المراسلة 16: بصيص الأمل الذي لن يأتي من ميامي

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 06 حزيران/ يونيو 2021

فيجاي براشاد

ستغادر حكومة الولايات المتحدة – وقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) – أفغانستان بعد مرور عشرين عاماً.. لقد قالوا إنهم جاؤوا للقيام بأمرين: القضاء على القاعدة، التي شنت هجوما على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001، والقضاء على حركة طالبان، التي وفرت قاعدة لهذا التنظيم. بعد سقوط أرواح كثيرة وزيادة الدمار في المجتمع الأفغاني، غادرت الولايات المتحدة – كما فعلت في فيتنام عام 1975 – وهي تجر أذيال الهزيمة: أعاد تنظيم القاعدة تجميع صفوفه في بقاع مختلفة من العالم، ومن المقرر أن تعود طالبان إلى العاصمة، كابول.

يحذر رئيس البرلمان الأفغاني، مير رحمن رحماني، من أن البلاد على استعداد لدخول مرحلة جديدة من الحرب الأهلية، في تكرار للحرب الأهلية الرهيبة التي جرت بين عامي 1992 و2001. ووفقا لحسابات الأمم المتحدة في ما يخص الربع الأول من عام 2021 فقد ارتفع عدد الضحايا المدنيين بنسبة 29٪ مقارنة بالعام الماضي، بينما ارتفع عدد الضحايا من النساء بنسبة 37٪. ومن غير الواضح إذا كانت ستكون هناك المزيد من المحادثات بين طالبان والحكومة الأفغانية، التي يرأسها أشرف غني، والأتراك والقطريون والولايات المتحدة والأمم المتحدة. وتقف أفغانستان على شفا المزيد من العنف، الذي يمكن وصف تأثيره على نحو ملائم بكلمات الشاعر زرلشت حفيظ:

الحسرة والأسى وهذه الأمسيات السوداء،

العيون المليئة بالدموع والأوقات المليئة بالحزن،

هذه القلوب المحترقة وقتل الشباب،

هذه التوقعات التي لم تتحقق وآمال العرائس التي لم تكتمل

“إنقاذ” المرأة الأفغانية والنهوض بقضية حقوق الإنسان: فقدت هذه الكلمات معناها بعد عقدين من الزمان. “في كل مرة “تنقذ” الولايات المتحدة بلداً فإنها تحوله إما إلى مستشفى مجانين أو إلى مقبرة”، هذا ما صاغه إدواردو غاليانو.

أليسيا ليال(كوبا)، الجندي الأميركي،1997.

تقدر حكومة الولايات المتحدة أن هذه الحرب، التي ستدخل عامها العشرين، هي أطول حرب أمريكية في الفترة الحديثة (استمرت مشاركة الولايات المتحدة في حرب فيتنام لمدة أربعة عشر عاما، من عام 1961 إلى عام 1975). لكن هذه الحرب في أفغانستان ليست أطول حرب خاضتها حكومة الولايات المتحدة؛ هناك حربان أمريكيتان مستمرتان: الحرب ضد جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية أو كوريا الشمالية (منذ أغسطس/ غشت 1950) والحرب ضد كوبا (منذ سبتمبر 1959). لم ينته أي من هذين النزاعين، مع استمرار الولايات المتحدة في شن حروب مختلطة على كل من كوريا الشمالية وكوبا. لا تتطلب الحرب الهجينة بالضرورة تعبئة الترسانة العسكرية الكاملة للجيش؛ إنها حرب يتم خوضها من خلال التحكم في المعلومات والتدفقات المالية وكذلك استخدام العقوبات الاقتصادية والوسائل غير المشروعة كالتخريب. لا شك أن أطول الحروب الأمريكية غير المكتملة هي تلك التي شُنت ضد كوريا وكوبا.

هبط اللواء 2506 التابع لوكالة المخابرات المركزية، قبل ستين عاما، تحديداً في 17 أبريل 1961، في شاطئ خيرون (“خليج الخنازير”) المتواجد بكوبا. قاوم الشعب الكوبي هذا الغزو كما فعل لمدة ستة عقود من الحرب المختلطة ضد عملياته الثورية السيادية. لم تهدد كوبا أبدا الولايات المتحدة؛ ولم تنتهك أبدا ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945. في المقابل لطالما دأبت الولايات المتحدة من جهتها على تهديد الشعب الكوبي؛ ففي أكتوبر 1962، عندما أرسل السوفييت غطاء صاروخيا لحماية كوبا، خطط الجنرال ماكسويل تايلور، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية في حينها، لغزو واسع النطاق. أشار تايلور، في هذه المذكرة التي رفعت عنها الآن السرية، إلى أن مثل هذه المجازفة العسكرية قد تسفر عن سقوط 18500 قتيل وجريح من الجانب الأمريكي بسبب تصميم الكوبيين على حماية أرضهم ومشروعهم السياسي. كانت هذه المؤامرة تهدف إلى إعادة الأوليغارشية الكوبية القديمة التي لجأت إلى ميامي وتحويل كوبا إلى جنة للعصابات.

بعد أن أرسلت الحكومة الكوبية قوات لتقديم المساعدة في مشروع التحرير الوطني في أنغولا في نوفمبر 1975، قال وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر، في 24 مارس 1976، لفريقه: “إذا قررنا استخدام القوة العسكرية فيجب عليها أن تنجح. يجب ألا تكون هناك أنصاف تدابير-  لن نحصل على مكافأة لاستخدام القوة العسكرية باعتدال. إذا قررنا تطبيق الحصار، فيجب أن يكون قاسيا وسريعا وفعالا”. خططت الولايات المتحدة لتلغيم ميناء هافانا وقصف المدن الكوبية. وقال كيسنجر للرئيس الأمريكي جيرالد فورد: “أعتقد أنه سيتعين علينا سحق كاسترو”، رد عليه فورد بالقول: “أنا موافق”. هذا هو موقف حكومة الولايات المتحدة منذ عام 1961 حتى وقتنا هذا.

كارلوس غارايكوا(كوبا)، لغز مالينكو،2009.

قبل أن يغادر منصبه في يناير 2021، وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كوبا على قائمة الحكومة الأمريكية “للدول الراعية للإرهاب”. لقد طلب 75 مشرّعاً أمريكيا من خليفته، جو بايدن، إلغاء هذا القرار؛ بينما صرحت جين بساكي، السكرتيرة الصحافية لبايدن، لغرفة الإحاطة الصحافية، في 16 أبريل، قائلة إن “تغيير السياسة الخاصة بكوبا أو اتخاذ خطوات إضافية ليس من بين أولويات السياسة الخارجية للرئيس”. بعبارة أخرى، قرر بايدن بشكل سلبي مواصلة سياسة ترامب، التي أملاها عليه أمثال السيناتورات الجمهوريين ماركو روبيو وريك سكوت من فلوريدا وتيد كروز من تكساس (الأمر نفسه بالنسبة للسيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز من نيوجيرسي). لقد اختار بايدن الاستمرار في هذه السياسة القاسية المستمرة منذ ستة عقود لخنق الشعب الكوبي.

وأوضحت حكومة الولايات المتحدة، مباشرة بعد الثورة الكوبية عام 1959، أنها لن تسمح بتواجد كوبا ذات سيادة على بعد 145 كيلومترا فقط من ساحل فلوريدا. ويمثل التزام كوبا تجاه الشعوب على حساب الربح اعتراضا مستمرا على نفاق حكام الولايات المتحدة. تم توضيح هذا مرة أخرى خلال هذه الجائحة، إذ كانت معدلات الإصابة والوفيات لكل مليون نسمة في الولايات المتحدة أعلى بشكل لافت للنظر منها في كوبا (تشير الأرقام الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة سجلت 1,724  حالة وفاة لكل مليون نسمة، بينما عرفت كوبا 476 حالة وفاة لكل مليون نسمة). وبينما حصرت الولايات المتحدة نفسها في قومية اللقاح، واصل لواء هنري ريف الكوبي من الأطباء عمله بين أفقر الشعوب في العالم (لهذا، بالطبع، يستحقون جائزة نوبل للسلام).

استمرت الولايات المتحدة، وهي التي لم تقدر على غزو كوبا بنجاح، في فرض حصار مشدد على الجزيرة. بعد سقوط اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية (الاتحاد السوفياتي)، الذي وفر لكوبا سبلاً للالتفاف على الحصار، حاولت الولايات المتحدة إحكام قبضتها على الجزيرة. هاجم المشرعون الأمريكيون عندئذ الاقتصاد الكوبي من خلال قانون الديمقراطية الكوبية (1992) والقانون من أجل الحرية والتضامن الديمقراطي الكوبي (1996) – يحمل كلا القانونين أسماء تحط من شأن الكلمات الواردة فيهما. منذ عام 1992 فصاعدا، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة لصالح إنهاء الولايات المتحدة لهذا الحصار. كتب مجموعة من المقررين الخاصين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بياناً دعوا فيه الولايات المتحدة إلى التراجع عن هذه الإجراءات، التي جعلت محاولة كوبا لمحاربة الجائحة أكثر صعوبة.

وأفادت الحكومة الكوبية بأنه بين أبريل 2019 ومارس 2020، خسرت كوبا 5 مليارات دولار من العمليات التجارية المحتملة بسبب الحصار؛ وقد خسرت ما يعادل 144 مليار دولار على مدى العقود الستة الماضية. وشددت الحكومة الأمريكية الآن العقوبات المفروضة على شركات الشحن التي تنقل النفط إلى الجزيرة؛ فقد وصف قائد القيادة الجنوبية الأمريكية، الأدميرال كريج فالر، الأممية الطبية لكوبا بأنها “نفوذ إقليمي مخرب”. هناك قسوة من جانب واشنطن.

بعيدا عن مرارة حكومة الولايات المتحدة، عقد الشيوعيون الكوبيون مؤتمرهم الحزبي الثامن، حيث دار النقاش حول كيفية تحسين مؤسسات الدولة وكيفية الابتكار لتلبية تطلعات الشعب الكوبي. قالت نائبة رئيس مجلس الدولة الكوبية، اينيس ماريا تشابمان، إنه يتوجب على أعضاء الحزب أن يكونوا نشطين في مجتمعاتهم لبناء الاشتراكية والدفاع عنها. وقال رافائيل سانتيستيبان بوزو، رئيس الرابطة الوطنية لصغار المزارعين، إنه يجب على العاملين أن ينتجوا أكثر مما هو متوفر من الموارد. كما أشار وزير الاقتصاد والتخطيط، أليخاندرو جيل، إلى الحاجة إلى مزيد من الكفاءة في نظام مؤسسات الدولة، وإلى توسيع نطاق العمل الحر والتعاونيات.

هؤلاء أشخاص جادون يدركون ماهية المشاكل ولكنهم لا ينبطحون أمامها؛ إنهم جزء من مشروع ناضل للدفاع عن سيادته ضد الصعاب الهائلة التي واجهته منذ عام 1959.. إن الهزيمة غير متواجدة في قاموسهم.. أجندتهم مفعمة بالأمل، على عكس الأجندة الشاحبة التي تأتي من حكومة الولايات المتحدة والأوليغارشية الكوبية التي تتخذ من ميامي مقراً لها.

لقد تنحى راؤول كاسترو، في هذا المؤتمر، عن منصبه. كان كاسترو، أحد الثوار الكوبيين الأوائل، الذين سُجنوا بسبب دورهم في انتفاضة مونكادا عام 1953.. عند إطلاق سراحه، ذهب مع شقيقه فيدل إلى المكسيك ثم عاد إلى غرانما لقيادة التمرد ضد الديكتاتور المدعوم من الولايات المتحدة، فولغنسيو باتيستا. بعد انتصار الثورة، خدم كاسترو في الحكومة وكزعيم في الحزب الشيوعي، حيث قاده إلى جانب فيدل وآخرين خلال الفترة الخاصة الصعبة (1991-2000) ثم استمر في قيادته بعد وفاة فيدل عام 2016..كان دوره المتسم بالهدوء في الدفاع عن الثورة الكوبية وبلورتها هائلا.

خوسيه رودريجوز فيوستر(كوبا)، غرانما، 2013.

بعد هجوم شاطئ خيرون المدبر من قبل وكالة المخابرات المركزية، كتب الشاعر الإسباني خايمي خيل دي بيدما قصيدة عن كوبا بعنوان “أثناء الغزو” (جُمعت في موراليدادس، 1966). قام الشاعر الفنزويلي دييجو سيكيرا بترجمة هذه القصيدة لنا في احتفالنا بالذكرى الستين لهزيمة الولايات المتحدة على تلك الشواطئ:

جريدة الصباح مفتوحة

فوق مفرش المائدة. تتوهج الشمس في الكؤوس.

الغداء في المطعم الصغير،

يوم عمل.

معظمنا صامت. شخص ما يتحدث بصوت مبهم؛

هذه محادثات مرفوقة بحزن خاص

حول الأشياء التي تحدث دائما

والتي لا تنتهي أبدا، أو تنتهي بالعار.

أعتقد أنه في هذا الوقت من اليوم، تشرق الشمس في سييناغا،

لم يتقرر أي شيء بعد، فالقتال لا يتوقف،

أبحث في الأخبار عن بصيص الأمل

الذي لن يأتي من ميامي.

يا كوبا في فجر المناطق الاستوائية البعيد،

عندما لا تكون الشمس حامية ويكون الهواء صافيا:

قد تبذر أرضك دبابات وتصبح سماؤك المكسورة

رمادية من أجنحة الطائرات.

معكم أهل قصب السكر،

رجل الترام، أولئك الذين في المطاعم،

الآلاف منا الذين يبحثون اليوم في العالم

عن بصيص الأمل الذي لن يأتي من ميامي.

الأمل يأتي من شمس كوبا الدافئة.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة