المراسلة 7: أحياناً يكون كتاب رأس المال لماركس خير وسادة.. وأحياناً أخرى يُلزمنا بتعميق كفاحنا

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية / مدار:  18 شباط/ فبراير 2021

فيجاي براشاد

وصل الشاب هوشي منه (1890-1965) إلى فرنسا، البلاد التي كانت تحتل موطنه فيتنام، عام 1911؛ ورغم أنه نشأ بروح وطنية ملتزمة بمناهضة الاستعمار، إلا أن طباعه لم تسمح له بالانزلاق نحو رومانسية متخلفة، لقد أدرك أن الشعب الفيتنامي بحاجة إلى الاستفادة من تاريخه وتقاليده وكذلك من التيارات الديمقراطية التي أطلقتها الحركات الثورية في جميع أنحاء العالم، فانخرط خلال فترة تواجده بفرنسا في صفوف الحركة الاشتراكية التي علمته عن نضالات الطبقة العاملة في أوروبا، رغم أن الاشتراكيين الفرنسيين لم يتمكنوا من كسر السياسات الاستعمارية لبلدهم، الأمر الذي خيب آمال هوشي منه.

 عندما طلب الاشتراكي جان لونجيه من هوشي أن يقرأ كتاب رأس المال لكارل ماركس، وجد الأخير صعوبة في ذلك، وقال لاحقاً إنه استخدمه بشكل أساسي كوسادة.

رفعت ثورة أكتوبر 1917 التي دشنت الاتحاد السوفيتي معنويات هوشي منه. ولم يقتصر الأمر على سيطرة الطبقة العاملة والفلاحين على الدولة ومحاولة إعادة تشكيلها، بل وفرت قيادة الدولة الجديدة دفاعاً قوياً للحركات المناهضة للاستعمار. قرأ هوشي منه بسعادة غامرة طروحات لينين حول المسألة القومية والاستعمار، التي صاغها لاجتماع الأممية الشيوعية في 1920. وقد وجد هذا الشاب الفيتنامي الراديكالي، الذي كانت بلاده مستعبدة منذ 1887، في هذا النص وغيره، الأسس النظرية والعملية لبناء حركته الخاصة. لقد ذهب هوشي منه إلى موسكو، ومن ثم إلى الصين، وفي نهاية المطاف عاد لبلاده فيتنام ليخرجها من القمع الاستعماري ومن الحرب التي فرضتها عليها كل من الولايات المتحدة وفرنسا (الحرب التي انتهت بانتصار فيتنام بعد ست سنوات من وفاة هوشي منه).

قال هوشي منه في 1929 إن “الصراع الطبقي لا يعبر عن نفسه كما في الغرب”، ولم يكن يقصد بذلك أن الهوة بين الغرب والشرق كانت ثقافية، بل إن النضال يجب أن يأخذ في الاعتبار في أماكن مثل الإمبراطورية الروسية السابقة، والهند الصينية، مجموعة من العوامل تنفرد بها هذه الأجزاء من العالم: هيكلية الهيمنة الاستعمارية، القوى المنتجة المتخلفة عن عمد ووفرة الفلاحين والعمال الزراعيين الذين لا يملكون أرضاً، بالإضافة إلى التسلسلات الهرمية البائسة الموروثة والمستنسخة من الماضي الإقطاعي (مثل الطائفة والنظام الأبوي).

كان الإبداع أمراً ضروريا، وهو ما جعل الماركسيين في المناطق المستعمَرة يبنون نظريتهم في النضال انطلاقاً من ارتباطهم الملموس بواقعهم المعقد. وقد ظهرت النصوص التي كتبها أشخاص مثل هوشي منه كما لو كانت مجرد تعليقات على الوضع الحالي، بينما كان هؤلاء الماركسيون في الواقع يبنون نظرياتهم عن النضال من سياقات محددة لم تكن واضحة لماركس وخلفائه الرئيسيين داخل أوروبا (أمثال كارل كاوتسكي وإدوارد برنشتاين).

يبحث ملفنا عدد 37، والمعنون “الفجر: الماركسية والتحرر الوطني”، في هذا التفسير الإبداعي للماركسية عبر الجنوب العالمي، من خوسيه كارلوس مارياتيغي في بيرو إلى مهدي عامل في لبنان. يشكل هذا الملف دعوة إلى الحوار والنقاش حول التراث الدارج والمتشابك للماركسية والتحرر الوطني، الذي انبثق عن ثورة أكتوبر عام 1917 ولم يتوان في تعميق جذوره في الصراعات المناهضة للاستعمار في القرنين العشرين والحادي والعشرين.

عندما انجرفت الأفكار الماركسية خارج حدود منطقة شمال الأطلسي، كان لا بد من “مطها قليلاً”، كما أشار فرانتز فانون في كتابه “معذبو الأرض” (1961)، وكان لا بد من تعزيز فكرة المادية التاريخية. من المؤكد أن لهذه الأفكار تطبيقات كونية، لكن لا يمكن تنفيذها بنفس الطريقة في كل مكان، فقد كان على كل حركة تبنت الماركسية مثل حركة تحرير فيتنام بقيادة هوشي منه أن تترجمها أولاً بما يتلاءم مع سياقها الخاص. إن المشكلة المركزية التي كانت تواجه الماركسية في المستعمرات هي أن القوى المنتجة في هذه الأجزاء من العالم تآكلت بشكل منهجي بسبب الإمبريالية، وأن التراتبيات الاجتماعية الأقدم لم تنته بفعل التيارات الديمقراطية. وكان السؤال المطروح هنا: كيف يمكن لأحد أن يُحدث ثورة في مكان دونما ثروة اجتماعية؟.

لاقت دروس لينين صدى لدى أناس مثل هوشي منه، لأنه جادل بأن الإمبريالية لن تسمح بتطوير القوى المنتجة في أماكن مثل الهند ومصر؛ فقد كان دور هذه المناطق في النظام العالمي متمثل في إنتاج المواد الخام وشراء البضائع النهائية للمصانع الأوروبية. ولم تظهر أي نخبة ليبرالية في هذه المناطق من العالم ملتزمة حقاً بمناهضة الاستعمار أو النضال من أجل التحرر البشري. كان على اليسار في المستعمرات أن يقود الثورة ضد الاستعمار ومن أجل الثورة الاجتماعية، وكان يعني هذا خلق أسس المساواة الاجتماعية، بما في ذلك النهوض بالقوى المنتجة، كما كان على اليسار استخدام المصادر الشحيحة التي تبقت بعد النهب الاستعماري، وتوسعت بفعل حماسة والتزام الشعب، من أجل إضفاء الطابع الاجتماعي على الإنتاج عبر استخدام الآلات وتنظيم أفضل للعمل، وأيضا إضفاء الطابع الاجتماعي على الثروة من أجل دفع التنمية في التعليم والصحة والتغذية والثقافة.

إرنستو بادرون بلانكو، جنباً إلى جنب مع فيتنام، 1971)

حدثت كل الثورات الاشتراكية بعد ثورة أكتوبر 1917 في المناطق الفقيرة من المستعمرات، مثل منغوليا 1921، وفيتنام 1945، والصين 1949 وكوبا 1959 وغينا بيساو وكابو فيردي 1975 وبوركينا فاسو 1983. كانت هذه مجتمعات فلاحية بشكل أساسي، وقد سرق المستعمرون رؤوس أموالها ولم يسمحوا بتطور قواها الإنتاجية، بل حصروا دورها في تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات النهائية. لقد قوبلت كل ثورة بعنف هائل من قبل الحكام الاستعماريين الراحلين الذين ركزوا على تدمير ثروات المجتمع المتبقية.

تُشكل الحرب على فيتنام رمزاً لهذا العنف. وتقدم إحدى حملات “عملية هادس” توضيحاً كافياَ بهذا الشأن: حيث قامت حكومة الولايات المتحدة منذ 1961 حتى 1971 برش 73 مليون لتر من الأسلحة الكيماوية لتدمير الغطاء النباتي في فيتنام. وتم استخدام العامل البرتقالي، وهو أفظع الأسلحة الكيميائية في ذلك الوقت، في معظم الحزام الزراعي في فيتنام.

 ولم تعمل هذه الحرب على قتل الملايين فقط، بل تركت فيتنام الاشتراكية أمام إرث عسير: عشرات الآلاف من الأطفال الذين ولدوا بمشاكل خطيرة (السنسنة المشقوقة، والشلل الدماغي)، والملايين من الأراضي الزراعية الجيدة التي أصبحت سامة بفعل هذه الأسلحة. استمر الخراب الطبي والزراعي لأكثر من خمسة أجيال، وكافة المؤشرات تدل على أنه سيستمر لأجيال إضافية أخرى. لقد كان على الاشتراكيين الفيتناميين بناء بلادهم ليس بالاستناد إلى نموذج نصي للاشتراكية، وإنما من خلال مواجهة الأمراض والعلل التي أصابت بلادهم بفعل الإمبريالية، لقد كان على طريقهم الاشتراكي أن يمر عبر الواقع الرهيب الذي كان خاصاً بتاريخهم وواقعهم.

يوضح ملفنا أن العديد من الماركسيين في العالم المستعمر لم يقرؤوا ماركس أبداً، لقد قرؤوا عن الماركسية في العديد من الكتيبات الرخيصة، وصادفوا لينين بطريقة مشابهة أيضاَ، حيث كانت الكتب باهظة الثمن، وكان من الصعب الحصول عليها في كثير من الأحيان. لقد جاء أشخاص أمثال كارلوس بالينو من كوبا (1848-1926) وجوزي بالمر من جنوب إفريقيا (1903-1979) من خلفيات متواضعة مصحوبة بفرص ضئيلة للتعرض للتقاليد الفكرية والإرث الثقافي الذي انبثق عنه نقد ماركس؛ ومع ذلك فقد فهم هؤلاء جوهر الماركسية من خلال نضالاتهم وقراءاتهم وتجاربهم الخاصة، لقد قاموا ببناء نظريات ملائمة لسياقهم وواقعهم.

مازالت الدراسة الملتزمة تشكل ركيزة أساسية لحركاتنا وآمالنا ببناء مستقبل أفضل. ولهذا السبب يشارك معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية في 21 فبراير من كل عام في يوم الكتب الحمراء. توجه أكثر من 60 ألف شخص العام الماضي إلى الأماكن العامة لقراءة البيان الشيوعي في الذكرى 172 لنشره في 21 فبراير 1848. وفي الغالب ستنفذ الأنشطة هذا العالم بشكل إلكتروني نظراً لظروف الجائحة. نشجعكم في هذه المناسبة أن تبحثوا عن دور نشر أو منظمات في منطقتكم، التي يمكن أن تنفذ أنشطة بمناسبة يوم الكتب الحمراء. ونرجو منكم في حال لم تتوفر أي أنشطة أن تقوموا بتنظيم أنشطتكم الخاصة أو تستخدموا وسائل التواصل الاجتماعي للحديث عن كتبكم الحمراء المفضلة، وماذا تعني لنضالكم. نأمل أن تصبح يوما الكتب الحمراء مركزية في تقويمنا النضالي، مثلها مثل الأول من أيار.

كان هوشي منه، الذي يعني اسمه “المستنير”، غالباً ما يصادف ومعه علبة سجائره من نوع “لاكيسترايك” وكتاب في متناول اليد. لقد أحب القراءة والنقاش، وقد ساعد كلاهما في تطوير فهمه لهذا العالم المتحرك. ما هو الكتاب الأحمر الذي يقع بجانبك في الوقت الذي تقرأ فيه هذه المراسلة؟ وهل ستشاركنا في يوم الكتب الحمراء وتضيف مراسلتنا هذه إلى قائمة الكتب الحمراء الخاصة بك؟.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة