ليست مجرد برنامج للأسواق والمؤسسات المشتركة لتعزيز مصالح الشركات العالمية والنخب الوطنية، فذلك نوع النزعة الإقليمية التي تحدد مثلاً الاتحاد الأوروبي. كما أنه ليس كافياً تطوير نزعة إقليمية محدودة بأيديولوجية ثقافية، كتلك التي غالباً ما تتخلل القوميتين العربية والآسيوية.
إن القوة الهائلة للشركات العالمية تعزز الحاجة إلى نوع من الحواجز التي ربما لم يعد من الممكن تنصيبها من قبل بلدان منفردة فحسب، لأنها معرضة للعقوبات والتهديدات. إن المطلوب هو منبر أوسع نطاقا، وحدة قارات بأكملها أو أجزاء من العالم ترفض الإذعان لسلطة مجموعة الدول الصناعية السبع أو إحداها أو تلك الشركات العالمية. لا يعني هذا النوع من النزعة الإقليمية وحدة مجموعة من البلدان في قارة ما؛ بل يتطلب أن تكون السلطة في بعض البلدان الرئيسية على الأقل في يد الطبقة العاملة والفلاحين. فالحكومة المدعومة بقوة الجماهير هي وحدها التي بإمكانها أن تتوخى الثبات للوقوف في وجه سلطة وقوة “حكومات معينة”، وفقاً لكل من شيلاجا ونيونغو ومايتا.
بينما كان بوليفار جاثماً على فراش الموت في سانتا مارتا (وهي اليوم في كولومبيا)، قرأ له طبيبه من الصحف الفرنسية. لقد جاؤوا على ذكر أغنية كان أنصار ثورة 1830 قد غنوها حين دخلوا فندق قصر البلدية للاستيلاء على باريس:
أمريكا، لكي تبهجنا،
تراقبنا من بعيد.
تدق نيرانها في كل الجمهوريات
التي أوقدها بوليفار.
مازالت ذكرى كارابوبو تشعل تلك النيران في الكومونات الفنزويلية وفي شوارع كولومبيا وثورة المزارعين في الهند ومستوطنات الأكواخ في جنوب إفريقيا.