المراسلة 4: يجب علينا جميعاً أن نغضب..لكن كلمة غضب ليست قوية بما يكفي

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية / مدار:  28 يناير/ كانون الثاني 2021

فيجاي براشاد

محمود صبري (العراق)، موتُ طفل، 1963.

سوف يتخلص العالم من فيروس كورونا يوماً ما، وسنتذكر حينها سنوات الشقاء هذه التي سببتها فيروسات ذات بروتينات بارزة، هاجمت ملايين الناس وأوقفت سير الحياة الاجتماعية. سوف يكثر الجدل حول أصول الفيروس وسرعة انتشاره حول العالم، وهو ما حدث بشكل يُثبت مدى الترابط الوثيق بيننا بفعل تكنولوجيا النقل الحديثة. إن العمليات التي ستستمر في تقليص المسافات بين سكان الكرة الأرضية لن تتراجع وستظل تقرّبنا أكثر فأكثر، جالبةً للفيروسات والأمراض الأخرى عدداً هائلاً من المضيفين. إن الانسحاب إلى الداخل ليس الحل لمواجهة موجات العدوى التي تهددنا بالفعل – بدءاً من أوبئة فجر العصر الحديث وحتى اللحظة – وتلك التي لم تظهر بعد. ليست هنالك حتى الآن وسيلة في ترسانتنا لنقضي على احتمالية ظهور شيء مثل فيروس كورونا. يجب أن ينصب تركيزنا على كيفية حمايتنا لأنفسنا.

هل سنستخلص الدروس من الوباء السابق أم سنتنفس الصعداء ونمضي قدماً بعنجهية المنتصر نحو الكارثة التالية؟ لقد اجتاح وباء الإنفلونزا عام 1918 بلدانا عديدةً مع انتهاء الحرب العظمى، وعاد الجنود إلى منازلهم يحملون الفيروس رافعين حصيلة الموتى إلى ما بين 50 و100 مليون شخص. كتبت المؤرخة لورا سبيني في كتابها “الزائر الباهت: كيف غيرت الإنفلونزا الإسبانية عام 1918  العالم” (2017) أنه عندما انتهى ذاك الوباء “لم يكن هناك شاهد قبر أو نصب تذكاري في لندن ولا في موسكو أو واشنطن العاصمة. لا يتم تذكر الإنفلونزا الإسبانية بشكل شخصي أو جماعي، كما لا يتم استحضارها ككارثة تاريخية، بل كملايين من المآسي المنفصلة والخاصة”.

تصميم ريام (اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية)، حياة شعوب الشرق السوفييتي والرأسمالي، 1927.

رغم أنه قد لا يوجد نصب تذكاري في موسكو لمحاربة هذا الوباء، فإنّ اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية الذي كان قد تم إنشاؤه حديثاً طوّر في ذلك الوقت وبسرعة بنيةً تحتيةً للصحة العامة. لقد تشاورت الحكومة السوفيتية مع المؤسسة الطبية وطوّرت بشكل منهجيّ استجابةً شعبيةً للإنفلونزا وخطةً للصحة العامة في ظل الجدال الذي واكب ذلك بين اختصاصيي الصحة والمنظم الصحي السوفييتي ومؤسس التثقيف الصحي الوطني أ. ف. مولكو، الذي كان حول أن الطب “في مفهومه الحديث، ومع ارتباطه الوثيق بأسُسه في البيولوجيا والعلوم الطبيعية، هو بطبيعته وأهدافه مشكلة اجتماعية”. دعا السوفييت من هذا المنطلق كليات الطب إلى إنشاء مفهوم “طبيب المستقبل”، وهو الذي يحتاج إلى “تدريب جدّي في العلوم الطبيعية” و”خلفية في العلوم الاجتماعية كافية لفهم البيئة الاجتماعية”، إضافةً إلى “القدرة على دراسة الجوانب المهنية والاجتماعية التي تؤدي إلى نشوء الأمراض وليس فقط أن يتمكن من علاجها، بل أيضاً اقتراح طرق للوقاية منها”. كان الاتحاد السوفييتي بذلك أول دولة تنشئ نظام صحة عامة.

إن لِفكرة الصحة العامة تاريخ طويل عبر العصور، لكن الأفكار الأقدم للصحة العامة كانت تعنى بالقضاء على المرض أكثر من صحة الجمهور بأكمله، فإذا كان ذلك يعني أن يتحمل الفقراء وطأة الأمر، فليكن. مازال هذا المفهوم الهرمي القديم للصحة العامة دارجاً في عصرنا، خاصةً في دول الحكومات البرجوازية التي تلتزم بالربح أكثر من التزامها بالشعوب. لكن الفكرة الاشتراكية للصحة العامة – وهي أن المؤسسات الاجتماعية والحكومية يجب أن تركز على الوقاية من الأمراض وكسر سلسلة العدوى – نهضت بقوة منذ القرن التاسع عشر وعادت الآن مجدداً إلى الواجهة.

تي بي تي

تم تشكيل لجنة للأوبئة في فيينا بالنمسا في أعقاب إنفلونزا عام 1918، وكان مقدّراً لهذا النوع من المبادرات أن يصبح جزءاً أساسياً من منظمة الصحة في عصبة الأمم (1920). لكن تم تضييق أجندة العصبة بفعل الحكم الاستعماري لجزء كبير من الكوكب وهيمنة الشركات الطبية الخاصة في البلدان التي تحكمها تلك البرجوازيات. فحتى حين تم تشكيل منظمة الصحة العالمية (WHO) عام 1946 كأول وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة كانت مقيدة بالعقليتين الاستعمارية والرأسمالية، وذلك على الرغم من أن الأشخاص الثلاثة المبادرين لتأسيس منظمة الصحة العالمية – وهم سيمينغ سي (الصين) وجيرالدو دي باولا سوزا (البرازيل) وكارل ايفانغ (النرويج) – لم ينتموا إلى أي من القوى الاستعمارية الرئيسية.

لقد تعمق النضال في مختلف البلدان وداخل منظمة الصحة العالمية لإضفاء طابع ديمقراطيّ على الرعاية الصحية خلال العقود الثلاثة التالية من تأسيس الأمم المتحدة عام 1945. فقد قادت دول العالم الثالث التي أنشأت حركة عدم الانحياز عام 1961 وكتلة مجموعة الـ 77 في الأمم المتحدة عام 1964 أجندةً لنظام صحة عامة دولي ولتخصيص موارد أكبر تجاه الصحة العامة بدلاً من خصخصة الرعاية الصحية. وصل هذا النقاش ذروته في المؤتمر الدولي للرعاية الصحية الأولية المنعقد في ألما آتا (الاتحاد السوفييتي) في سبتمبر 1978. يضم إعلان ألما آتا أفضل بيان يتناول الدفاع عن الصحة العامة تم اعتماده من قبل حكومات العالم. فبالإضافة إلى إبراز أهمية الصحة العامة على العموم، أشار الإعلان إلى الفوارق الهائلة بين دول الكتلة الإمبريالية ودول العالم الثالث. إنه لمن المهم إعادة النظر في النقطة السابعة من الإعلان، وهي التي تنص على أن الرعاية الصحية الأولية يجب أن تتوفر للعموم:

  1. تعكس وتتطور من الظروف الاقتصادية والخصائص الاجتماعية والثقافية والسياسية للبلد ومجتمعاته، كما أنها تستند إلى تطبيق نتائج البحوث الاجتماعية والطبية الحيوية والخدمات الصحية ذات الصلة وعلى الخبرات في الصحة العامة.
  2. تعالج أهم المشاكل الصحية في المجتمع وتقدم الخدمات التعزيزية والوقائية والعلاجية والتأهيلية طبقا لذلك
  3. على الأقل: التثقيف حول المشاكل الصحية السائدة ومنهجيات الوقاية منها ومكافحتها، وتعزيز إمدادات الغذاء والتغذية السليمة، وإمداداً كافياً من المياه الصالحة للشرب وخدمات الصرف الصحي الأساسية؛ ورعاية صحة الأم والطفل بما في ذلك تنظيم الأسرة، وتعزيز المناعة ضد الأمراض المعدية الرئيسية، والوقاية من الأمراض المنتشرة محلياً ومكافحتها، والعلاج المناسب للأمراض والإصابات الشائعة، وتوفير الأدوية الأساسية.
  4. تشمل بالإضافة إلى قطاع الصحة جميع قطاعات وجوانب التنمية الوطنية والمجتمعية، لا سيما الزراعة وتربية الحيوانات والغذاء والصناعة والتعليم والإسكان والأشغال العامة والاتصالات وغيرها من القطاعات، وتطالب جميع هذه القطاعات بجهود منسقة.
  5. تتطلب وتعزز أقصى قدر من الاعتماد الذاتي المجتمعي والفردي والمشاركة في تخطيط وتنظيم وتشغيل ومراقبة الرعاية الصحية الأولية، وذلك مع الاستخدام الكامل للموارد المحلية والوطنية وغيرها من الموارد المتاحة؛ ولذلك تطور من خلال التعليم المناسب قدرة المجتمعات على المشاركة.
  6. يجب أن تكون مستدامةً من خلال نظم إحالة متكاملة وعملية وداعمة لبعضها البعض، ما يؤدي إلى التحسين التدريجي للرعاية الصحية الشاملة للجميع وإعطاء الأولوية لمن هم في أمس الحاجة إليها. 
  7. تعتمد في المستوى المحلي ومستوى الإحالة على العاملين في المجال الصحي، بمن فيهم الأطباء والممرضات والقابلات والمساعدون والعاملون في المجتمع حسب الحاجة، بالإضافة إلى الممارسين التقليديين عند اللزوم، مع تدريبهم اجتماعياً وتقنياً بشكل مناسب للعمل كفريق صحي والاستجابة للاحتياجات الصحية التي أعرب عنها المجتمع.
سونغ هيون-سوك (كوريا)، ضربتان بالفرشاة، 2012.

ثمة القليل مما ينبغي تغييره في إعلان ألما آتا، ويجب إعادته إلى جدول الأعمال.

إن القساوة التي تعاطت بها الحكومات البرجوازية مع الوباء تبرز الحاجة إلى التحقيق في نهجها الإجرامي. تمعنتُ مع نعوم تشومسكي الأسبوعَ الماضي في الأخبار القادمة من البرازيل، بالرغم من أنها قد تكون لسان حال الهند أو جنوب إفريقيا أو الولايات المتحدة. إليكم رسالتنا:

وصلت تحذيرات من نفاد إمدادات الأكسجين في مدينة ماناوس بالبرازيل إلى المسؤولين الحكوميين المحليين والفدراليين قبل أسبوع من وقوع الكارثة، التي أودت خنقاً بحياة مرضى مصابين بفيروس كورونا. لا يجب أن تضطر أي دولة حديثة – كالبرازيل – إلى الاعتراف بأنها لم تفعل شيئاً عند ورود هذه التحذيرات وأنها سمحت ببساطة لمواطنيها أن يموتوا دون سبب.

طالب قاضٍ بالمحكمة العليا والمحامي العام الحكومة البرازيلية بالتصرف، لكن ذلك لم يحرك إدارة جاير بولسونارو. إن كل ما في هذه القصة – المفصّلة في تقرير المحامي العام خوسيه ليفي دو أمارال – يكشف عن تعفن الخصخصة وانعدام الكفاءة. لقد كان مسؤولو الصحة المحليون يعرفون في أوائل شهر يناير أنه سيكون هنالك نقص وشيك في الأكسجين، لكن تحذيرهم لم يكن له وقعٌ مؤثر، إذ أبلَغ مقاول خاص مسؤول عن توفير الأكسجين الحكومة بذلك قبل ستة أيام من نفاد هذا الإمداد المهم في المدينة التي تكافح فيروس كورونا. وحتى في ظل المعلومات التي وفرها المقاول لم تفعل الحكومة شيئاً، بل عبرت لاحقاً – خلافًا لكل النصائح العلمية – عن أن العلاج المبكر لفيروس كورونا لا ينفع. لقد دفع انعدام حساسية وكفاءة حكومة بولسونارو المدعي العام أوغوستو أراس أن يطالب بتحقيق خاص. بينما كان بولسونارو يتردد، أرسلت حكومة فنزويلا شحنةً تضامنيةً من امدادات الأكسجين إلى ماناوس.

إن التطور الأخير الذي سببه مزيج الحكومة السام من الخصخصة وعدم الكفاءة واللاإنسانية يجب أن يعزز القضية التي رفعتها نقابات الرعاية الصحية البرازيلية ضد جاير بولسونارو أمام المحكمة الجنائية الدولية في شهر يوليو. لكن المشكلة ليست خطأ بولسونارو وحده أو حتى خطأ البرازيل، بل تكمن المشكلة في الحكومات النيوليبرالية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والهند وغيرها، تلك الحكومات التي تفوق التزاماتها تجاه الشركات الربحية والمليارديرات التزامها تجاه مواطنيها أو دساتيرها. إن ما نراه في بلدان كالبرازيل هو جريمة ضد الإنسانية.

لقد حان الوقت لتشكيل محكمة من المواطنين للتحقيق في الفشل الذريع في وقف انتشار فيروس كورونا الذي تكبدته حكومات بوريس جونسون ودونالد ترامب وجاير بولسونارو وناريندرا مودي وآخرين. ستجمع محكمةٌ كهذه المعلومات مدعمة بالحقائق التي من شأنها أن تضمن عدم السماح لهذه الدول بالتلاعب في مسرح الجريمة. إن محكمة المواطنين ستزود المحكمة الجنائية الدولية بأساس متين لإجراء تحقيق جنائي في هذه الجريمة ضد الإنسانية عندما يتم تخفيف خنقها سياسياً.

يجب علينا جميعاً أن نغضب، لكن كلمة غضب ليست قوية بما يكفي.

ناتاليا باباروفيتش (تشيلي)، آخر امرأة على وجه الأرض، 2011.

يشير تقرير حديث إلى أن حكومة بولسونارو قد وضعت إستراتيجيةً للسماح بانتشار الفيروس. سيكون كل هذا جزءاً من الأدلة لمحكمة المواطنين. يجب ألا نسمح للنسيان بالسيطرة علينا، بل يجب أن نتذكر وأن نبني على الأفكار المشمولة في إعلان ألما آتا.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة