لا نريد كوكبا مقسّماً بل عالما بلا جدران (عدد 15. 2022)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 26 نيسان/ أبريل 2022

فيجاي براشاد*

إيفير فونسيكا (كوبا)، “تحية للسلام”، 1970

في وقت كانت تقود الولايات المتحدة حربها غير الشرعية على العراق عام 2003، تحدث الرئيس الكوبي فيدل كاسترو في بوينس آيرس بالأرجنتين، حيث قال: “بلادنا لا ترمي الشعوب الأخرى بالقنابل، ولا ترسل آلاف الطائرات لقصف المدن… لقد تم ترسيخ فكرة إنقاذ الأرواح لدى عشرات الآلاف من العلماء والأطباء في بلادنا”. بطبيعة الحال، كان لدى كوبا جيش، لكن لم يكن جيش حرب، وسماه كاسترو “جيش الوزرات البيضاء”. لقد شهدت الآونة الأخيرة عمل لواء هنري ريفي الكوبي، المكون من مجموعة من الممارسين في القطاع الصحي، بنكران ذات في جميع بقاع العالم بقصد المساعدة في وقف موجة جائحة كورونا.

يذكرنا كاسترو بأن هناك سبيلين للعيش في هذا العالم، فإما أن نعيش في عالم مليء بالحروب والأسلحة، وهو عالم يعيش على وقع الترهيب ومستعد بشكل مستمر للقتال، أو أن نعيش في عالم مليء بالمعلمين والأطباء والعلماء والأخصائيين الاجتماعيين ورواة القصص والمغنين. إن هذا الوضع يؤكد لنا أن بإمكاننا أن نضع ثقتنا في الأشخاص الذين يساعدوننا على خلق عالم أفضل من الذي نعيش فيه اليوم، يعتبر بديلاً للبؤس الذي نعيشه، الناجم عن الحرب والركض وراء الربح، ما يهدد بسحق كل شيء قابل للحياة.

ونحن نطلع على الوضع الحالي، ينبض جسدنا مخافة سقوط جدار حديدي آخر، مع ضغوط من أجل عزل الصين وروسيا بقصد تقسيم العالم إلى معسكرات. لكن ذلك يبقى مستحيلا، لأننا – مثلما ورد في مراسلة الأسبوع الماضي – نعيش على وقع عقدة من التناقضات، وليس في عالم يتميز باليقين. ولعل أبرز مثال على ذلك أنه حتى الحلفاء المقربين للولايات المتحدة، مثل أستراليا وألمانيا واليابان والهند، لا يمكنهم قطع علاقاتهم الاقتصادية والسياسية مع روسيا والصين؛ فذلك سيؤدي إلى إغراقهم في ركود اقتصادي، ما قد يؤدي بدوره إلى نوع من الفوضى الاقتصادية، تلك الفوضى جلبتها الحرب والعقوبات بالفعل إلى هندوراس وباكستان وبيرو وسريلانكا. ففي هذه البلدان التي ذكرناها – التي حطمها صندوق النقد الدولي بفعل جشع النخب والسفارات الأجنبية – أدى ارتفاع أسعار الوقود إلى تحويل الأزمة الاقتصادية إلى أزمة سياسية.

سيرجي جرينفيتش (بيلاروسيا)، دبابة، 2013.

إن المآل الأخير للحروب هو إما تدمير المؤسسات السياسية للدولة وقدرتها الاجتماعية أو وقف إطلاق نار والبدء في مفاوضات. لقد انتهت الحرب التي قادتها منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) على ليبيا عام 2011 بتعثر البلاد، إلى جانب رائحة المتفجرات التي ملأت الأجواء، ونظام اجتماعي محطم، ما يدفعنا إلى التأكيد على أنه لا ينبغي أن يتكرر مصير ليبيا في أي مكان، وبالتأكيد ليس في أوكرانيا. لكن هذا المصير يبقى للأسف محسوما لشعوب أفغانستان والصومال واليمن، أولئك الذين خنقتهم الحروب التي أشعلها الغرب – حروب سلحها الغرب وربح من ورائها.

في لحظة بروز روسيا المعاصرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، قاد بوريس يلتسين انقلاباً ضد البرلمان الروسي، حيث كانت الدبابات مشتعلة. من هم في أعلى هرم السلطة الروسية حالياً في روسيا يعملون في ضوء هذه البدايات العنيفة وتجارب الدول الأخرى المنكوبة بالحرب، ولهذا فلن يسمحوا لأنفسهم بأن يعانوا نفس مصير ليبيا أو اليمن أو أفغانستان.

تجري في الوقت الحالي المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا في منطقة غوميل في بيلاروسيا، لكن يجب أن يتم تعزيز الثقة بين الطرفين قبل أن يصبح وقف إطلاق النار احتمالاً حقيقياً. كما لا يجب أن ينطبق أي وقف لإطلاق النار حصراً على الحرب داخل أوكرانيا – وهو أمر حتمي – لكن يجب أن يشمل أيضاً وقف حملة الضغط الأوسع التي تفرضها الولايات المتحدة على جميع أنحاء أوراسيا.

 

في ماذا تت

سفيتلانا روماك (روسيا)، حقول خضراء غير منتهية، 2017.

مثل حملة الضغط تلك، ولماذا تكلف عناء الحديث عنها الآن؟ ألا يجب أن نقول فقط خروج روسيا من أوكرانيا؟ إن مثل هذا الشعار، رغم صحته، لا يعالج المشاكل الأعمق التي أدت في المقام الأول إلى اندلاع هذه الحرب.

عندما انهار الاتحاد السوفياتي، استخدمت الدول الغربية مواردها وقوتها عبر بوريس يلتسين (1991-1999) ثم فلاديمير بوتين (من 1999)، فقد أقدم الغرب كخطوة أولى على إفقار الشعب الروسي من خلال تدمير الشبكة الاجتماعية للبلاد، والسماح للنخبة الروسية بالتهام الثروة الاجتماعية، ثم جذبوا بعد ذلك المليارديرات الروس الجدد ليستثمروا في العولمة التي يقودها الغرب (بما في ذلك فرق كرة القدم الإنجليزية). لقد دعم الغرب حرب يلتسين الدموية في الشيشان (1994-1996)، ثم حرب بوتين في المنطقة نفسها (1999-2000)، كما وقع رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير (1997-2007) على مخصصات لروسيا بقصد شراء أسلحة بريطانية، ما جعل بوتين يرحب بذلك في لندن عام 2000 قائلا: “أريد أن تعمل روسيا والغرب معا لتعزيز الاستقرار والسلام”.

 عام 2001، وصف الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش النظر في عيني بوتين والاطلاع على رؤيته بأنه “مباشر وجدير بالثقة”، وفي العام نفسه شجع توماس فريدمان من صحيفة نيويورك تايمز القراء على “الحفاظ على دعم بوتين”. لقد كان الغرب وراء مساعدة طبقة المليارديرات الروس في الاستيلاء على الدولة والانقضاض على المجتمع الروسي.

وبمجرد أن قررت الحكومة الروسية أن الاندماج والانخراط مع أوروبا والولايات المتحدة أمر غير ممكن، بدأ الغرب في تصوير بوتين على أنه شيطاني، وهو ما يجعله فيلما مكررا: صدام حسين كان بطلاً عظيما بالنسبة للولايات المتحدة قبل أن يتحول إلى شريرها، والأمر نفسه حدث مع القائد العسكري السابق في بنما مانويل أنطونيو نورييغا. إن المخاطر الآن أكبر بشكل غير متوقع.

شاكر حسن السعيد (العراق)، الضحايا، 1957.

في خضم اللحظة الحالية وفي تفاصيلها تكمن الديناميات التي قدمناها في مراسلتنا العاشرة لهذا العام. فقد ألحقت الولايات المتحدة أضرارا أحادية بالهيكل الدولي القادر على الحد من التسلح، إذ انسحبت من معاهدة مضادات الصواريخ الباليستية (2001) ومعاهدة القدرات النووية متوسطة المدى (INF) (2018)، وبالتالي استولت على سياسة الردع. وفي ديسمبر 2018، دفعت الولايات المتحدة حلفاءها إلى منع الجمعية العامة للأمم المتحدة، بفارق ضئيل، من إصدار قرار للدفاع عن معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى. هذه الاعتبارات دفعت روسيا وبوتين إلى الحديث عن الحاجة إلى ضمانات أمنية، ليس من أوكرانيا أو حتى من حلف شمال الأطلسي – وهو حصان طروادة منتفخ لطموحات واشنطن – بل إلى ضمانات أمنية مباشرة من الولايات المتحدة.

لماذا كل ذلك؟ لأن حكومة الولايات المتحدة أعلنت عام 2018 عن تحول في سياستها من خلال الإشارة إلى أنها ستزيد من تنافسها مع الصين وروسيا. كما أثارت التدريبات البحرية التي يقودها الناتو بالقرب من البلدين مخاوف روسيا بشأن أمنها.

إن عدوانية الولايات المتحدة مكرسة في إستراتيجية الدفاع الوطني لعام 2022، إذ تؤكد أنها “مستعدة للانخراط في الصراع عند الضرورة، مع إعطاء الأولوية لتحدي [الصين] في المحيطين الهندي والهادئ، ثم التحدي الروسي في أوروبا”. إن العبارة الأساسية هي أن الولايات المتحدة مستعدة للانخراط في الصراع. إن الموقف الكامل للسيطرة والهزيمة هو موقف ضد الإنسانية. يجب أن تنتهي حملة الضغط التي تفرضها الولايات المتحدة حول أوراسيا.

أبيل رودريغيز (كولومبيا)، أرض الأساطير، 2017.

لا نريد عالما منقسما، بل عالمًا واقعيًا: عالما تسود فيه الإنسانية، بحيث يتعامل بشكل مناسب مع كارثة المناخ، عالما يضع نصب عينيه القضاء على الجوع والأمية، عالما يعمل على إخراجنا من اليأس إلى الأمل، وعالما به جيوش الوزرات البيضاء أكثر من جيوش البنادق.

إننا في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي نعمل على إسماع حياة وأصوات الأشخاص الذين يبنون عالما من الأمل ضد الخوف، وعالما من الحب ضد الكراهية، ومنهم نيلا مارتينيز إسبينوزا (1912-2004)، وهي محور الدراسة الثالثة في سلسلة “نساء النضال، نساء في الكفاح”. كانت نيلا، كما نسميها، شخصية بارزة في الحزب الشيوعي الإكوادوري، وإحدى بانيات المؤسسات والمنظمات التي عززت ثقة الجماهير. وشملت هذه المنظمات الجبهات المناهضة للفاشية والاتحادات النسائية ودعم حقوق الإكوادوريين الأصليين، ومنصات الدفاع عن الثورة الكوبية. وفي عام 1944، خلال ثورة مايو/ أيار المجيدة، قادت نيلا الحكومة لفترة وجيزة؛ كما عملت طوال حياتها بلا كلل من أجل بناء الأسس لعالم أفضل.

من خلال دورها كرئيسة للجبهة القارية للمرأة من أجل السلام وضد التدخل، ناضلت نيلا عام 2000 ضد إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية في مدينة مانتا، معبرة عن أن هذا الأمر هو “عودة للاستعمار.. كيف سنهرب من هذا الاستعمار؟ كيف نبرر أنفسنا في مواجهة جبننا؟”.

إن هذا السؤال الأخير يثقل كاهلنا، فنحن لا نريد أن نعيش في عالم منقسم. يجب أن نتحرك لمنع الجدار الحديدي من الاكتمال، يجب أن نحارب خوفنا، ويجب أن نناضل من أجل عالم بلا جدران.

* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 14 نيسان/ أبريل 2022.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة