مدار: 23 تشرين الثاني/ نونبر 2021
كاترين ضاهر
تواصل المنظومة الحاكمة في لبنان سياساتها الفاسدة عبر السطو على أدنى حقوق المواطنين والمقيمين في البلد على حد سواء، وها هي تترجم وعود بياناتها الوزارية حول الإصلاحات في القطاع الصحي، ولاسيما حق المواطن في التغطية الصحية الشاملة، عبر إقرار الضمان الصحي الاجتماعي وضمان الشيخوخة للجميع، لكن جاء تنفيذ تلك الوعود معاكساً لها، عبر البدء بمرحلة رفع الدعم الجزئي عن أدوية الأمراض المزمنة، وحليب الأطفال، وكأنه لا يكفي استمرار انقطاعها من الصيدليات، جرّاء تحكم مافيا الشركات المستوردة في توزيعها أو تخزينها للاستفادة من أرباح ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية.
وما إن نشرت الأسعار الرسمية الجديدة للأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة حتى انهمك اللبنانيون في احتساب المبالغ الطائلة التي سيتكبدونها لتأمين أدويتهم أو أدوية ذويهم، ليفاجؤوا بأن سعرها تضاعف بشكل خيالي، ولن تكون في متناول العديد منهم، إذ إن أسعار أغلبها بلغت سقوفاً مالية باهظة، وبات بعضها يوازي كلفة الراتب الشهري أو ضعفه؛ كما انحصرت أحاديثهم اليومية، أيضاً، في هذا القرار، والتخوف من الإصابة بالمرض أو التقصير في تأمين أدوية الأمراض المزمنة هاته لأحد أفراد عائلاتهم، وحرمان المرضى من حقهم في العلاج والتعافي.
أما الاتفاق القائم بين وزارة الصحة ومصرف لبنان فيقضي بتأمين سقف مالي شهري من المصرف المركزي لقطاع الصحة، يبلغ 35 مليون دولار، ويتوزع على 10 ملايين دولار لدعم المستلزمات الطبية، و25 مليون دولار لدعم الدواء، يُعطى منها نحو 18 مليوناً لدعم أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية؛ وبالتالي تبقى فقط 7 ملايين دولار لدعم الأدوية المزمنة.
وتعقيباً على تفاقم الأوضاع الصحية والسياسات الخاطئة، أوضحت الصيدلانية “رنيم”، في تصريح لـ “مدار”، أن “الأوضاع في الصيدليات مزرية جداً من كافة النواحي، إذ إن شركات توزيع الأدوية قلّصت الكمية الموزعة شهرياً”، وزادت شارحة: “مثلاً باتت تعطينا علبة دواء واحدة من صنف معين، ولدينا 10 مرضى يستخدمونه من زبائننا، ما يضعنا في حيرة ومعضلة فشل محاولتنا تقسيمه لتلبية طلب كل المرضى. وللأسف فهذا الإجراء تهديد مخيف لحياة الكثيرين، فهناك مرضى يأتون لأخذ دوائهم ويصدمون من هذا الارتفاع الجنوني للأسعار، فيغادرون دون شراء الدواء. بالأمس سألنا أحدهم إذا كانت هناك إمكانية لتقنين دواء الضغط وإيقافه عدة أيام. أيعقل أن سعر دواء السكري 800 ألف ل.ل؛ أي تخطى الراتب الشهري للمواطن؟”.
يُذكر أن الشركات المعنية تعتمد سياسة غير عادلة في توزيع كميات الأدوية بين صيدلية وأخرى؛ ناهيك عن توقفها نهائياً عن التوزيع بذريعة انقطاع الأدوية من الأسواق، بعد تسرب معلومات عن تعديلات جديدة في الأسعار، لتكسب الوقت في انتظار إصدار مؤشر الأسعار الجديد؛ وبالتالي تُفقد الأدوية من الأسواق كما هو حاصل اليوم، ما يولد تأثيرا خطيرا على صحة الناس، لاسيما أدوية مرضى الضغط والقلب والسكري وغيرها.
وأردفت الصيدلانية ذاتها: “إن ما يزيد المعاناة أن المواطن خلق مشكلة أيضاً، إذ ساهم في أزمة انقطاع الدواء. ونلاحظ أن هناك أشخاصا أقدموا على تخزين كميات كبيرة من الدواء لسنة أو أكثر، ما يؤدي إلى حرمان مريض آخر من علبة في الشهر، ولاحقاً يعودون إلينا لإرجاع العلب المخزنة لديهم، لأن الطبيب أوقف لهم هذا الصنف… وصراحة هذا يضعنا بين معضلتين؛ أولاً محاولة تأمين الدواء للناس دون جدوى، وكأننا نتسوله من الشركات، وثانياً نتأسف لأن الناس لا ترحم بعضها البعض. والشركات حقاً توزع كميات محدودة جداً، لكن إذا قارنا الأرقام نلاحظ أن النسبة التي توزعت هذا العام تفوق قدرة السوق اللبناني بكثير، وذلك لتهافت المواطن على تخزين الدواء”.
أما زميل المتحدثة محمد فأشار إلى أن “ارتفاع أسعار الأدوية المزمنة انعكس سلباً على المريض، وكذلك على أصحاب الصيدليات، لعدم قدرة كليهما على شراء الدواء”، مردفا: “كما أن شركات توزيع الدواء لم تسلمنا هذه الأدوية بعد، بعدما كانت مقطوعة، أو بالأحرى تحتجزها لتستفيد من ارتفاع سعرها لاحقاً. ومثلاً أدوية الأنسولين دعمها يتراوح بين 60 و70%، لكنها مازالت مفقودة من الصيدليات”، وزاد موضحاً: “المصرف المركزي يدعم كل دواء تحت الـ 5 $ بنحو 25% على سعر الصرف، أما التي يتراوح سعرها بين 5 و10$ فتصل نسبة دعمها إلى 45%، وكذلك الأدوية بسعر 10$ إلى 50$ تُدعم بنسبة 65%. ومازال الدعم 100% على أدوية الأمراض المستعصية التي يزيد سعرها عن 50$”.
وفي السياق، أعلن قطاع الصحة في الحزب الشيوعي اللبناني، في بيان له، رفضه قرار رفع أسعار الدواء، واعتبر “هذه السياسات المرتكبة من هذه المنظومة بمثابة جريمة موصوفة تُزاد إلى قاموس جرائمها المتتالية بحق حياة اللبنانيين”، موضحاً أن الحل يكمن في إقرار التغطية الصحية الشاملة.
كما أدان “الشيوعي اللبناني” غياب منتحلي صفة التمثيل النقابي في القطاعات الصحية وصمتهم المريب عمّا يجري، وشدّد على أن الحل يكمن في استكمال “انتفاضة 17 تشرين” من أجل تحقيق مطالبها المتمثلة في إسقاط هذه المنظومة الفاسدة ومحاسبتها، مجدداً الدعوة لكافة القوى المنخرطة في “17 تشرين” إلى “التوحد على برنامج واضح وخوض استحقاقات الانتخابات في نقابتي طب الأسنان والصيدلة وما سيليها”.
“رفع الدعم”…
تقول المواطنة اللبنانية “رولا”: “كأن السلطة لا تدرك أن قدرتنا الشرائية انعدمت، وأن الوضع المعيشي يتفاقم، جرّاء سياساتها الاقتصادية والنقدية وفسادها.. كأنهم يريدون أن نموت ببطء من الجوع والبرد والقهر والمرض، فالأسعار باتت خيالية. لم نعد نفهم، أيعقل أن هناك أدوية رفعت بـ 300%؟ فمثلاً دواء السكري ارتفع بـ 600 ألف ل.ل. دفعة واحدة”، وتساءلت: “من أين سأؤمن تكاليف أدوية والدي؟ الفاتورة أصبحت مليوني ليرة لبنانية، كما أن الدواء الواحد سعره يوازي راتب شهر كامل من الحد الأدنى للأجور”.
وتابعت المتحدثة ذاتها: “حتى حليب الأطفال الرضع لم يسلم من قرار رفع الدعم، والعبوة ارتفع سعرها إلى 104 آلاف ل.ل. ودون أن تبدأ الدولة بدعم العائلات، بالبطاقة التمويلية التي أقرتها منذ أشهر على شاشات التلفاز ولم تبصر بعد النور، ومع أنها لن تكون للجميع، ولن تحل هذه الأزمات”.
أما مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان فشهدت تظاهرة إلكترونية احتجاجية استنكاراً لقرار ارتفاع أسعار الأدوية المزمنة. وتحت وسم “رفع الدعم” و”فراس الأبيض” (وزير الصحة اللبناني)، وصف اللبنانيون معاناتهم مع هذه الأزمة التي باتت تهدد حياتهم وحياة عائلاتهم.
حتى الأطباء رفعوا صرخات المرضى، كحال الدكتور إيلي شماس، رئيس قسم القلب في مركز كليمنصو الطبي في بيروت، واختزل المعاناة الكارثية في تغريدة له على حسابه الرسمي على موقع “تويتر”، بالقول: “#رفع_الدعم.. اليوم تلقيت عشرات الرسائل من المرضى ليعلموني بأنه لن يعود بإمكانهم شراء أدويتهم بسبب الأسعار الخيالية. هذه الحالة ستكون نتيجتها أعداد هائلة من الوفيات قد تتخطى عدد وفيات الكورونا. نحن أمام كارثة صحية. ‘كيف المسؤولين فيهن يناموا والمريض عم بيموت لإنو ما في يشتري الدواء؟'”.
المواطن حسين أعرب بدوره في تغريدة عن خوفه على صحة والدته، التي ما إن علمت بخبر رفع الدعم حتى تغيّر لون وجهها، لأنها تستخدم شهرياً أكثر من 15 دواء كعلاج لأمراضها، مرجحاً أنها ستقوم بالتوقف عن تناول الدواء دون علمه كي لا يتكبد عناء تأمين كلفة شرائه.
وفي السياق، دعا الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان- FENASOL، إلى الاعتصام اليوم الثلاثاء بعنوان “صرخة وجع شعب بات يحيا على قيد الموت“، أمام المركز الرئيسي للضمان الاجتماعي – وطى المصيطبة، في بيروت.