حنة غريب في حوار مع “الجنوب”: يفصّل موقع الحزب الشيوعي في الخارطة السياسية اللبنانية

مشاركة المقال

الجنوب/ مدار: 06 حزيران/ يونيو 2021

حسان الزين- هشام مروة*

في مكتب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني حنّا غريب، الذي بات يشبه غرف بيته، تكثر الأوراق والملفّات وتتناثر الكتب. لكنّ الأهم من هذا هو إصرار بعض الصور واللوحات على أن تبقى بارزة وكأنّها تتمرّد على “العجقة”. ملصق عن نضال الحزب الشيوعي وتاريخه منذ 24 تشرين الأول 1924، لا يُخفى أنّه من تصميم الفنان إميل منعم، بقربه إعلان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية محفوراً على نحاسية، ولوحة مطرّزة لشعار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي يترجم إصرار الجبهة على العودة إلى فلسطين وخريطتها كلّها. أمّا خلف طاولة حنّا غريب حيث يضع فوقها كومبيوتره المحمول بجانب الطابعة التي يُكثر استعمالها، فتعلو الحائط لوحة كلاسيكية خشبية مطرّزة بالنحاس تصوّر الأمين العام الأسبق للحزب الشهيد فرج الله الحلو، وبقربها صورة الأمين العام الأسبق الشهيد جورج حاوي.

نقول له إن الرفيق فرج الله مظلوم: مرّة من قيادة الحزب، ومرّة في اغتياله بطريقة لاإنسانية في 1959، ومرّة في إهمال الشيوعيين تجربته، فقد حوّلوه أيقونة وأهملوا أفكاره الوطنية والديمقراطية ونزعته إلى تبيئة الماركسية وترسيخ الحزب في الأرض والمجتمع.

يرفع نظره عن الكومبيوتر، ينظر من فوق نظّارتيه إلى فرج الله وكأنه ينظر في مرآة، ولا يُخفي أن قيادة الحزب كلّها تقريباً ظُلمت، فلا واحد جاء في ظروف مريحة واستطاع أن ينفّذ كل ما يريده في سبيل الحزب وتطويره.

هنا، بدأ الجد، لنتحدّث عن القائد الحالي للحزب، فإن لم يكن مظلوماً فإنّه ليس في “ظروف مريحة”. هو حين قبل خوض تحديات الأمانة العامّة التزم أن يكون جسرَ عبور الحزب إلى مرحلة جديدة، وموحّداً، وجسر الجيل الشاب نحو القيادة. وإذ منح نفسه ثلاث سنوات، كانت الظروف أعقد، داخل الحزب وفي البلد والمنطقة. وإذ حافظ، مع الشيوعيين كافة، على وحدة الحزب، إلا أن تلك الوحدة لم تُدعّم وتُغنَى بتحديثات فكرية وسياسية تسهم في إعادة الحيوية إلى الحزب وأعضائه وممارسته. وهكذا، وعلى الرغم من اختلافاتهم في الرأي تراهم حريصين على تدوير الزوايا فيما بينهم.

يقول حنّا غريب، ردّاً على سؤال عن موقع الحزب الشيوعي:

“هناك أيضاً من يقول إننا أقرب إلى 14 آذار (يضحك). هناك حقيقة لا يريد أن يعترف بها الاثنان، هي أننا خارج الاصطفافات الطائفية والمذهبية، لا 8 آذار ولا 14 آذار. نحن 24 تشرين الأول 1924، يعني عمرنا من عمر لبنان تقريباً، وتاريخنا تاريخ النضال الوطني والسياسي والاجتماعي المليء بالتضحيات، نحن 16 أيلول 1982 تاريخ انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الصهيوني، وقبلها الحرس الشعبي وقوات الأنصار من أربعينيات القرن الماضي. نحن 1 أيار، وأول من احتفل بعيد العمال العالمي في لبنان، وأول من أسس النقابات في لبنان ووزع المناشير السرية وتمّت ملاحقته ودخل السجون واستشهد مناضلوه في التظاهرات النقابية. نحن من قاتل الأحلاف العسكرية الإمبريالية ومشاريع التقسيم والفدرلة، نحن من دق ناقوس الخطر ضد النظام الطائفي واقتصاد الريع وفساد أطراف المنظومة في 8 و14 آذار. نحن من واجه هذه المنظومة على مدى 30 سنة مع كل الشرفاء والوطنيين ودفعنا الأثمان الباهظة حتى أثمرت انتفاضة شعبية انطلقت في 17 تشرين الأول 2019. وكل التحية لكل الذين مشوا على هذا الدرب واستشهدوا وأسروا وجرحوا. واليوم، يدنا ممدودة للتحالف والتعاون مع كل من يحلم بدولة علمانية ديمقراطية وعدالة اجتماعية. نحن هنا، في هذا الموقع وفي هذا الخط السياسي”.

هكذا، يرسم غريب خريطة أخرى غير خريطة 8 و14 آذار، هي خريطة تاريخ الحزب وآلام المواطنين وشؤونهم وتطلّعاتهم ونضالهم من أجل التحرير والاستقلال وبناء الدولة الوطنية العادلة، ويقف عليها.

وهل يكفي ذلك لتظهير تميّز الحزب؟ نسأله ما حقيقة علاقتكم بحزب الله؟

يجيب: “بمعزل عن التباين والخلاف في المنطلقات الفكرية والمشروع السياسي ومفهوم المقاومة، إلا أن ذلك لم يمنعنا من التقاطع حول مقاومة الاحتلال الصهيوني للبنان، وحول الموقف من هذا الكيان العنصري المغتصب لفلسطين والذي يشكّل موقعاً متقدما للإمبريالية في سعيها للسيطرة إلى المنطقة بمشاركة أدواتها ومجموعاتها الإرهابية. نحن حزب مقاوم منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ومقاومتنا هي مقاومة وطنية تربط عملية التحرير بالتغيير وتعتبرهما قضية واحدة للتحرر الوطني والاجتماعي. أي أنها عملية لتحرير الأرض من الاحتلال- وقد ساهمت بذلك مساهمة طليعية رائدة- مثلما هي عملية لتحرير الإنسان من الاستغلال الطبقي وهو ما تجلّى بخاصة خلال الانتفاضة، تحت شعار: الشعب يريد إسقاط النظام. هذا النظام الذي يلعب دوراً مزدوجاً: فمن جهة، يشكل أداة  للهيمنة الإمبريالية الأميركية والغربية على لبنان عبر بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية، ومن جهة ثانية، هو أداة للاستغلال الطبقي الذي تمارسه البرجوازية المحلية على الغالبية الساحقة من اللبنانيين. أما حزب الله في لبنان فهو يفصل عملية التحرير عن عملية التغيير السياسي، وهو قام بدور مهم في عملية التحرير عبر مقاومة الاحتلال الصهيوني للبنان، الأمر الذي يجب الاعتراف به وتقديره. لكن هناك خلافاً معه في موقفه المتمسك والمستفيد من النظام الطائفي، فكان من أقوى حماته خلال الانتفاضة، فضلاً عن الخلاف بين الحزبين حول وظيفة الدولة وهويتها كدولة علمانية ودولة مواطنة وعدالة اجتماعية مع ما يستتبع ذلك من تباين في المقاربات حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية وقضايا الفساد والأحوال الشخصية وحقوق المرأة والتعليم الرسمي ونظم الحماية الاجتماعية والحركة النقابية. خلاصة القول، نحن نعتبر أن فرص حماية منجزات التحرير تبقى هشّة، ما لم يتمّ إحداث تغيير قاعدي على مستوى البنية السياسية، أي على مستوى الدولة والنظام. تلك هي القضايا التي تحكم طبيعة علاقتنا مع حزب الله”.

مشروع بديل

لبنان في خطر والنظام بات غير قادر على الحياة، وثمة انهيار اقتصادي ومالي ارتكبته المنظومة الحاكمة، وقوى التغيير ومنها الشيوعي لم تشكّل وزناً مؤثّراً يسهم في تغيير المشهد والأحوال. فكيف يقرأ الحزب الشيوعي الوضع السياسي، وماذا يفعل، وإلى أين تتّجه الأمور؟

يجيب: “نحن نمر في مرحلة خطيرة وتاريخية، تفرض على قوانا اليسارية والوطنية والعلمانية والديمقراطية، مهمة مركزية تقضي بزيادة وزنها وفعلها في الحياة السياسية والاجتماعية وصولاً إلى التمكّن من تغيير موازين القوى في البلاد. من هنا، ترتسم سياسة الحزب التحالفية في لبنان على أساس الانفتاح والعمل المشترك وصولاً إلى برنامج عمل مشترك قادر على بناء أوسع ائتلاف وطني للتغيير يضم القوى صاحبة المصلحة في محاسبة المنظومة السياسية التي تحكّمت بالبلد على مدى ثلاثين عاماً، وأوصلته إلى الانهيار وما زالت تسعى حتى في ظلّ الانهيار إلى تجديد سلطتها.  ونحن نعمل مع العديد من القوى والشخصيات السياسية والاجتماعية لبناء هذا الائتلاف الواسع عبر مسارين متكاملين: مسار التحالف السياسي ومسار التحالف الطبقي الاجتماعي والشعبي، هذا إضافة إلى الانفتاح على مسارات ائتلافية أو جبهوية أخرى لها الأهداف عينها. إن الجمع بين التحالف السياسي (القوى والأحزاب والشخصيات السياسية التغييرية)، والتحالف الاجتماعي (النقابات والبلديات والمنابر الثقافية والإعلامية واللجان الشعبية في القرى وأحياء المدن…) هو الترجمة العملية لقضية بناء الدولة بمواصفاتها الثلاث التي نريدها وهي الوطنية والعلمانية والديمقراطية، التي لا يجوز فصل بعضها عن البعض الآخر. فلا وطنية من دون علمانية ولا علمانية من دون ديمقراطية والعكس صحيح. ففي تكامل هذه المواصفات الثلاث تكمن قوة تعطيل الوظيفة السياسية لطائفية النظام السياسي وتبعيته واستغلال سلطته، وبترابطها يتجلى المضمون الحقيقي للسيادة الوطنية بمفهومها الواسع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والوطني في مقاومة أي عدوان واحتلال”.

ويتابع: “من هذا المنطلق كانت مبادراتنا واتصالاتنا من أجل بناء أوسع ائتلاف سياسي أو أي إطار تنظيمي، يقدّم نفسه مشروعاً بديلاً من المنظومة الحاكمة، ويتولّى مسؤولية قيادة الصراع معها، لخلق موازين قوى جديدة تفرض تشكيل حكومة إنقاذ وطني انتقالية، بصلاحيات تشريعية استثنائية، ومن خارج المنظومة الحاكمة لإدارة المرحلة الانتقالية في البلاد. واسمحوا لي أن أوجه التحية لكل الذين بذلوا وما زالوا يبذلون الجهود على هذا الصعيد، هؤلاء الذين شكلوا لجان عمل في ما بينهم في الساحات وواصلوا الليل بالنهار ونسّقوا التحركات خلال الانتفاضة، وكلها أشكال من العمل التنظيمي الموحد على الأرض ومن القواعد، فلا يجوز التبخيس بجهودهم التي أثمرت ولادة أطر وتجمعات وهيئات على غير صعيد، منها على سبيل المثال انتخابات نقابة المحامين والنقابة – تنتفض، حيث للمرة السابعة تؤجل قوى السلطة انتخابات نقابة المهندسين منعا لسقوطها، وما زالت جهود هذه القوى المنتفضة مستمرة وتتقدم خطوات إلى الأمام، وسوف تثمر إطلاق مشروع تأسيس التحالف الاجتماعي في 12 حزيران في مسرح المدينة؛ وكذلك على صعيد التحالف السياسي، المشاورات مستمرة بعد الورشة الحوارية التي جرت في 24 نيسان الماضي، وهي ستتوسع مع تشكيل لجنة المتابعة التي تحضّر لإطلاق خطوات عملية تصب في اتجاه بلورة صيغة هذا التحالف السياسي وإعلانه”.

البديهي بالنسبة إلى غريب هو أن موقع الحزب في المعارضة وبين الناس. وبناء المعارضة هو ما يظهّر موقع الحزب الشيوعي وغيره من قوى الاعتراض. ومن دون ذلك يطغى على المشهد السياسي الانقسام العمودي والمذهبي والإقليمي، الذي يجعل كل قوى الاعتراض في حال ضبابية، ويبقى كل منها منفرداً في موقعه الخاص.

أولويات غريب ورهانه       

وسط هذا، تبدو أولوية غريب، إضافة إلى قضية التغيير في لبنان عبر بناء جبهة معارضة ذات وزن شعبي، إضافة إلى استيعاب الوافدين الجدد إلى الحزب، وتهيئة ظروف مؤسسية ديمقراطية ومناخ سياسي.

يقول: “أن يشهد الحزب عودة شيوعيين وانتسابات لأعضاء جدد، فهذا مؤشر مهم، ولكن الأهم هو ماذا سيقدّم الحزب لهم بالمقابل على مستوى الإعداد الفكري والسياسي والتنظيمي، ليجعل منهم كوادر وقادة في عملية تجديد دائمة ومستمرة في كل مؤتمر. وهو ما نلتزم به تحضيراً للمؤتمر الوطني الثاني عشر. إنها مسؤولية قيادة الحزب وهيئاته الوسطية وقطاعاته ومنظماته، لجهة العمل على ضخ دم جديد في شرايين الحزب، فتكون تركيبته التنظيمية الداخلية شبيهة بصورة تظاهراته وتحركاته، ما يعكس علاقة التفاعل السليمة بين حزبنا وشعبنا، يجري التعبير عنها في الشارع وفي الخطاب السياسي وفي التنظيم أيضاً”.

ويدرك أن “لكل ما تقدم، ترتدي بلورة الهوية الفكرية للحزب أهمية قصوى في المساهمة بمعالجة أزمته. فالوحدة السياسية والتنظيمية للحزب مستمدة من وحدته الفكرية التي تشكل المرتكز الأهمّ الذي يجب الانطلاق منها لصوغ المشروع السياسي للحزب وتطوير وثائقه المؤتمرية. وهو ما بدأنا به في إعداد وثائق المؤتمر الثاني عشر. لقد أنهت اللجنة المركزية المرحلة الأولى من نقاش مسودة الوثيقة الفكرية، وتبدأ قريباً نقاش مسودة الوثيقة السياسية التي تضم موضوع الانتفاضة ونتائجها. إن وحدة الحزب بدت في حالات كثيرة كأنها مستمدة من المحطات المضيئة في تاريخه فحسب، بينما المطلوب تعزيز هذه الوحدة راهناً عبر المشروع المستقبلي للحزب في الفكر والسياسة والتنظيم. إنه التحدي المطروح أمام الرفاق جميعاً، ولنا ملء الثقة بنجاحهم في ذلك، في مجرى تحضيرهم لمؤتمرهم الوطني الثاني عشر لجهة إعطاء النقاش الفكري والسياسي ما يلزمه لتعميقه، كتعبير حيّ عن حاجة موضوعية للإجابة عن العديد من الموضوعات والأسئلة المطروحة”.

إذا، يراهن غريب على ثقته بجميع الرفاق وقدرتهم وتصميمهم على الشروع بالورشة الفكرية والسياسية المؤتمرية. وهذا ما يُبقى الأسئلة تنتظر الإجابات، ومحطّتها المقبلة، المؤتمر 12؟ فلننتظر.

حديث في السياسة

في الأثناء، لا بد من الحديث في السياسة.

يقول: “سيبقى الوضع السياسي يتجه إلى الأسوأ طالما استمر النظام القديم موغلاً في موته (السريري)، ولم يجد المشروع البديل طريقه إلى الولادة. فالنظام- الذي بنيت مرتكزاته الطائفية والطبقية والعائلية وكتله الاحتكارية وحاضناته الخارجية لبنة لبنة على امتداد نحو قرن- يواصل العصيان على التغيير حتى لو أدّت سيطرة السلطة على الدولة الى تفتّت هذه الأخيرة وانحلالها. وفي نهاية المطاف، المسألة الأساسية تتعلق بموازين القوى- في بعدها الداخلي أساساً وكذلك في بعدها الخارجي- التي قد تسرّع أو لا تسرّع هذه الولادة”.

الانهيار الاقتصادي والمالي يتسارع ولا حلول في الأفق، ماذا تفعلون؟

“كل لحظة تمرّ من دون أن يتقدّم البلد نحو الحلّ هي بمثابة تعميق للأزمة وتجذير لتبعاتها المأسوية على حياة المواطنين. لقد مرّ نحو 20 شهراً على بدء الانهيار الاقتصادي الذي تسبّب في اندلاع الانتفاضة الشعبية، ولم يُحقَّق حتّى الآن أيّ إجراء إيجابي يمكن التعويل عليه في مواجهة الانهيار المتمادي. بل إن البلد يشهد أسوأ وأعنف هيركيت لودائع المواطنين وادخاراتهم مقارنة بما حصل في أزمات البلدان الأخرى في العالم. أكثر من 75 في المئة من قيمة هذه الودائع والادخارات تبخرت حتى الآن والآتي أعظم.

لقد شدّدنا منذ بداية الانهيار على طريق الخروج من الأزمة، عبر حكومة من خارج المنظومة تُفوّض بصلاحيات استثنائية، خصوصاً على الصعيد التشريعي، فتتولى ضمن مهلة زمنية محددة تنفيذ مهمات محدّدة أبرزها: تحديد حجم الخسائر في القطاع المصرفي والمالي؛ وتفصيل آليات توزيع هذه الخسائر وتحميل الجزء الأكبر منها- مع استكمال التحقيق الجنائي- لمن استفاد من سياسة التثبيت النقدي والفوائد العالية ومن عدم وضع قانون نظامي للرقابة على التحويلات ولمن سطا بأشكال شتى على المال العام؛ وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وسياسات الإنفاق العام والنظام الضريبي؛ وفي موازاة هذه الإجراءات- بل قبلها- التركيز على تحصين مؤسسات الحماية الاجتماعية، لا سيما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعويضات نهاية الخدمة، ومشروع التغطية الصحية الشاملة، والتعليم الرسمي المجاني. وكلما تأخر قيام مثل هذه الحكومة ذات الصلاحيات الاستثنائية، فإن الأمور ستتجه إما نحو الجوع والفقر والفوضى والتشظي، أو نحو التسريع الحتمي لولادة المشروع البديل بالاستناد إلى صيغة مؤاتية لموازين القوى المطلوبة”.

ما هي قراءتكم لعدم توصل قوى السلطة إلى تشكيل حكومة؟

“هذا أصبح تقليداً شبه ثابت منذ العام 2005، بل ربما يعود إلى نسق تطبيق (أو لا تطبيق) اتفاق الطائف، إذ اختصرت كل السلطات بخمسة أو ستّة أشخاص؛ ربما هو عائد كذلك إلى العجز البنيوي للطبقة المسيطرة؛ أو إلى الرعب من المحاسبة إذا ما تكشّفت التحقيقات عن أسباب الانهيار والمستفيدين منه عن غير وجه حقّ؛ أو الخوف من تحمّل أعباء القرارات التي يتطلبها وضع الأزمة الاقتصادية على طريق المعالجة، وهي قرارات ستكون كلّها موجعة؛ أو استمرار المراهنة الدفينة من قبل معظم أطراف المنظومة الحاكمة على استخدامهم التوازنات الطائفية لتعزيز وزنهم في أي صيغة مستقبلية لتجديد النظام الطائفي. وهناك أيضاً الجانب الشخصي المرتبط بالنكد النايروني الانتحاري والصبياني الذي يتبادله بعض رموز السلطة “بينما هم يشاهدون روما/ بيروت تحترق”، من دون أن نقلّل من حجم الملابسات المرتبطة بدور اللاعبين الخارجيين وأجنداتهم الخاصة في منطقة تعصف بالتغيّرات الداهمة”.

كيف تصفون حال المبادرة الفرنسية، وما موقفكم منها؟

“جاءت المبادرة الفرنسية بعد انفجار المرفأ عبر زيارة الرئيس ماكرون الذي جمع أطراف المنظومة الحاكمة المسؤولة عن الجريمة لإعادة تعويمها- فيما كانت الانتفاضة في الشارع تطالب بمحاسبتها- ومحاولة لإنقاذ النظام المتهالك وإعادة إنتاج صيغةٍ جديدةٍ له تؤسس لانطلاقة المئوية الثانية للبنان على قواعد المئوية الأولى نفسها: أي منطق التوازنات الطائفية والمذهبية القاتلة- المنتجة للحروب والفتن- ونظام علاقات الاستتباع والارتهان للخارج، اللذان قوّضا تاريخياً مفهوم الدولة وسلبا اللبنانيين ثرواتهم وقوّة عملهم وأدّيا إلى تهجيرهم في أصقاع الأرض بحثاً عن فرصة للحياة”.

ولماذا لم تلبّوا دعوة وزير الخارجية الفرنسية إلى اللقاء حين زار بيروت؟

“نعم، لقد اعتذرنا عن تلبية دعوة وزير الخارجية الفرنسية والمشاركة في اللقاء، تأكيداً على موقف الحزب من النظام السياسي الطائفي ومحاولات إعادة تعويمه، وضرورة أن يندرج أساس الحل الداخلي المنشود في إطار دولة تستلهم مثل العلمانية والديمقراطية والمساواة، وتكون متحررة من سطوة تحالف الزعامات الطائفية ورأس المال الاحتكاري. وتأكيداً على موقفنا بأن آلية الخروج من الانهيار تبدأ من الداخل، أي من القضية التي من أجلها انتفض اللبنانيون في 17 تشرين. إضافة إلى موقفنا المبدئي المتمسك بضرورة إطلاق الأسير جورج إبراهيم عبد الله وبأن استمرار اعتقاله يشكل عائقاً أمام تقدم العلاقات بين البلدين”.

هل ستتمكن قوى السلطة برعاية الخارج من تجديد نفسها ونظامها، وما هي نتائج ذلك على البلد؟

“المنظومة الحاكمة تسعى للتهرّب من دفع الثمن، في ظل تسارع وتيرة الانهيار ووصول البلد إلى خطر الانفجار الاجتماعي. إنها بذلك تكشف لبنان أمام العدو الصهيوني الذي يتحيّن الفرص للعدوان على لبنان. كذلك، تدفع بالبلد نحو الفوضى والصدام الطائفي في الداخل، في محاولة منها لتغطية جرائمها بجريمة أكبر تتقدم فيها قضية انقاذ لبنان وكيانه ومصير شعبه وأمنه على كل ما عداها من قضايا، فيسهل عليها بذلك تقديم التنازلات للخارج الإقليمي والدولي لإعادة إنتاج نظامها وسلطتها. هذا إذا نجحت بذلك. وإلا الانكفاء والتقوقع ضمن ما تطرحه من مشاريع الفيدرالية تحت غطاء اللامركزية الموسّعة، وهو ما يحاكي مشاريع التفتيت الطائفي والمذهبي والإثني على صعيد المنطقة. هذا هو تاريخها في الارتهان والتنازل للخارج بدل التنازل لشعبها في الداخل. فكيف لشعبنا، مع اقتراب رفع الدعم عن الدواء والكهرباء والمحروقات والانقطاعَ المتواصل للكهرباء، والارتفاع الكبير للأسعار وإجراءات الموازنة الجائرة وانهيار الليرة والرواتب والأجور وغياب التغطية الصحية الشاملة ونوعية التعليمِ، كيف له القدرة على دفع كلفة انهيار نظام الطائف ونموذجه الريعي، ودفع كلفة إعادة إحيائه، وهو في مثل هذه الحال يرزح تحت أعباء الإفقار والبطالة والإفلاس، وهاجر منه من هاجر من كوادر وكفاءات شبابية واعدة؟ في الخلاصة، الموضوع رهن نتائج الصراع وموازين القوى الداخلية، ووجهة التطورات الإقليمية”.

هل تجدون أن قوى السلطة ما زالت قوية وأن قوى الاعتراض والمواطنين الذين نزلوا إلى الشوارع والساحات في 17 تشرين الأول 2019 لم يتمكنوا من فرض موازين قوى؟

“لم تعد قوى السلطة قادرة على إنتاج الانتظام العام، لكنها مع ذلك لم تفقد أوراقها كلها (في الأمن والمؤسسة الدينية والاقتصاد والعلاقات الزبائنية وخصوصاً الحاضنة الخارجية، على الرغم مما تكيله لها هذه الحاضنة من إهانات). ويبقى الأهم عدم تمكّن قوى الانتفاضة من إحداث تغيير فعلي ومستدام في موازين القوى، بحسب ما كادت توحي به الأسابيع الأولى من الانتفاضة”.

ترفعون شعار حكومة انتقالية مستقلة، في حين قوى السلطة تعطل البلد الذي ينهار وفي يدها “المصير”، ماذا تفعلون لتحقيق ذلك بينما قوى الاعتراض لم تشكل وزناً مؤثّراً، وهل ترون أن طرح الحكومة الانتقالية قابل للتحقق قبل الانتخابات النيابية، هذا إذا ما شاركت قوى الاعتراض في الانتخابات بشكل مقنع وحققت تقدماً وإنجازاً؟

“لا أمل في حكومة انتقالية من النوع الذي طالبت به قوى الانتفاضة ما لم يجر تأمين مسألتين أساسيتين، الأولى تعديل موازين القوى، عبر تعزيز صيغ التلاقي والتكامل والتعاون حول برنامج عمل جامع بين أوسع القوى الاجتماعية المتضررة، وتحصين هذا التلاقي بأطر مؤسسية وقيادية ناظمة. والمسألة الثانية تعديل قانون الانتخابات النيابية على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي واجراء الانتخابات وفق لوائح وطنية ديمقراطية مشتركة ومتفق عليها في الدوائر الانتخابية ويجمع بينها الهدف الأهم في المرحلة الراهنة، أي هدف بناء الدولة المدنية والعلمانية والديمقراطية”. فالتحدّي الأساسي الذي تواجهه الانتفاضة يتلخّص في مدى قدرتها على تجيير أصوات القوى الشعبية المنتفضة في صناديق الاقتراع، بالاستناد إلى قانون للانتخابات تتوفّر فيه المواصفات التي ذكرناها أعلاه.

هل ستجري الانتخابات النيابية، في اعتقادكم؟

“من السابق لأوانه الإجابة على سؤالك، فالبلد والمنطقة ككل تعيش حالا من المتغيرات الكبرى، لكن ما يمكن تأكيده هو أن الانتخابات ستجري حتماً إذا ما تمكنت أطراف المنظومة الحاكمة من ضمان فوزها، وما يجري على الأرض راهناً يوحي بذلك. إن التشكيلات السياسية الطائفية باتت تراهن على الإسراع في إجراء الانتخابات النيابية، أو على الأقل إجراؤها في موعدها بدافع الرغبة في طمس أسباب الانهيار والتهرّب من تحمّل المسؤولية عبر إشغال الناس بالمعركة الانتخابية على أساس القانون الحالي الذي رسّخ المذهبية والمحاصصة، وساهم في شد العصب الطائفي والشحن المذهبي وزيادة التوتير في الشارع، مثلما نشهده راهناً من ازدياد النزعة العسكرية لدى بعض القوى، وتصعيد مشاعر العداء للسوريين وإلى حدّ ما للفلسطينيين، وكلها تشكل أساليب المعركة الانتخابية”.

هل ستقبلون بأي قانون انتخابي، أم ستخوضون معركة من أجل القانون؟

“سنخوض المعركة من أجل تغيير القانون الانتخابي الحالي. فمعركتنا في الانتخابات تندرج في سياق المعركة السياسية العامة، وهي محطة من محطاته، والاتجاه معروف هو الضغط لفرض قانون انتخابي عادل وديمقراطي، مرتكزاته الأساسية: النسبية خارج القيد الطائفي ولبنان دائرة واحدة أو مقسّم إلى عدد محدود ومحدّد من الدوائر الكبرى”.

لن نترك الشعب الفلسطيني وحيداً

يفخر غريب بأن الحزب الشيوعي نظّم تظاهرة حاشدة دعماً لفلسطين أثناء المواجهة الأخيرة مع الاحتلال، ويتوقف عند دلالاتها وأولها أنها في بيروت التي استقبل أهلها المتظاهرين الذين أتوا من لبنان كله ومن المخيمات الفلسطينية بالزهور والأرز. فبيروت تبقى عربية شريكة القدس وفلسطين في مواجهة الكيان الصهيوني ومشروعه.

ويقول: “من هذه التظاهرة التضامنية يُطلق شعبنا اللبناني صرخته إلى كل الشعوب العربية وقواه الوطنية الحيّة ولكل أحرار العالم، داعياً إلى مزيد من الدعم واستمرار التحركات الشعبية دعماً للانتفاضة الفلسطينية، لن نترك الشعب الفلسطيني وحيداً في المعركة. واقفون معه، إلى جانبه وبكل ما لدينا من إمكانيات وطاقات، دعماً لمقاومته ضد هذا الكيان العنصري وضد رعاته الدوليين والإقليميين”.

ويضيف: “ظن الصهاينة بعد كل ما ارتكبوه من جرائم على مدى تاريخهم، أن بإمكانهم تقطيع فلسطين، فردّت عليهم، وفتحت صفحة جديدة من تاريخها المقاوم، صفحة ما بعدها ليس كما قبلها. فاجأتهم وقدّمت مشهداً واضحاً. المعركة تدور اليوم في عمق الكيان الصهيوني الذي يعيش أزمته الداخلية غير المسبوقة. والشعب الفلسطيني موحد خلف مقاومته. إنها بدايات الانتصار. نعم، قال الشعب الفلسطيني كلمته بدماء أطفاله وشهدائه. فلسطين ليست أرخبيلاً، فلسطين واحدة موحّدة، بشعبها المنتفض، ومقاومتها ضد الاحتلال، وهي كانت، وستبقى تصنع وحدتها الوطنية على أساس مقاومة الاحتلال الصهيوني بكل الأشكال والاساليب السياسية والشعبية والعسكرية، حتى التحرير الكامل لترابها الوطني وإقامة دولتها الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين”.

ويختم: “في انتصار فلسطين انتصار لشعوبنا العربية ولشعبنا اللبناني على عدو مشترك يسعى لفرض التوطين ومنع حق العودة وتأبيد احتلاله لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشرقي من بلدة الغجر، ولنهب ثروتنا النفطية”.

*أنجز هذا الحوار من طرف دورية الجنوب عدد حزيران (الرابط المباشر).

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة