مدار: 19 نيسان/ أبريل 2021
في إحدى زقاق القدس، التأم حشد غفير من نساء ورجال، شبان وشابات، يرددون هتافات وأهازيج احتفالية كأنهم يزفون عروسا في زفاف فلسطيني أصيل. وسط هذا الجمع تطل فتاة مقدسية ترتدي الزي التقليدي، وأمها بالزي نفسه، تلوحان بالكوفية الفلسطينية وفي ملامحهما كل تعابير الجمال الفلسطيني الذي لم ينجح الاحتلال في طمس معالمه..
كما لو كانتا تتابعان معجزة على وشك التحقق، كانت عيونهما تتطلع بترقب نحو الأفق، وتنطقان بحكاية عمرها عشرون عاما من شوق واشتياق وصبر وصمود قل نظيرهما.
تلك الفتاة العشرينية ليست إلا ‘زينة مجد بربر’، ابنة الأسير الفلسطيني ‘مجد بربر’، الذي حرر يوم 29 مارس 2021 بعد أن قضى 20 عاما من الأسر في سجون الاحتلال الإسرائيلي؛ وكان قد تركها حديثة الولادة لم تتجاوز 15 يوما من عمرها بجانب أخيها ‘المنتصر’، ذي السنة والنصف، قبل أن تقرر قوات الاحتلال أن تحرمهما من نعمة العيش في كنف أبيهما، وأن تحرمه في المقابل من أبسط حقوقه، وحتى من التمتع بمراقبة ملامح طفليه وهي تتغير عبر الزمن، ولا أن يفرح بأولى خطواتهما وضحكاتهما على مدى 20 سنة.
وبدل الانهيار أو الرضوخ، تقف ‘فاطمة’، زوجة المجد والأم صامدة، بطلّة شامخة وعنفوان وكأن لسان حالها يقول ها أنا ذي لم تأخذ مني العشرون سنة شيئا غير الاشتياق، مازلت عروسا شابة تنتظر بلهفة لقاء حبيبها؛ وهي التي اضطرتها ظروف الأسر إلى أن تتحمل مسؤولية طفلين رضيعين، وحملت على عاتقها تربيتهما وأرضعتهما من ثدي فلسطين حتى تشبعا بعدالة القضية التي في سبيلها يقبع والدهما خلف قضبان الأسر، ويتحمل كل أشكال التعذيب والتعنيف، كما تحملت الأسرة عبء السنين، أملا في لحظة اللقاء وإن طالت، لتكتب قصة تضحية ووفاء وحب وملحمة بطولية خالدة.
يوم 29 من مارس/آذار 2021 كانت الأسرة في موعد مع التاريخ، وهي لحظة تحرير الأسير المقدسي مجد بربر، التي وثقت عبر فيديوهات تم تداولها على نطاق واسع عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تظهر لهفة زوجته وابنيه (المنتصر وزينة) وهم يتطلعون للقاء والدهم وكأنهم استنفدوا آخر جرعة من الصبر، فلم يبق منه ما يكفي دقائق من الانتظار.
وفور نزوله من السيارة التي نقلته، وجد المجد نفسه في حضن ابنته زينة وهي تحاول أن تشبع حنين 20 عاما، وزوجته التي أقبلت عليه ملوحة بالكوفية الفلسطينية لتؤكد وفاءها له، وأنها مازالت على الوعد الذي قطعته له وللقضية الفلسطينية ولم تتخل عن أي منهما.
لحظة تحرير الأسير مجد بربر، وحفاوة الاستقبال الذي حظي به وحجم التفاعل الذي رافق صورو فيديوهات الاستقبال التي تم تداولها في فلسطين وباقي الدول العربية والمغاربية، أزاحت الحجاب الذي كانت تحاول قوات الاحتلال من خلاله التعتيم على ظروف عيش الأسرى داخل السجون، وحتى أثناء تحريرهم؛ ما أربك حساباتها فعملت على اقتحام منزل مجد واعتقاله مرة أخرى بعد مرور أقل من 24 ساعة على إطلاق سراحه، وسط أهله وعدد من الأقارب والجيران الذين جاؤوا للتهنئة، فظل يصرخ في وجههم بعبارة: “لن نهزم”، التي تنم عن صلابته وتشبثه بمبادئه، قبل أن يتم إطلاق سراحه لاحقا؛ فتبين أنها كانت محاولة لتعكير أجواء الفرح والتشويش على استقباله الأسطوري.
غالبا ما يتم التعتيم على أخبار الأسرى المحررين ويعمل الاحتلال على أن يحاصرهم ما أمكن، حتى حين تحريرهم. ويقتصر الاستقبال على أفراد الأسرة والمقربين فقط؛ فليست أسرة المجد الأسرة الفلسطسنية الأولى ولا الأخيرة التي عانت من ويلات الأسر، وما يترتب عنه من معاناة للأسير وأسرته، منهم من تمكن من أن يعيش لذة اللقاء، ومنهم من خرج ليعيش ألما من نوع آخر، كفراق الأب أو الأم أو أحد أفراد الأسرة بعدما أنهكهم الانتظار وأضناهم.
وقد ظهر “مجد القدس” كما يحلو للأحباب تسميته يوم السبت 17 أبريل/نيسان وهو ينير شعلة الحرية في بيت والدة “عميد الأسرى يونس ماهر”، حسب وصفه له في “تدوينة” نشرها مجد في حسابه الشخصي على “فايسبوك” احتفاء بذكرى يوم الأسير الفلسطيني، الذي يصادف 17 أبريل\نيسان من كل سنة منذ أن أقره المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 كيوم وطني وأممي لنصرة الأسرى والأسيرات الفلسطينيين\ات، واستحضار معاناتهم داخل زنازين الاحتلال، حيث يذوقون أقسى أشكال التعذيب والتنكيل والانتهاكات الجسيمة لأبسط الحقوق الإنسانية، حسب ما صرح به العديد من الأسرى المحررين على مر السنين، مؤكدين أن الاحتلال لم يغير سياساته منذ قرون، فمازال الحصار يلف السجون الإسرائيلية، والتعتيم المطبق على وضعية الأسرى والأسيرات التي تؤكد معظم التقارير الرسمية وغير الرسمية سوءها.
وتشير الإحصائيات إلى وجود حوالي 4500 أسير، ضمنهم 41 أسيرة و140 طفلا، وأكثر من 440 معتقلا تحت الاعتقال الإداري، الذي يعتبر عقوبة بدون تهمة، ويستند فقط إلى ما يسمى “الملف السري” لجهاز المخابرات، الذي يمنع المعتقل وحتى محاميه من الاطلاع على محتواه.
هذا ويعاني الأسرى والأسيرات من الإهمال الطبي وانعدام الرعاية الصحية. كما تشير مصادر فلسطينية رسمية إلى وجود ما يقارب 700 أسير يعانون من أمراض مختلفة، منهم 300 يعانون من أمراض مزمنة.
واستغل الاحتلال الإسرائيلي أزمة كورونا ليصب الزيت على النار، ويزيد من معاناة الأسرى، إذ بلغ عدد الإصابات بينهم 368 حالة سنة 2020، توفي 4 منهم، في غياب إجراءات الحماية وأدوات التعقيم، حسب “المجلس الوطني الفلسطيني”. ومازال الوضع يتأزم بعد حرمان الشعب الفلسطيني عامة من الوصول إلى اللقاحات المعتمدة ضد كوفيد 19.
وفي ذكرى يوم الأسير الفلسطيني لهذه السنة، دعا المجلس الوطني الفلسطيني الدول الأطراف المتعاقدة بموجب اتفاقيات جنيف العام 1949 لتحمل مسؤوليتها، لحث الاحتلال على الالتزام بالتزاماته القانونية تجاه الأسرى، والسعي للإفراج عنهم، خاصة المرضى وكبار السن، والنساء والأطفال القصر والأسرى القدامى منهم.
وفي هذا السياق قالت “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”: “لم يعد مقبولاً، لا سياسياً ولا قانونياً ولا أخلاقياً أن يقبع في سجون الاحتلال آلاف الأسرى الذين مضى على أسر بعضهم واعتقالهم ما يزيد عن أربعة عقود من الزمان، بينما مازالت السلطة الفلسطينية مستمرة في التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، وإجهاض المئات من عمليات المقاومة ضد قوات الاحتلال في أنحاء الضفة الغربية”.
وهي المطالب نفسها التي أكدت عليها وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينيين، منددة بالجرائم والانتهاكات الجسيمة للقوانين الدولية التي يتعرض لها الأسرى والأسيرات. وبالصيغة الاستنكارية نفسها عبرت القوى السياسية الفلسطينية من يمينها ليسارها وبكافة تلاوينها عن إدانتها الصمت الدولي تجاه هذه الانتهاكات، كما أكدت على ضرورة توحيد الجهود وطنيا ودوليا للضغط في اتجاه تحرير كافة الأسرى والأسيرات.