مدار: 05 كانون الثاني/ يناير 2022
د. ماهر الشريف
دخلت الحركة الوطنية الفلسطينية مرحلة بات فيها الضغط الجماهيري ربما هو أداة إخراجها من مأزقها الراهن وحل معضلاتها. فبعد أن أخفقت جميع الحوارات الفوقية التي جرت بين طرفي الانقسام، أصبح التوصل إلى إنهاء الانقسام يحتاج إلى ضغط من تحت، كما أن مثل هذا الضغط ضروري لدفع القيادة الفلسطينية إلى تغيير نهجها والتحرر من أسر مسار أوسلو. ونظراً إلى أن تبلور الضغط الجماهيري يحتاج إلى رافعة قادرة على تعبئته؛ ونظراً إلى أن اليسار، المستند إلى القوى الديمقراطية وجميع الديمقراطيين، هو المؤهل كي يشكّل مثل هذه الرافعة، تصبح مهمة توحيد قوى اليسار حاجة موضوعية ومهمة ملحة.
بناءً على دعوة من الرفاق في هيئة تحرير مجلة “الهدف” للمساهمة في محور “أزمة توحيد اليسار الفلسطيني”، ضمن الملف الخاص الذي أعدته عن اليسار الفلسطيني، كتبت المقال أدناه الذي نُشر في عدد المجلة الصادر في مطلع كانون الثاني/يناير 2022:
“لم تعرف قوى اليسار الفلسطيني، عبر تاريخها، سوى تجربة توحيدية واحدة ناجحة، تمثّلت في تجربة التحالف الديمقراطي في ثمانينيات القرن العشرين، الذي اضطلع بدور بارز في تصويب مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، التي انقسمت على نفسها بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وفي استعادة وحدة هذه المنظمة، ما ساهم في توفير شروط اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى في أواخر سنة 1987، التي ساهمت القوى اليسارية الفلسطينية فيها بفاعلية وجمعها، إلى جانب حركة فتح، إطار القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة.
ولكن بعد التباين الذي برز بينها حول الموقف من اتفاق أوسلو، توزعت قوى اليسار الفلسطيني على تيارين: أراد أصحاب الأول منهما أن يعطوا فرصة لهذا الاتفاق ضمن شروط معينة، بينما عارضه بحزم ودعا إلى إسقاطه أصحاب التيار الثاني. بيد أنه لم تمضِ سوى سنوات قليلة حتى خاب الرهان على اتفاق أوسلو، و استؤنفت المساعي لتوحيد القوى اليسارية في الساحة الفلسطينية، وكان من أبرز المتحمسين لهذه الوحدة والمبادرين إليها الرفيق الشهيد أبو علي مصطفى والرفيق الراحل تيسير عاروري، حتى وصل عدد التجارب التوحيدية التي جرت إلى سبع، كان آخرها تجربة التجمع الديمقراطي الفلسطيني الذي أُعلن عن قيامه في كانون الأول/ديسمبر 2018 وضم إلى جانب الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب، الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا) وحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية؛ وهي تجربة لم تصمد سوى أشهر قليلة وأخفقت جراء الخلاف الذي نشأ بين أطراف التجمع حول مبدأ المشاركة في حكومة السلطة الفلسطينية التي ترأسها الدكتور محمد اشتية.
فما هي العوامل التي حالت وتحول دون تحقيق هذه الوحدة، وتتسبب في فشل المحاولات التوحيدية العديدة التي شهدناها ؟
أعتقد بداية، لدى الرد عن هذا السؤال، أنه لا يمكن فصل العجز عن تحقيق شكل من أشكال الوحدة عن أزمة الهوية التي تواجهها قوى اليسار، وتراجع دورها ونفوذها في إطار الحركة الوطنية وبين صفوف الشعب الفلسطيني. فإذا عدنا إلى تجربة التحالف الديمقراطي في الثمانينيات، نرى أن نجاح تلك التجربة كان يرجع ربما في جزء كبير منه إلى أن قوى اليسار الفلسطيني كانت آنذاك في حالة مد وليس في حالة جزر، واثقة من نفسها ومن مكانتها في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن علاقاتها التحالفية على الصعيدين العربي والدولي؛ ولذلك استطاعت من دون عناء شديد أن تتجاوز خلافاتها الثانوية ولم تدع مصالحها الفئوية الخاصة تطغى على مصلحة اليسار العامة.
بينما جرت جميع محاولات توحيد اليسار اللاحقة في ظل الأزمة التي صارت تواجهها قواه، والتي قد يتوجب عليها من أجل ضمان شروط نجاح أي مشروع مستقبلي لتوحيد اليسار أن تطرح على بساط البحث عوامل أزمتها وسبل تجاوزها، وهي أزمة تعود، في تقديري، إلى عوامل عديدة، من أهمها أن القوى اليسارية الفلسطينية، والعربية عموماً، تأثرت بانهيار الاتحاد السوفييتي وفشل تجارب ما عُرف بـ “الاشتراكية الواقعية” تأثّراً كبيراً، وصارت تعاني من تشوش فكري لم تتجاوزه إلى الآن، كما لم تلتقط هذه القوى اليسارية التغيّرات التي طرأت على بنية المجتمع الفلسطيني عقب قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في سنة 1994، والتي تمثّلت في تطبع الاقتصاد الفلسطيني بطابع ريعي، وتراجع القطاعين الإنتاجيين الصناعي والزراعي في إطاره لصالح تزايد دور القطاعين المصرفي والعقاري، وتعاظم حجم العاملين والمستخدمين في أجهزة السلطة الأمنية والإدارية، كما لم ترصد، في الوقت المناسب، ظاهرة تراجع أطر العمل الجماهيري، مثل نقابات العمال واتحادات الطلبة ومنظمات المرأة، التي بناها اليسار في سياق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتعزيز صمود المواطنين على الارض الفلسطينية المحتلة، وذلك في مقابل تنامي دور منظمات العمل الأهلي والمنظمات غير الحكومية، التي تكاثرت بعد قيام السلطة الفلسطينية وصارت تحصل على تمويل كبير من المانحين، واستقطبت عدداً كبيراً من كوادر القوى اليسارية، ما ساهم في إضعاف هذه القوى.
وبينما كان التيار الإسلامي يشهد تصاعداً لا سابق له لنشاطه، في إطار “الصحوة الإسلامية” العامة التي شملت المنطقة، عجزت القوى اليسارية الفلسطينية عن مواجهة تحدي التجديد على الأصعدة كافة، وعن تجسيد شعار الترابط بين مهمات النضال الوطني ومهمات النضال الاجتماعي في برامج ومهمات ملموسة.
وفي ظل تراجع دورها ونفوذها في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية، لم تستوعب قوى اليسار، في ممارساتها العملية، مبدأ وحدة-صراع-وحدة الذي يحكم عادة تحالفات اليسار مع القوى الأخرى في مرحلة التحرر الوطني. وعليه، فقد بقيت علاقة بعض قوى اليسار بحركة فتح تتأرجح ما بين مراعاة متطلبات مرحلة التحرر الوطني، من جانب، والبحث عن مصالح حزبية مباشرة، من جانب آخر.
وبعد قيام السلطة الوطنية، تماهت هذه القوى مع السياسات الرسمية وأصبحت، في نظر الناس، جزءاً من النظام السياسي الرسمي الذي تمثّله هذه السلطة، حتى وإن لم تستفد كثيراً من مغانمها. وفي المقابل، تماهت قوى يسارية أخرى مع مواقف حركة حماس، ولم تبرز تمايزها عن بعض ممارسات هذه الحركة، كما لم تقف بحزم في وجه برنامجها الاجتماعي والثقافي بعد استيلائها على السلطة في قطاع غزة.
وعليه، يبدو لي أن الخطوة الأولى التي يجب على قوى اليسار أن تخطوها، على طريق تجاوز أزمتها، هي أن تسعى إلى ضمان وجهها السياسي والفكري المستقل إزاء القطبين الكبيرين في الساحة الفلسطينية، علماً أن اليسار، من حيث الدلالات، هو تلك القوى التي تلتزم بالتغيير وتنحاز إلى الفئات الاجتماعية المستغلَة والمهمشة، وتناضل من أجل الحد من أشكال اللامساواة بين الأمم والشعوب، ومن أشكال اللامساواة بين الطبقات، ومن أشكال اللامساواة بين المرأة والرجل، والتي تطمح إلى قيام مجتمع حديث يقوم على العلمانية التي لا تعني اللادينية، وعلى الديمقراطية متعددة الأبعاد، التي تشمل إلى جانب بعدها السياسي، المتمثل في الفصل بين السلطات الثلاث والانتخابات الحرة الدورية والحريات العامة والفردية والتداول السلمي للسلطة، بعديها الاقتصادي والاجتماعي كذلك؛ ولن يكون في وسع قوى اليسار الفلسطيني أن تضمن وجهها السياسي والفكري المستقل هذا إلا من خلال الالتزام الدقيق بمبدأ وحدة-صراع-وحدة في تعاملها مع القوى الأخرى المختلفة عنها في الساحة الفلسطينية؛ فضرورات التحالف مع حركة فتح من أجل حماية وحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني، وفي النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، لا تنطبق على السلطة الفلسطينية التي تبنت وتتبنى، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وفي مجال احترام الحريات، سياسات لا تنسجم مع برامج قوى اليسار التي يتوجب عليها أن تناضل ضد هذه السياسات وأن تبلور وتطرح بدائل لها تستجيب لمصالح الفئات الاجتماعية التي تدّعي تمثيلها.
ومن ناحية أخرى، يتوجب على قوى اليسار، مع تعاونها مع حركة حماس في النضال ضد الاحتلال وفي مواجهة عدوانه وحصاره، أن تقف موقفاً حازماً من برنامج هذه الحركة الاجتماعي والثقافي، وأن تبرز طابعها العلماني الواضح، الذي يقوم على قاعدة الفصل بين الشؤون الدينية والشؤون الدنيوية وعلى ضمان حرية المعتقد والابتعاد عن التكفير، كما تبرز تمسكها الحازم بالتعددية السياسية وبالحريات الفردية والعامة.
إن هذه المواقف، ستفتح بكل تأكيد أمام قوى اليسار طريقاً يمكّنها من أن تعبئ حولها قطاعات واسعة من الفلسطينيين التي لا تجد نفسها متماهية لا مع برنامج حركة فتح وسلطتها ولا مع برنامج حركة حماس وسلطتها، وصولاً إلى تشكيل قطب ثالث وازن وقادر على كسر الاستقطاب الثنائي بين هاتين الحركتين واستعادة وحدة الحركة الوطنية الفلسطينية؛ فالقاعدة الاجتماعية لليسار لا تزال واسعة بين صفوف الفلسطينيين، ولا ينقص من أجل استقطابها وتعبئتها سوى أن تتحلى قوى اليسار بروح المسؤولية، وتضمن وجهها السياسي والفكري المستقل؛ ولعل هذا بدوره سيوفر شروطاً أفضل لتحقيق وحدة قوى اليسار، بغض النظر عن الأشكال التي قد تتخذها هذه الوحدة.
لقد لعب اليسار دوراً تاريخياً مهماً في مسيرة الكفاح الوطني والديمقراطي الفلسطيني، وهذا الدور لا يزال مطلوباً بإلحاح، من أجل إنجاز أهداف التحرر الوطني من جهة، عبر توسيع التعبئة الشعبية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتعزيز المقاومة الشعبية له، ومن أجل تحقيق التغيير الاجتماعي الديمقراطي المطلوب من الجهة الأخرى، عبر ضمان الانتخابات الدورية الحرة وتحقيق تنمية متوازنة تضمن تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للأعباء والثروات.
فهل يحق لي، أنا المعتقد بأن وحدة قوى اليسار الفلسطيني هي حاجة موضوعية ومهمة ملحة، أن أدعو في ختام هذه المساهمة كل الذين يشاركونني هذا الرأي إلى أن يبرزوا في مواقفهم وممارساتهم أن انتماءاتهم الحزبية المختلفة لا تتعارض مع سعيهم لتحقيق هذه المهمة، ولا مع حرصهم على تعظيم شأن مصلحة اليسار العامة، ليس على مستوى قيادات فصائلهم فحسب بل على مستوى كوادرها وأعضائها كذلك”.