معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 25 نيسان/ أبريل 2022
فيجاي براشاد*
من الصعب فهم غياهب عصرنا، بما فيها الحروب المروعة والمعلومات المربكة التي تنتشر بسرعة دون أن تحمل أي قدر من الحكمة. ومن السهل الوصول إلى المعلومات المربكة التي تفيض بها الفضاءات الإلكترونية والإنترنت، لكن ينبغي السؤال عما إذا كانت مستمدة من تقييم صادق للحرب في أوكرانيا والعقوبات الموجهة ضد البنوك الروسية (التي هي جزء من سياسة العقوبات الأوسع نطاقاً التي تشنها الولايات المتحدة، وتعاني منها الآن ما يقرب من ثلاثين دولة)؟ هل يقرّون بحقيقة الجوع المرّوعة التي ازدادت بفعل هذه الحرب والعقوبات؟.
يبدو أن جزءاً كبيراً من “اليقينيات” مازال عالقاً في “عقلية الحرب الباردة” التي ترى الإنسانية منقسمة على نحو لا رجعة فيه إلى جانبين متعارضين. غير أن الأمر ليس كذلك؛ إذ تكافح معظم الدول لابتداع نهج عدم الانحياز تجاه “الحرب الباردة الجديدة” التي فرضتها الولايات المتحدة. إن الصراع الروسي الأوكراني هو أحد أعراض المعارك الجيوسياسية واسعة النطاق التي نشبت على مدى عقود من الزمان.
حدّد الرئيس الأمريكي جو بايدن في السادس والعشرين من مارس/آذار بعض اليقينيات من وجهة نظره في القلعة الملكية في وارسو (بولندا)، واصفاً الحرب في أوكرانيا بأنها “معركة بين الديمقراطية والاستبداد، بين الحرية والقمع، وبين نظام قائم على القانون ونظام تحكمه القوة الغاشمة”. هذه الثنائيات بأكملها فانتازيا من البيت الأبيض، إذ إنّ موقفه تجاه “النظام القائم على القانون” ليست له علاقة بميثاق الأمم المتحدة، وإنما بـ”القوانين” التي تعلنها الولايات المتحدة.
لقد تُوجت تناقضات بايدن بهدف سياسي واحد حين قال: “بحق الله، لا يمكن لهذا الرجل البقاء في السلطة”، قاصداً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لقد أدى ضيق نهج بايدن في التعامل مع الصراع في أوكرانيا إلى دعوة عامة لتغيير النظام في روسيا، تلك الدولة التي يبلغ عدد سكانها 146 مليون نسمة، وتمتلك حكومتها 6255 رأساً نووياً. في ظل التاريخ العنيف الذي تحفل به الولايات المتحدة في السيطرة على قيادة العديد من البلدان، لا يمكن تجاهل التصريحات المتهورة حول تغيير الأنظمة؛ ينبغي أن تتم معارضتها عالمياً.
إن المحور الرئيسي للحرب الروسية ليس في الواقع أوكرانيا، رغم أنها تتحمل الوطأة الكبرى اليوم، بل يدور حول ما إذا كان ممكناً لأوروبا إقامة مشاريع مستقلة عن الولايات المتحدة وأجندتها في شمال الأطلسي. في الفترة الواقعة ما بين سقوط الاتحاد السوفييتي (1991) والأزمة المالية العالمية (2007-2008)، سعت روسيا وجمهوريات ما بعد الاتحاد السوفييتي الجديدة (بما فيها أوكرانيا) ودول أوروبا الشرقية الأخرى إلى الاندماج في النظام الأوروبي، بما في ذلك منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). وانضمت روسيا إلى عملية الشراكة من أجل السلام التابعة لحلف الناتو عام 1994، كما التحقت سبع دول من أوروبا الشرقية (منها استونيا ولاتفيا المتاخمتان لروسيا) إلى حلف الناتو عام 2004. واتضح من خلال الأزمة المالية العالمية أن الاندماج في المشروع الأوروبي لن يكون ممكناً بالكامل بسبب مواطن الضعف في أوروبا.
تحدى الرئيس فلاديمير بوتين خلال مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير/شباط 2007 محاولة الولايات المتحدة إنشاء عالم أحادي القطب. تساءل بوتين حينها قائلاً: “ما هو عالم القطب الواحد؟”، مجيبا: “بغض النظر عن كيفية تجميل هذا المصطلح فهذا يعني مركزاً واحداً للسلطة ومركزاً واحداً للقوة وسيداً واحداً”. وفي إشارة إلى انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة مناهضة الصواريخ البالستية لعام 2002 (التي انتقدها في ذلك الوقت)، والحرب الأمريكية غير المشروعة على العراق عام 2003، أضاف بوتين: “لا أحد يشعر بالأمان بعد الآن لأنه ما من أحد يستطيع الاختباء خلف القانون الدولي”.
وحذّر بوتين لاحقاً في قمة الناتو لعام 2008 في بوخارست (رومانيا) من مخاطر توسع حلف الناتو شرقا، إذ مارس ضغوطاً تجاه دخول كل من جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف العسكري. وفي السنة التالية، أقامت روسيا شراكة مع البرازيل والصين والهند وجنوب إفريقيا لتشكيل مجموعة دول “البريكس” (BRICS) كبديل للعولمة التي يقودها الغرب.
اعتمدت أوروبا ولأجيالٍ عدة على واردات الغاز الطبيعي والنفط الخام من الاتحاد السوفياتي، ومن ثم من روسيا. وقد زاد هذا الاعتماد مع سعي الدول الأوروبية إلى إنهاء استخدام الفحم والطاقة النووية. في الوقت نفسه، وقّعت كل من بولندا (2015) وإيطاليا (2019) على مبادرة الحزام والطريق التي تقودها الصين (BRI). لقد شكلت الحكومة الصينية بين عامي 2012 و2019 مبادرة التعاون مع دول وسط وشرق أوروبا المعروفة بمبادرة تعاون 17+1، التي تربط سبعة عشر بلداً من أوروبا الوسطى والشرقية بمشروع مبادرة الحزام والطريق. كما فتح اندماج أوروبا بأوراسيا الباب لاستقلال سياستها الخارجية، لكن لم يكن مسموحاً بذلك. إن خدعة “الناتو العالمي” بأكملها التي وضعها الأمين العام لحلف شمال الأطلسي عام 2008 جاب دي هو شيفر قد كانت جزءاً من منع هذا التطور.
إن خوف الولايات المتحدة من التغييرات الكبيرة التي تحدث في أوراسيا دفعها إلى التحرك على الجبهات التجارية والدبلوماسية/العسكرية؛ لقد حاولت من الناحية التجارية استبدال الاعتماد الأوروبي على الغاز الطبيعي الروسي من خلال الوعد بتزويد أوروبا بالغاز الطبيعي المسال (LNG) من الموردين الأمريكيين ومن دول الخليج العربي. ونظراً لأن الغاز الطبيعي المسال أغلى بكثير من الغاز عبر الأنابيب، لم تكن هذه الصفقة التجارية مغرية. كما أنه لا يمكن لشركات وادي السيليكون الاستمرار في مواجهة التحديات التي تواجه التقدم الصيني في مجال التكنولوجيا الفائقة – لاسيّما في مجال الاتصالات والروبوتات والطاقة الخضراء – وهو ما أدى إلى تصعيد الولايات المتحدة أداتين من أدوات القوة الأخرى: أولاً استخدام خطاب الحرب على الإرهاب لحظر الشركات الصينية (بسبب مزاعم اعتبارات الأمن والخصوصية)، وثانياً المناورات الدبلوماسية والعسكرية لتحدي الشعور الروسي بالاستقرار.
لم تكن إستراتيجية الولايات المتحدة ناجحةً بالكامل، إذ تسنت للبلدان الأوروبية رؤية أنه ما من بديل فعال لكل من الطاقة الروسية والاستثمار الصيني. إن حظر أدوات شركة هواوي للاتصالات ومنع تراخيص خط أنابيب بحر البلطيق نورد ستريم 2 لن يؤدي إلا إلى إلحاق الضرر بالشعوب الأوروبية. كان هذا واضحاً، بينما لم يكن واضحاً إلى هذا الحد أن الولايات المتحدة بدأت بشكل متزامن تفكيك الهيكل الذي كان يثبت الثقة في عدم قيام أي دولة ببدء حرب نووية. فقد تخلّت الولايات المتحدة عام 2002 من جانب واحد عن معاهدة مناهضة الصواريخ البالستية، كما انسحبت خلال عامي 2018-2019 من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى (INF). لقد لعبت الدول الأوروبية دوراً رئيسياً في تأسيس معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى عام 1987 من خلال حركة “تجميد النشاط النووي”، لكن تخلي الولايات المتحدة عن المعاهدة في عامي 2018-2019 قوبل بصمت نسبي من الأوروبيين. لقد تحولت إستراتيجية الأمن القومي في الولايات المتحدة عام 2018 من تركيزها على الحرب العالمية ضد الإرهاب إلى منع عودة ظهور المنافسة الإستراتيجية الطويلة الأجل “من المنافسين القريبين من الأقران” كالصين وروسيا.
وقد بدأت الدول الأوروبية في الوقت نفسه الانضمام إلى تدريبات “حرية الملاحة” من خلال الناتو في بحر البلطيق والبحر المتجمد الشمالي وبحر الصين الجنوبي، باعثة بذلك رسائل تهديد إلى الصين وروسيا. لقد جعلت كل هذه التحركات الصين وروسيا قريبتين من بعضهما البعض.
أشارت روسيا في عدة مناسبات إلى أنها تدرك هذه التكتيكات، وستدافع عن حدودها ومنطقتها بالقوة؛ فعندما تدخلت الولايات المتحدة في سوريا عام 2012 وفي أوكرانيا عام 2014 هددت هذه التحركات روسيا بفقدان اثنين من موانئها الرئيسية للمياه الدافئة (وهما اللاذقية في سوريا وسيباستوبول في شبه جزيرة القرم). وهذا هو سبب تدخل روسيا لضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والتدخل عسكرياً في سوريا عام 2015. تشير هذه التدخلات إلى أن روسيا ستواصل استخدام جيشها لحماية ما تعتبرها مصالحها الوطنية. وأغلقت أوكرانيا قناة القرم الشمالية التي جلبت لشبه الجزيرة 85 في المائة من مياهها، ما أجبر روسيا على إمداد المنطقة بالمياه عبر جسر مضيق كيرتش، الذي بُني بتكلفة هائلة بين عامي 2016 و2019. ولم تكن روسيا في حاجة إلى “ضمانات أمنية” من أوكرانيا، أو حتى من الناتو، وإنما من الولايات المتحدة. كان هناك خوف في موسكو من أن الولايات المتحدة ستضع صواريخ نووية متوسطة المدى حول روسيا.
إن التناقضات تغلب على ردود فعل دول كألمانيا واليابان والهند. في ظل كل هذه الأحداث التاريخية القريبة تحتاج كل من هذه البلدان إلى الغاز الطبيعي والنفط الخام الروسي. وقد فرضت كل من ألمانيا واليابان عقوبات على البنوك الروسية، لكن لم يستطع المستشار الألماني أولاف شولتز ولا رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا خفض واردات الطاقة. ورفضت الهند، على الرغم من كونها جزءاً من الرباعية المدعومة من الولايات المتحدة إلى جانب اليابان، إدانة روسيا؛ وبالتالي يتعين على هذه البلدان إدارة تناقضات عصرنا وتقدير أوجه عدم اليقين. لا ينبغي لأي دولة أن تقبل ما تسمى “اليقينيات” التي تعزز ديناميكيات الحرب الباردة، كما لا ينبغي لها أن تتجاهل النتائج الخطيرة لتغيير النظام المتأثر بالمؤثرات الخارجية والفوضى.
من الجيد دوماً أن نتأمل السحر الهادئ لقصائد توج سانكيتشي، وهو الذي شاهد القنبلة الذرية تسقط على بلده هيروشيما عام 1945، وانضم لاحقاً إلى الحزب الشيوعي الياباني ليقاتل من أجل السلام. لقد كتب سانكيتشي في قصيدته “نداء للعمل”:
ابسط هاتين الذراعين المشوهتين
إلى العديد من الأذرع المشابهة
وإذا بدا أن هذا الوميض سيسقط ثانية
ارفع الشمس الملعونة:
فحتى الآن لم يفت الآوان.
* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 07 نيسان/ أبريل 2022