نحتاج إلى نقابة عمالية جديدة للفقراء في نصف الكرة الأرضية الجنوبي: (عدد 43. 2022)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 06 يونيو/ حزيران 2023

فيجاي براشاد*

يسود المملكة المتحدة نوع من الفوضى، حيث يستعد مقر إقامة رئيس الوزراء في لندن – وعنوانه 10 بشارع داونينيغ – لاستقبال ريشي سوناك، أحد أغنى الرجال في البلاد، الذي من المتوقع أن يخلف ليز تروس التي استمرت في منصبها لمدة 45 يوما فقط.

وتعرضت حكومة تروس لسلسلة من الإضرابات العمالية بسبب سوء سياساتها. ففي ميزانية تروس المصغرة التي حكمت على حكومتها بالفشل اختارت شن هجوم نيوليبرالي واسع النطاق على الشعب البريطاني من خلال خفض الضرائب والتخفيضات غير المتوافق عليها في المزايا الاجتماعية. لقد تسببت السياسات المتبناة في صدمة للطبقة المالية الدولية، التي ظهرت من خلال إشارة حاملي السندات الأثرياء إلى فقدانهم الثقة في المملكة المتحدة من خلال السعي نحو التخلص من هذه السندات، الأمر الذي أدى إلى زيادة الاقتراض الحكومي ومعه زيادة مدفوعات الرهن العقاري لأصحاب المنازل. لقد كانت هذه الطبقة الثرية من حاملي السندات بمثابة المعارضة الحقيقية لحكومة تروس. حتى إن صندوق النقد الدولي (IMF) ألقى بثقله من خلال إصداره بيانا قويا، من ضمن ما جاء فيه: “إن طبيعة الإجراءات في المملكة المتحدة من المرجح أن تزيد من عدم المساواة”.

دويليو بيري (الأرجنتين)، استعادة الرفات، 1987.

من ضمن الأمور اللافتة التي رافقت الأحداث الحالية في المملكة المتحدة ذلك القلق الذي عبر عنه صندوق النقد الدولي بشأن تصاعد عدم المساواة، لاسيما ونه وعلى مدار ثمانية وسبعين عاما من تاريخه، أي منذ تأسيسه عام 1944، نادرا ما أولى اهتماما لظاهرة اللامساواة المتزايدة. وفي الواقع، بسبب سياسات الصندوق تعاني معظم بلدان الجنوب من عدم قدرتها على الخروج من “فخ التقشف” الذي تم تشكيله من خلال العمليات التالية:

   – تسببت التواريخ الاستعمارية القديمة للنهب في أن الدول الجديدة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وجدت نفسها مضطرة إلى اقتراض الأموال من حكامها الاستعماريين السابقين.

   – كان اقتراض هذه الأموال يذهب في المقام الأول إلى بناء البنية التحتية الرئيسية التي لم يتم بناؤها في الحقبة الاستعمارية، ما عنى إغراق البلدان في مشاريع طويلة الأجل لم تسدد نفقاتها.

   – تم إجبار معظم هذه البلدان على اقتراض المزيد من الأموال بقصد تسوية مدفوعات الفوائد على القروض، ما أدى إلى أزمة ديون العالم الثالث في الثمانينيات.

   – استخدم صندوق النقد الدولي برامج الإصلاح الهيكلي لفرض التقشف داخل هذه البلدان كشرط أساسي من أجل الاقتراض مجدداً لسداد القروض؛ ما إلى إفقار مليارات من الناس، الذين استمروا في أعمالهم ضمن سلسلات التراكم واستخدمت عمالتهم – في كثير من الأحيان بشكل منتج للغاية – لإثراء القلة على حساب الكثيرين الذين صبوا عرقهم في سلسلة السلع العالمية.

   – يمثل السكان الأكثر فقرا في الجنوب العالمي ثروة اجتماعية أقل، رغم ارتفاع التصنيع، وهذا الانخفاض في الثروة الاجتماعية يأتي جنباً إلى جنب مع نهب الموارد، ما يعني أن هناك فائضا أقل لتحسين ظروف الحياة العامة، وأن حكومات هذه البلدان هذه ستكون مضطرة أكثر فأكثر إلى رفع معدلات الاقتراض من أجل سداد ديونها. وهذا هو السبب في أن بلدان الجنوب العالمي شهدت منذ العام 1980 تدفقاً للأموال العامة إلى الخارج، التي بلغت قيمتها 4.2 تريليون دولار، استخدمت في سداد الفوائد على قروضها. ومن الأمور التي تزيد من تعقيد هذا النهب حقيقة أن حوالي 16.3 تريليون دولار إضافية تم تهجيرها من بلدان الجنوب العالمي من 1980 إلى 2016 عبر التلاعب في الفواتير التجارية وسوء التسعير، وكذلك التسرب في ميزان المدفوعات والتحويلات المالية المسجلة.

أنطونيو بيرني (الأرجنتين)، رامونا تنتظر، 1964.

تم توثيق المخالفات القذرة لهذه العملية المتمثلة في الإفقار المتوالي للجنوب العالمي بالتفصيل في ملفنا رقم 57 تحت عنوان الجغرافيا السياسية لعدم المساواة: مناقشة المسارات نحو عالم أكثر عدلاً (أكتوبر/ تشرين الأول 2022). يبرز الملف، الذي أعده مكتبنا في بوينس آيرس استناداً إلى تحليل مفصل لمجموعة من البيانات المتوفرة، أنه في حين أن عدم المساواة ظاهرة عالمية فإن دول الجنوب العالمي تعيش على وقع تخفيضات أعمق في سبل العيش. فعلى سبيل المثال يتطرق الملف إلى أنه “في 163 دولة من العالم هناك فقط 32% من الأسر التي لديها دخل أعلى من المتوسط العالمي، ومن هذا الإجمالي هناك عدد قليل فقط من بلدان الأطراف التي لديها دخل أعلى من المتوسط، في حين أن 100% من البلدان الأساسية أعلى من المتوسط.

وتستمر “الجغرافيا السياسية لعدم المساواة” رغم انتقال الإنتاج الصناعي من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها. إن التصنيع في سياق التقسيم العالمي للعمل والملكية العالمية لحقوق الملكية الفكرية يعني أنه في وقت تضم بلدان الجنوب العالمي معاقل الإنتاج الصناعي إلا أنها لا تحصل على المكاسب المتوقعة من هذا الإنتاج. يشير الملف إلى أن “الحالة النموذجية هي حالة منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، التي تمثل 185% من الإنتاج الصناعي في الشمال، ولكنها لا تمثل سوى 15% من دخل الفرد في البلدان الغنية”. علاوة على ذلك فإن “الجنوب العالمي ينتج 26% من السلع المصنعة أكثر من الشمال، ولكنه يمثل أقل بنسبة 80% من دخل الفرد في الشمال”.

ويتركز معظم التصنيع في الجنوب العالمي، لكن “مراكز الرأسمالية العالمية مازالت تتحكم في العملية الإنتاجية ورأٍس المال النقدي الذي يسمح ببدء سلسلات التراكم الإنتاجي”. وتؤدي هذه الأشكال من السيطرة على النظام الرأسمالي (الصناعة والتمويل) إلى الزيادة المستمرة في ثروة المليارديرات (مثل رئيس الوزراء البريطاني الجديد، ريشي سوناك) إلى جانب إفقار الكثيرين، الذين يعيش معظمهم في حالة فقر مهما كانت صعوبة أو مقدار عملهم. فمثلاً خلال سنوات الوباء الأولى “ظهر ملياردير جديد كل 26 ساعة، بينما انخفض دخل 99% من السكان”.

نورا باتريش وكارلوس سيسانو (الأرجنتين)، تاريخ، الحقيقة، قوانين، 2012.

يختتم التحليل الذي تناوله ملفنا – من أجل بناء طريق نحو عالم أكثر عدلا – حول إعادة إنتاج عدم المساواة باستحضار خطة من خمس نقاط. هذه النقاط هي عبارة عن دعوة للحوار:

1. الاستقلال الجزئي عن السلاسل العالمية. وهي عبارة عن دعوة إلى أنظمة جديدة للتجارة والتنمية تضع في الحسبان مشاركة أكبر لبلدان الجنوب، مع استحضار أكبر للمصالح الإقليمية، وذلك بدلاً من الارتباط بسلاسل السلع الأساسية العالمية التي ترتكز على ضمان احتياجات شمال الكرة الأرضية كأولوية لها.

2. إدارة الإيرادات من قبل الدولة. إن التدخل الملموس للدولة من خلال الضرائب (أو التأميم) في إدارة الإيرادات (مثل إيجارات الأراضي وكذلك عائدات التعدين والتكنولوجيا) هو المفتاح الأساسي للحد من نمو دخل الطبقة الحاكمة.

3. الضرائب على رأس المال المضارب. يتم تهريب كميات كبيرة من رأس المال من بلدان الجنوب، لا يمكن استرجاعها ما لم تكن هناك ضوابط على رأس المال أو ضرائب على الرأس المال المضارب.

4. تأميم السلع والخدمات الإستراتيجية. تمت خصخصة القطاعات الرئيسية لاقتصاديات الجنوب العالمي وشراؤها من قبل رأس المال المالي العالمي، الذي يضع الربح كأولوية ويتخذ قرارات بشأن هذه القطاعات بناء على مصالحه وليس مصالح العمال.

5. فرض ضرائب على أرباح الشركات والأفراد. يتم إلى حد كبير وضع الأرباح الفلكية التي تحققها الشركات في المضاربة بدلاً من الإنتاج وتحسين دخل ونوعية حياة الأغلبية. وسيكون فرض ضريبة على الأرباح الهائلة بمثابة خطوة نحو سد هذه الفجوة.

بايا محي الدين (الجزائر)، امرأة وطاووس، 1973.

صاغت دول جنوب الكرة الأرضية، التي نظمتها حركة عدم الانحياز (NAM) ومجموعة الـ77، منذ ما يقرب من خمسين سنة، مشروع قرار يسمى النظام الاقتصادي العالمي الجديد (NIEO)، وتمكنت من إقراره في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1 مايو/ أيار 1974. وصاغ NIEO رؤية جديد للتجارة والتنمية تقطع مع اعتماد الجنوب العالمي على الشمال، مع مقترحات محددة حول كل من العلم ونقل التكنولوجيا وإنشاء نظام نقدي عالمي جديد مع التحكم في بدائل الواردات والتكتل الاحتكاري، بالإضافة إلى العديد الإستراتيجيات الأخرى الهادفة إلى تعزيز السيادة الغذائية والتأكد من تحقيق أرباح أكبر لمبيعات المواد الخام، فضلاً عن تحقيق تعاون أكبر بين بلدان الجنوب.

إن العديد من المقترحات التي تم التطرق لها في ملفنا، ونرى أن من شأنها تحسين الوضع الحالي، مستمدة من NIEO. تبنى الرئيس الجزائري الهواري بومدين ودفع بمخرجات NIEO في اجتماع حركة عدم الانحياز المقام في الجزائر العاصمة عام 1973. وقد حاجج بومدين بأن العالم محاصر بـ “ديالكتيك الهيمنة والنهب من ناحية وديالكتيك التحرر والتعافي من ناحية أخرى”، مؤكدا في الآن نفسه على أنه إذا لم يتم تبني NIEO ومع رفض الشمال العالمي نقل “السيطرة واستخدام الموارد التي تنتمي إلى العالم الثالث” سيؤدي ذلك إلى “حريق لا يمكن السيطرة عليه”. ومع ذلك، بدلاً من السماح بإنشاء NIEO، قاد الغرب سياسة تسببت في أزمة ديون العالم الثالث، ما أدى بهذه البلدان إلى “فخ التقشف” من ناحية وأعمال الشغب المناهضة لصندوق النقد الدولي من ناحية أخرى. والتاريخ منذ ذلك الحين لم يشهد أي تقدم.

قال رئيس تنزانيا جوليوس نيريري عام 1979 في أعقاب اضمحلال فكرة NIEO وبروز أزمة ديون العالم الثالث إن هناك حاجة لإنشاء “نقابة عمالية للفقراء”. لم تظهر مثل هذه الوحدة السياسية في ذلك الوقت، ولم تر فكرة هذه “النقابة العمالية” النور في عصرنا. نقول إن بناء هذه الوحدة أضحى ضرورة.

* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة