تاريخ من الانقلابات العسكرية يجهض الثورات الديمقراطية في السودان

مشاركة المقال

مدار: 06 يونيو/ حزيران 2023

تعبر السرعة التي تفككت بها السودان وما تعانيه مؤخرا مؤشرا على أن الأمور كانت تتراكم منذ فترة طويلة، فانهيار البلاد هو نتيجة لسلسلة من الإخفاقات والتواطؤ والرضا عن النفس من قبل الحكام إلى درجة أن من استفادوا من هذا الوضع ظنوا أنهم سيستمرون إلى الأبد.

كان الأمر متحكما فيه بشكل ما إلى غاية أن ارتفعت نزعة السيطرة على الحكم في البلاد بين مختلف القوى، ما أدى إلى حدوث تصادمات أدخلت البلاد في حرب زادت من تأزيم معيشة السودانيين والسودانيات.

تعيش السودان على وقع حرب شنعاء بين مؤسستين عسكريتين تمسكان بزمام الأمور في البلاد، فمن جانب هناك الجيش السوداني تحت قيادة البرهان، وفي الجانب المقابل قوى الدعم السريع (الجنجويد سابقا) بقيادة حميدتي، هذه المعارك التي جعلت من شوارع الخرطوم والعديد من المدن الأخرى مسرحا لمواجهات بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، ما خلف عديد الضحايا من المدنيين.

تاريخ الانقلابات في السودان

عند الاطلاع على تاريخ الأوضاع في السودان تستوقفنا سلسلة مأساوية طويلة من الانقلابات والصراعات العسكرية. شهد السودان أول حكم عسكري في العام 1958، بعد عامين من الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، حين مهد اللواء إبراهيم عبود لديكتاتورية عسكرية دامت ما يقارب 6 سنوات. وفي العام 1969، استولى العقيد جعفر نميري على السلطة في انقلابٍ غير دموي، لكن حملات القمع السياسي في السنوات اللاحقة كانت السبب وراء قتل المئات واعتقال آلاف النشطاء. واستمر هذا الحكم طيلة 16 سنة.

خلال حكم نميري، شهدت السودان قرابة 20 محاولة انقلاب واغتيال له من داخل القوات المسلحة (كان مصيرها جميعا الفشل). وفي العام 1989، انقلب العميد عمر البشير على السلطة وأسس لحكم عسكري/إسلامي استمر 30 سنة. هذا كله علاوة على الصراعات العسكرية الممتدة في الجنوب، التي استمرت منذ الاستقلال إلى أن انفصل جنوب السودان في 2011، إضافة إلى الحرب الدموية التي شنَّها الجيش السوداني وميليشياته على دارفور.

بشكل عام، منذ استقلال السودان منذ 67 عاما عاش 56 عاما تحت وطأة الحكم العسكري. لكن الحكم العسكري وأدخنة المعارك التي لطالما عاش تحت وطأتها الشعب السوداني لا يمكن أن تغطي أو تجعلنا نتناسى حقيقة ما تزخر به السودان الحديثة من ثورات جماهيرية، حاولت تغيير الأوضاع رغم ما واجهته من قمع وتقتيل.

لقد كان للطبقة العاملة دور حاسم في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية من خلال هذه الثورات، وفي الغالب باستعمال أهم سلاح لها وهو الإضراب العام. أسقطت ثورة أكتوبر 1964 حكم الجنرال عبود، وكانت تلك أول ثورة شعبية تتمكّن من إسقاط نظام سياسي في المنطقة العربية وإفريقيا. وتصدرت قيادة النضال في هذه الثورة “جبهة الهيئات”، وهي جبهة عريضة لنقابات عمالية ومهنية. وجاءت ثورة أبريل 1985 بقيادة “التجمع النقابي”، وأسقطت حكم نميري بإضراب عام زرع تصدعات عميقة في النظام حتى أطاح به. وفي ثورة ديسمبر 2018، التي أنهت ثلاثة عقود من ديكتاتورية البشير، كانت الصدارة أيضا للطبقة العاملة، أو على الأقل قطاع كبير منها، وهو “تجمع المهنيين”، الذي رفع راية الثورة وقادها، على الأقل في مراحلها الأولى، ومن ثم أفسح المجال للجان المقاومة.

لكن كل ثورة من هذه الثورات لم تكد ترسي مرحلةً ديمقراطية حتى ينقلب عليها الجيش ويعيد الكرَة. بعد إسقاط عبود، الذي كان يقود البلاد بأفكاره اليمينية، لم تكمل المرحلة الديمقراطية 5 سنوات إلى أن جاء انقلاب نميري، الذي أسس حكمً قوميا تحول إلى يميني/إسلامي. وبعد إسقاط نميري، بالكاد أكملت المرحلة الديمقراطية 4 سنوات إلى أن جاء انقلاب البشير، اليميني/الإسلامي منذ بدايته، بدعمٍ من الجبهة الإسلامية القومية. وبعد محاولات فاشلة لتقاسم السلطة بين الجيش والمدنيين، انتهت بانقلاب آخر في أكتوبر 2021، يغرِق الجيش والدعم السريع البلاد الآن في مستنقع من الدماء.

خلفيات الصراع الحالي والقوات المشاركة

تعود جذور قوات الدعم السريع إلى ميليشيات الجنجويد، التي كانت في الأصل مكونة من رعاة وأفراد من قبائل معينة غرب السودان، تم تسليحهم في البداية وتم تشكيلهم في قوة قتالية في أوائل الثمانينيات، حيث تنافست الحكومة السودانية لتعزيز نفوذها في تشاد المجاورة، التي كانت متورطة في حرب أهلية طويلة الأمد.

بدأ الجنجويد – الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الفرسان – مداهمة القرى وإحداث الفوضى، لكنهم جذبوا الاهتمام الدولي لأول مرة بعد الإبادة الجماعية المروعة التي حدثت في دارفور عام 2003، وتحدثت الأمم المتحدة في تقارير مختلفة عن أن عدد ضحاياها وصل إلى مئات الآلاف، ما دفع المجتمع الدولي إلى الدعوة إلى حل هذه القوات، لكن ما تم هو أنه تم تغيير اسمها إلى قوات الدعم السريع، وظلت تابعة للبشير، ككيان مواز للجيش.

عملت قوات الدعم السريع في الآونة الأخيرة، بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو – المعروف باسم حميدتي – جنبا إلى جنب مع الجيش السوداني للمساعدة في إبقاء الجيش في السلطة.

بعد الإطاحة بالبشير، كان من المفترض أن يؤدي الانتقال السياسي إلى انتخابات بحلول نهاية عام 2023، مع وعد البرهان بالانتقال إلى الحكم المدني. لكن من الواضح أنه لا البرهان ولا دقلو كانت لديهما أي نية للتخلي عن السلطة. علاوة على ذلك فإنهما يخوضان صراعًا على السلطة تحول إلى عنف في 15 أبريل 2023. وقد انخرط أفراد من قوات الدعم السريع والجيش السوداني في معارك بالأسلحة النارية في العاصمة الخرطوم، وكذلك في أماكن أخرى من البلاد، ليتصاعد بعد ذلك العنف في مختلف أنحاء البلاد.

وكانت الخلفية الأخيرة للعنف هي الخلاف حول كيفية دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني. وتفاقمت التوترات بعد أن بدأت قوات الدعم السريع نشر أعضاء في جميع أنحاء البلاد وفي الخرطوم دون إذن صريح من الجيش. لكن الواقع يقول إن العنف كان يختمر منذ فترة في السودان، مع القلق من سعي قوات الدعم السريع إلى السيطرة على المزيد من الأصول الاقتصادية للبلاد، ولاسيما مناجم الذهب.

تمويل قوات الدعم السريع

سلط تحقيق لغلوبال ويتنس قائم على وثائق مصرفية وشركات نشرت في الأصل على قناة الباشوم السودانية الساخرة على الإنترنت الضوء على التمويل الخاص بقوات الدعم السريع؛ وكانت قد وصفتها الباشوم بأنها مسربة من “الشركات المساندة” لقوات الدعم السريع؛ في حين تم الحصول على وثائق أخرى من قبل غلوبال ويتنس في سياق تحقيقاتها الخاصة.

تحققت غلوبال ويتنس من المستندات باستخدام المقابلات وسجلات الشركة وطرق التحقيق مفتوحة المصدر، بما في ذلك تحليل النسخ المؤرشفة من مواقع الويب “القديمة”، وخلصت إلى أن الوثائق المسربة من المرجح أن تكون أصلية.

يكشف التحقيق لأول مرة عن الآليات التي تمكّن من تمويل قوات الدعم السريع، كما يوضح بالتفصيل قبضة حميدتي القوية وعائلته المباشرة على مالية الميليشيا.

يظهر التقرير، الذي يحمل عنوان “الأموال وراء أقوى ميليشيات السودان”، أن من أهم مصادر التمويل هي شركة الجنيد للذهب، المملوكة لثلاثة أفراد من عائلة دقلو: شقيق حميدتي عبد الرحيم حمدان دقلو، وابنا عبد الرحيم الصغيرين؛ في حين أن حميدتي نفسه، وفقًا للوثيقة، هو عضو في مجلس الإدارة. وادعى المتحدث باسم الشركة أن حميدتي أنهى دوره الرسمي في الشركة عام 2009.

وتحدث التحقيق عن أن قوات الدعم السريع تستخدم شركتين من أجل تمويه التمويل، شركة GSK لتكنولوجيا المعلومات والأمن ومقرها السودان، وشركة Tradive General Trading LLC ومقرها في الإمارات العربية المتحدة. تقوم Tradive بتحويل عشرات الملايين من الدولارات إلى داخل وخارج قوات الدعم السريع، على الأقل جزئيًا من أجل التعتيم على تورط الميليشيات. كما أن شقيق حميدتي، الجوني حمدان دقلو، هو مدير ومالك Tradive.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة