كبرى منصات الإعلام الغربي تسند الاحتلال الإسرائيلي في التنصل من جريمة اغتيال أبو عاقلة

مشاركة المقال

مدار: 18 أيار/ مايو 2022

كان العالم شاهدا على جريمة اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة يوم 11 مايو/ أيار 2022، أثناء قيامها بواجبها في تغطية اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلية مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، وأبانت الصور والمعطيات وشهادات زملائها الصحافيين الحاضرين في المكان، بالإضافة إلى التحقيقات الإعلامية والحقوقية التي تم إجراؤها، أن قوات الاحتلال هي التي ارتكبت هذا الفعل، الذي يصنف بموجب القانون الدولي “جريمة حرب”.

كانت شيرين أبو عاقلة، التي سكنت قلوب وبيوت شعوب المنطقة العربية والمغاربية لعقود من الزمان، ترتدي بزة تبين بما لا يدع مجالا للشك أنها صحافية، ومع ذلك هاجمتها قوات الاحتلال الصهيوني بالرصاص الحي إلى جانب العديد من زملائها، وبالإضافة إلى استشهادها، أصيب زميلها علي الصمودي برصاصة في الظهر، وبين شريط يوثق للحدث التجربة الفظيعة التي عاشها هؤلاء الصحافيون، ووابل الرصاص يصب على رؤوسهم.

كانت الحقيقة واضحة، لكن فقط لمن لهم البوصلة الصحيحة، التي تحترم أخلاقيات مهنة الصحافة، وتحترم المشاهدين والقراء، إذ أعادت الأحداث إماطة اللثام عن حجم انحياز الإعلام الغربي لإسرائيل ورواياتها الكاذبة.

بين “روبين غايس”، وهو خبير قانوني في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، كيف يتمتع الصحافيون بحكم وضعهم كمدنيين بحماية القانون الدولي الإنساني من الهجمات المباشرة أثناء النزاعات المسلحة، ويستثنى من ذلك المشاركون بصفة مباشرة في “الأعمال العدائية”؛ وهكذا “تشكل أي مخالفة لهذه القاعدة انتهاكاً خطيرا لاتفاقيات جنيف وبروتوكولها الإضافي الأول؛ فضلاً عن أن التعمد في توجيه هجوم مباشر ضد شخص مدني يرقى إلى ‘جريمة حرب’ بمقتضى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”، وفق ما جاء في مقابلة منشورة على الموقع الرسمي للجنة الدولية للصليب الأحمر تعود إلى سنة 2010. ورغم أن تعريف هكذا أحداث محدد بدقة ووضوح، ومنذ مدة بعيدة، فهل امتلك الإعلام الغربي الجرأة لتسمية الأمور بمسمياتها؟.

تقفى “مدار” مسار بعض التغطيات الصحافية، فتبيّن بالملموس أن المؤسسات الإعلامية الغربية أبعد بكثير من “الحياد” و”الموضوعية” المفترى عليهما.

وفي هذا السياق، توجه الصحافي “بيت بريكر” في منصة “بريك ثرو نيوز” التي تربطها علاقات وثيقة بموقع “مدار” إلى أمام مقر صحيفة “نيويورك تايمز”، يوم 16 ماي 2022، حيث التأمت أعداد كبيرة من مناصري القضية الفلسطينية، ورفعوا شعارات مناوئة لتغطية الجريدة لوقائع الجريمة. وكانت التظاهرة الاحتجاجية فرصة من أجل التنديد بازدواجية معايير الإعلام الغربي في تغطية الوقائع في فلسطين، وليس الـ “نيويورك تايمز” فقط.

هتف المتظاهرون بصوت واحد: “شيرين كانت صحافية، تم قتلها من طرف إرهابيين”؛ كانت الأمور بالنسبة لهم واضحة ودقيقة، ولهذا السبب توجهوا إلى مقر الصحيفة لتذكيرها بهذه الحقيقة، وليذكروا الصحفيين بأن مهنة الصحافة يجب أن تقف إلى جانب الحقيقة وليس روايات الكيان المحتل.

مباشرة بعد اغتيال شيرين، عنونت “نيويورك تايمز ” خبرها كالتالي: “وفاة الصحفية الرائدة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة عن 51 عاما –  shireen Abu Akleh, Trailblazing Palestinian Journalist, Dies at 51”. هكذا رأت الجريدة “المرموقة” أن الأمر يتعلق بـ “وفاة” وليس “اغتيال” أو “قتل” أو “إعدام”، بالنسبة لها الأمر يقتصر فقط على “وفاة”. كما احتاجت الجريدة لما يناهز ثلاث ساعات لتغيّر عنوان الخبر، وتقول إن الأمر يتعلق بـ”قتل”، دون أن تحدد “القاتل”.

لا ينتظر غالبية القراء من “نيويورك تايمز” أن تسمي ما حدث لشيرين أبو عاقلة “جريمة حرب”، لكن الإجابة عن الأسئلة الأساسية للخبر الصحافي تبقى حاجة لا يمكن التنازل عنها؛ غير أنه حين يتعلق الأمر بالجرائم التي يرتكبها الكيان المحتل لا حرج أن تسقط المنصات الإعلامية الغربية الكثير من الأسئلة وليس واحدة فقط (من قَتَلَ؟)، بل وستسارع إلى إعادة توزيع روايات الجلاد، ولن تتردد في غض الطرف عما أصاب الضحية.

وبينت الكاتبة والمدونة “عبير قبطي”، في مقال لها عن “كيفية نشر الإعلام الغربي الدعاية الإسرائيلية“، أنه “حتى عندما لم يعد بإمكان وسائل الإعلام الغربية تجنب فضح أكاذيب إسرائيل، فقد تضيف بضعة أسطر إلى قصصها هنا وهناك، ولكن عندما تكون سلامة هذه القصص أمرا حاسما حقا، في الساعات التي تلي مباشرة هذه الأنواع من الأحداث، فإن المراسلين عادة يتمسكون بالدعاية الإسرائيلية، وهذا بدوره يبقى عالقا في أذهان القراء والمشاهدين”.

في واقع الأمر، إن هكذا تعامل مع تغطية الأحداث في فلسطين يمتد لعقود طويلة، على عكس ما يحدث مثلا في أوكرانيا، إذ لن تتردد الصحافة الغربية في توجيه أصابع الاتهام إلى القوات الروسية في حادث مقتل صحفي في الأراضي الأوكرانية، ولن تنتظر نتائج “التحقيق” أو “التيقن من المعطيات”، لماذا؟ لأن ذلك ينسجم مع دعاية البيت الأبيض وحلفائه، فما الذي سيدفعها لنهج أسلوب مختلف تجاه القضية الفلسطينية والعالم يعرف أن إسرائيل ترتكب فظاعات في حق الشعب الفلسطيني بضوء أخضر من الولايات المتحدة والقوى الغربية؟.

ورصد الكاتب والصحافي “مارك أوين جونس” في سلسلة من التغريدات على منصة “تويتر” ازدواجية معايير صحيفة “الغارديان” البريطانية، وكشف الفارق الكبير في التعامل بين قضية شيرين أبو عاقلة في فلسطين و”برينت ريوود” في أوكرانيا.

إن “ازدواجية في المعايير تفضح تواطؤ وسائل الإعلام الغربية في التستر على الجرائم الإسرائيلية”، تضيف عبير قبطي.

ولا يقتصر الأمر على الصحف الغربية الكبرى، بل يشمل أيضا وكالات أنباء عالمية، تلعب أدوارا حاسمة في توفير المادة الخبرية لآلاف المنابر الإعلامية في العالم وصناعة الرأي العام العالمي.

وفي هذا السياق، أوردت وكالة “أسوشيتد برس” للأنباء نبأ اغتيال شيرين كالتالي: “قالت وزارة الصحة الفلسطينية إن الصحافية شيرين أبو عاقلة قتلت برصاصة في الضفة الغربية المحتلة. ووقع إطلاق النار خلال مداهمة للجيش الإسرائيلي في جنين”.

الوكالة المذكورة لم تتكبد عناء تحديد الجهة التي أطلقت الرصاصة التي قتلت شيرين، ورؤساء تحرير الوكالة يعرفون جيدا أن الرصاصة لم تنطلق من تلقاء نفسها، من “اللامكان” لتصيب شيرين في رأسها، تحديدا تحت الأذن، بين المنطقة الصغيرة المكشوفة من جسمها، إذ كانت ترتدي سترة واقية وخوذة، وما بدا واضحا أن “أسوشيتد برس” أرادت أن تغض الطرف عن مطلق النار، أي القوات الإسرائيلية، وهكذا سارعت إلى نقل الرواية الإسرائيلية دون أن تتكبد عناء التحدث إلى الصحافيين الذين كانوا شاهدين على الجريمة.

قبل سنة تقريبا من الآن كان على وكالة الأنباء نفسها أن تراقب برج الجلاء الذي كان يضم مقرها في قطاع غزة، وهو يتهاوى إثر ضربة جوية إسرائيلية. وكانت البناية مقرا للعديد من المنابر الإعلامية الأخرى.

عقب ذلك، أعربت “أسوشيتد برس” عن “صدمتها وارتعابها”، وقال مديرها التنفيذي غاري برويت في بيان: “لقد تفادينا بصعوبة خسائر فادحة في الأرواح، والعالم سيكون أقل اطِّلاعاً على ما يحدث في غزة بسبب ما جرى اليوم”.

منذ الانتفاضة الفلسطينية لسنة 2000، قتلت قوات الاحتلال الصهيوني 55 صحافيا فلسطينيا خلال قيامهم بعملهم الصحافي، كما يوجد في سجون الاحتلال 16 صحافيا حسب نادي الأسير الفلسطيني، وهكذا يتضح أن استهداف إسرائيل للصحافيين يهدف إلى إبقاء العالم “أقل اطّلاعا” على الوقائع في فلسطين؛ أما الإعلام الغربي فيهدف إلى إبقاء العالم مطلعا على الرواية الإسرائيلية فقط، أي رواية الجلاد.

يحاجج الكثير من الأكاديميين والإعلاميين بأن وسائل الإعلام يجب أن تكون “محايدة”، غير أن الواقع يكشف أن هذا الحياد لا وجود له. إن المنصات الإعلامية الكبرى، والغربية على وجه الخصوص، تحاول باستمرار إخفاء انحيازها للكيان الصهيوني والقوى الغربية في مشاريعها الكبرى، والحفاظ على سيطرتها وتفوقها حتى وإن كان الأمر على حساب حياة الصحافيين.

لكن ليست كل المنابر الإعلامية تحاول إخفاء انحيازها، ما يهم هو أن تحدد لأي جهة هي منحازة، الضحية أم الجلاد، الظالم أم المظلوم؟.

واعتبرت أكثر من 30 منصة إعلامية من مختلف أرجاء العالم، في بيان تنديدي باغتيال شيرين، أن “التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين ووسائل الإعلام الكبرى التي تحاول إبعاد مسؤولية مقتلها عن القوات الإسرائيلية هي تصريحات غير مسؤولة؛ علاوة على ذلك فإن مقتلها ليس حالة شاذة أو عرضية، فعلى مدى السنوات العديدة الماضية استُهدف الصحافيون الفلسطينيون مرارًا وتكرارًا من قبل إسرائيل، وعانوا من المضايقات القضائية والعنف على أيدي القوات الإسرائيلية”.

المنابر الإعلامية الموقعة على البيان ذاته، ومن بينها “مدار”، “بيبلز ديسباتش”، “الميادين”، “تيلي سور”.. وغيرها، صرحت بانحيازها، وقالت بوضوح: “إننا نقف إلى جانب الشعب الفلسطيني الذي يواصل مقاومة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي العنيف والصحافيين الشجعان الذين يعرضون حياتهم للخطر لإخبار قصصهم”.

من أجل قراءة نص البيان كاملا: [بيان] يجب أن توقف إسرائيل قتل الصحافيين والشعب الفلسطيني

يقول رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي: “أنا متهم بالانحياز، وتلك تهمة لا أنفيها. أنا منحاز لمن هم ‘تحت’، لمن هم ضحايا التكذيب وأطنان التضليلات وصنوف القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات”.

كانت بوصلة ناجي العلي تعرف جيدا إلى أي جهة يجب أن تتجه، إلى “تحت”، إلى فلسطين وشعوب العالم والطبقات المضطهدة، وهكذا طالته أيادي الاغتيال كما طالت شيرين، وغسان كنفاني وقوافل من الصحافيين الملتزمين.

إن قول الحقيقة هو أعمق تعبير عن الانحياز للقضايا العادلة.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة