بيبلز ديسباتش/ مدار: 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2021
فيجاي براشاد*
السّير نحو حقبة سياسية جديدة في شيلي يعرف مسارين مهمين: كتابة الدستور الجديد، وهو ما ينكب على فعله 155 عضوا من المؤتمر الدستوري، بالإضافة إلى الانتخابات الرئاسية التي سيتم إجراؤها في 21 نونبر/ تشرين الثاني 2021.
تتبادر إلى ذهني وأنا أكتب هذا المقال جملة قالتها لي باربرا سيبولفيدا، عضو الجمعية التأسيسية في التشيلي والحزب الشيوعي التشيلي، في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2021: “يبدو الأمر وكأننا في نهاية حقبة”، في إشارة منها إلى عهد الجنرال أوغستو بينوشيه، الذي قاد الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة عام 1973 من خلال إطاحته بحكومة الرئيس سلفادور أليندي المنتخبة شعبيا. وعرفت حقبة بينوشيه، التي كان يتصرف فيها الجيش بحصانة كاملة، اغتيال اليسار وإرساله إلى المنفى، في حين نالت الشركات الكبرى (التشيلية والأجنبية) بركات الديكتاتورية الحاكمة. وهي الحقبة نفسها التي تم التخلص منها ببطء منذ الإطاحة ببينوشيه عام 1990، ومنذ أن صوت الشعب التشيلي لإلغاء دستور الديكتاتورية لعام 1980 وكتابة دستور جديد.
لقد ولدت النيوليبرالية في تشيلي، كما يقول الشعار الشعبي، وستموت في تشيلي. يبدو أن هذا الشعار تحقق مع نهاية عصر بينوشيه.
لم تخف سيبولفيدا تخوفها وآمالها في ما هو قادم في الوقت نفسه، موردة: “الجميع يعلم ألا شيء مؤكد”، وزادت “لكن ما نعتقده أن هذه الظرفية تعتبر فرصة لبدء حقبة جديدة”. وعلى امتداد عقد ونصف من إقالة بينوشيه، كان المشهد قاتما في البلاد، إلى أن هزت مجموعة من الاحتجاجات الطلابية البلاد عام 2006، أعطاها الطلاب الشباب الذين كانوا يرتدون زيهم الأبيض والأسود اسما تمثل في “ثورة البطريق”.
لقد طالب الشباب بمنهج وطني جديد، بالإضافة إلى تخفيض تكاليف النقل العام ورسوم الامتحان، لكن عندما فشلت الحكومة في تلبية هذه المطالب تمت التعبئة للاحتجاجات مرة أخرى في 2011-2013، حاملة المطالب نفسها؛ وقادتهم في هذا التحرك شخصيات تعتبر في وقتنا الحالي مهمة في المشروع اليساري في تشيلي – كاميلا فاليجو من الحزب الشيوعي وجورجيو جاكسون من الثورة الديمقراطية – ومرة أخرى لم تلاق مطالبهم آذانا صاغية وقوبلت بالجمود، حيث كان دستور 1980 حاجزا أمام طموحاتهم.
وبدأت الشرارة الثالثة من الاحتجاجات الطلابية في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول 2019 بعدما شهدت أسعار وسائل النقل ارتفاعا كبيرا. في بداية الأمر قادت مجموعة من المتظاهرين سميت “طيور البطريق” حملة تهرب من دفع الأجرة (تحت شعار “تهرب!”)، الأمر الذي قوبل بحملة قمع قاسية تجاه المتظاهرين وصلت إلى حد اشتباكات عنيفة مع الشرطة التشيلية.
في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 أصدرت الحكومة اليمينية، بقيادة الرئيس سيباستيان بينيرا، حالة طوارئ لأسبوعين، والتي خولت نشر الجيش التشيلي في الشوارع لكسر الاحتجاجات التي اشتدت. وأدى العنف الذي تم استخدامه لقمع الاحتجاجات إلى ظهور شعار Piñera Asesino (بينيرا القاتل) بين المتظاهرين ومؤيديهم.
وتقول سيبولفيدا عن التعبئة التي عرفتها احتجاجات 2019: “لقد نقلت أحداث 18 أكتوبر/ تشرين الأول محور [السياسة التشيلية] إلى اليسار”. ورغم أن الشرارة التي أطلقت الاحتجاجات كانت في البداية كرد فعل على ارتفاع تسعيرة النقل، إلا أن رد فعل الحكومة أوضح أن البلاد تواجه قضايا هيكلية أساسية أعمق بكثير، بما في ذلك، حسب قول سيبولفيدا، انعدام المساواة والفساد.
سيبولفيدا هي محامية ومشاركة في تأسيس جمعية المحاميات النسويات في تشيلي (ABOFEM) عام 2018، وشغلت منصب المديرة التنفيذية للجمعية خلال احتجاجات عام 2019. لقد رأت المحامية، أثناء الاحتجاجات، أن تغيير مثل هذه القضايا الهيكلية لا يمكن أن يتم من داخل النظام الحالي، فمن وجهة نظرها كانت البلاد في أمس الحاجة على الأقل إلى دستور جديد وحكومة أكثر تقدمية، ومن هنا توسع الاحتجاج ليشمل مطالب الحركة النسوية وحركة السكان الأصليين، ما دفع باتجاه تغييرات اقتصادية واجتماعية أوسع لمعالجة عدم المساواة من جذورها.
مساران في طريق النضال
من المهم الوضع في الاعتبار أن تشيلي تعيش في الوقت الحالي حقبة جديدة يميزها مساران: الأول يتجلى في إخراج دستور جديد، ينكب عليه 155 عضوا في الجمعية التأسيسية، والثاني هي الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في 21 نونبر/ تشرين الثاني 2021.
بدأ الجمعية التأسيسية في العمل ابتداء من يوليوز/ تموز 2021، حيث تم انتخاب الرئيسة إليسا لونكون، ونائب الرئيسة خايمي باسا؛ ويعتبر كلاهما ميالان أكثر إلى اليسار. وإلى حدود الآن قامت الجمعية بصياغة قوانينها المنظمة التي تعتبر حسب سيبولفيدا الجزء الأكبر من العمل، كما بدأ النقاش حول القضايا الجوهرية في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، لما يمثله التاريخ من رمزية – مرور عامين على الموجة الثالثة من الاحتجاجات -.
وعبرت سيبولفيدا عن ثقتها في أن القوانين المتعلقة بالحقوق الاجتماعية – من أجل البيئة والمساواة بين الجنسين – ستكون لها الأولوية، مسترسلة بأن هذا النوع من التغيرات الاجتماعية “أمر حتمي” حتى لو قوبلت بكولسة من اليمين قصد منعها؛ كما لم تخف أن الخلاف الحقيقي سيكون منصبا على تطوير النموذج الجديد، وهل سيتراجع الدستور الجديد عن برنامج التقشف الهيكلي الذي لم تتمكن فترة ما بعد بينوشيه حتى الآن من تقويضه.
قضيت في 14 أكتوبر/ تشرين الأول بضع ساعات مع جورجيو جاكسون، أحد القيادات الطلابية في احتجاجات 2011-2013، وهو عضو في مجلس النواب التشيلي ومستشار مقرب من حملة غابرييل بوريك الرئاسية – زعيم حزب جبهة أمبليو (الجبهة الموسعة) وائتلاف أبريبو ديجنداد (من أجل ترسيخ الكرامة)، وهو مرشح اليسار في الانتخابات الرئاسية في نونبر/ تشرين الثاني – كما شارك جاكسون في صياغة بعض عناصر النموذج التنموي الجديد الذي ستتبناه إدارة بوريك، والذي يقوم، في حالة الفوز، على اتباع ميزانية بينيرا في السنة الأولى من الرئاسة، مع إجراء بعض التغييرات الصغيرة فقط. وأخبرني جاكسون في هذه الجلسة بأنه سيتم منذ البداية إعطاء الأولوية والضغط من أجل إصلاح نظامي الصحة والمعاشات التقاعدية، وهما مجالان يمثلان مركز محن الشعب التشيلي.
كما ركز جاكسون على أن بناء أنظمة قوية للصحة العامة والمعاشات التقاعدية يتطلب استثمارا ماليا، ستقوم الحكومة اليسارية بتجميعه من خلال فرض ضرائب على استخراج النحاس، وأيضا عبر ضمان منع التهرب الضريبي بشكل أفضل، موردا أن مثل هذه الأجندة ستعمق النقاش حول نموذج التنمية الجديد.
لكن، يعترف جاكسون بأن الناس غير مرتاحين للكيفية التي سيتم من خلالها تحقيق المصلحة العامة. يرى دانيال جادو، الزعيم الشيوعي وعمدة ريكوليتا، أن الخلاف الحقيقي سيكون حول السياسة الاقتصادية والاجتماعية، كما أنه أخبرني بأن الإجابات عن مشاكل تشيلي يمكن أن تنبثق من التعاون الوثيق بين البلديات، وأشار إلى أنه إذا كانت لدى الناس تجربة إيجابية مع توفير الخدمات العامة المحلية والاجتماعية فقد يؤدي ذلك إلى تغيير الشعور العام بالريبة المحيطة بتوسيع أنظمة الصحة العامة والمعاشات التقاعدية في البلاد. ويعتبر عمل رؤساء البلديات مثل جادو أمرا حاسما للمشروع العام لبناء نموذج تنموي جديد.
وبالنظر إلى المعطيات المحيطة بالانتخابات الرئاسية المقبلة فإن بينيرا لا يستطيع الترشح لإعادة انتخابه، فهو لا يحظى بشعبية كبيرة، في حين يتمتع الفاشي المنفتح – خوسيه أنطونيو كاست – بشعبية مهمة، لكنه يواجه تحديا من قبل مرشحة يمين الوسط ياسنا بروفوستي للحصول على أصوات اليمين. في غضون ذلك، بدأت بعض القوى الرأسمالية في الفرار من تشيلي تحسبا للتغييرات الدستورية التي تعتبر أكثر تقدما مع احتمال بدء رئاسة بوريك بعد انتخابات نونبر/ تشرين الثاني.
في أحد الأركان من غرفة الجلوس الخاصة بباربرا سيبولفيدا تتراءى لنا مجموعتها المكونة من مكعبات روبيك متفاوتة الصعوبة، فتقوم باختيار واحد من هذه المكعبات لتقوم بحلها. تقول عن المكعب الذي اختارته، ويبدو في الوهلة الأولى أنه من المستحيل فك تشابكه: “هذا أسهل مما هو ظاهر، فالمكعب رمز عظيم لشيلي”. إذا تمكن أشخاص مثل سيبولفيدا وجادو وجاكسون وبوريك من إيجاد طريقة لحل الألغاز التي أمامهم فربما يكون هناك وضوح أكبر بشأن الحقبة الجديدة في تشيلي.