مدار: 14 كانون الثاني/ يناير 2024
بات واضحا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، طرق تعامل الإعلام الغربي بشكل عام، والأمريكي تحديدا، مع القضايا التي تتعارض من السياسات الخارجية الرسمية لبلدانهم. وإذا كانت واشنطن وحلفائها الغربيين قد دعموا بقوة حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فليس من الغريب من أن تحذو الشركات الإعلامية الغربية الكبرى حذوها.
نعلم أن الإعلام يلعب أدوارا حاسمة في صناعة الرأي العام المحلي والدولي، وبالتالي التأثير على السياسات التي يتم اعتمادها من طرف الدول والهيئات الدولية ذات الصلة؛ ويصبح الأمر أكثر حساسية حين يتعلق الأمر بحرب عدوانية على قطاع غزة، خلفت حتى الآن ما يقارب 24 ألف شهيد، وما يزيد عن 60 ألف جريح، وآلاف المفقودين، وخراب المنشآت والبنى التحتية.
الإعلام الغربي والأمريكي كان رأس الرمح في تبرير حرب الإبادة الصهيونية في غزة، والتغطية على جرائم الإحتلال الإسرائيلي في القطاع، مقابل تهميش الجانب الفلسطيني من القصة.
في هذا التحليل، نظهر جانبا صغيرا من هذا الانحياز، و الفشل المدوي لعينة من كبريات المنابر الإعلامية الأمريكية في اختبار المصداقية.
تم عرض أحداث تشرين الأول/أكتوبر في وسائل الإعلام الأوروبية والغربية كـ “هجوم صادم على إسرائيل”، أو “هجوم إرهابي على المدنيين الإسرائيليين”. في المقابل، لم يُعترف بالضحايا الفلسطينيين المدنيين، وتم تصويرهم على أنهم جزء من حملة “دفاع عن النفس” واسعة النطاق، وليسوا ضحايا لجريمة إبادة جماعية.
تظهر هذه الأخبار توافقًا كبيرًا مع اتجاهات السياسة الغربية، بما في ذلك استبعاد خصائص الاحتلال وتصوير الجانب الإسرائيلي كـ “ضحية”.
ويكشف الخط التحريري الذي اعتمدته الشركات الإعلامية العالمية الكبرى تحيزًا صارخا نحو الرواية الإسرائيلية، وتجاهل الجانب الآخر من القصة، ويكشف النموذج الإعلامي السائد عن توجه يُعرف بـ “إعلام ما بعد الحقيقة”، حيث تتحكم الأكاذيب والعواطف والمعتقدات في توجيه وسائل الإعلام الرئيسية بعيدًا عن الواقع والحقائق على الأرض.
تأكيدا لذلك، أبرز تحليل جديد، أنجزه موقع “ذي انترسبت”، التحيز الواضح في تغطية العدوان الإسرائيلي على غزة في كبريات الصحف الأمريكية، تشكل “نيويورك تايمز”، “واشنطن بوست” و”لوس أنجلوس تايمز” نموذجا بارزا لها.
وتظهر وسائل الإعلام المطبوعة في الولايات المتحدة، التي تلعب دورًا حاسمًا في توجيه وجهات النظر العامة، تحيزًا واضحًا لصالح الاحتلال الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين، خاصةً فيما يتعلق بحملة الحصار والقصف الذي أوقع ما يقارب 24 ألف شهيد حتى الآن، معظمهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى عدد غير مسبوق من الصحفيين.
تسلط الصحف الأميركية الكبرى الضوء بشكل متباين على الوفيات الإسرائيلية، باستخدام لغة عاطفية لوصف الهجمات التي تستهدف الإسرائيليين، مقارنة بالتجاهل الكبير للجرائم الإسرائيلية المتكررة التي استهدفت الفلسطينيين. ويظهر التحليل المذكور أن اللغة المستخدمة تميل إلى تبرير الأفعال الإسرائيلية بشكل أسرع وأكبر مما تفعل مع الفلسطينيين.
أظهرت الإحصائيات التي جمعها “ذي انترسبت” الذي حلل أكثر من 1000 مقال على الصحف الثلاث المذكورة، وجود تفاوت كبير في التغطية، حيث تفضل الروايات الإسرائيلية بشكل واضح، على حساب الوقائع في فلسطين، كما تبيّن استخدام مصطلحات عاطفية مثل “مذبحة” و”المروعة” و”مجزرة” بشكل أكبر لوصف الوفيات الإسرائيلية مقارنةً بالوفيات الفلسطينية، ما يبرز التفاوت الواضح في التناول الإعلامي للأحداث.
ويَعكِس هذا التحليل الأخطاء الجسيمة في تغطية وسائل الإعلام للعدوان، حيث يُظهر تجاهلًا ملحوظًا للأوضاع الإنسانية والأوجه المأساوية للحياة في غزة، مما يسلط الضوء على المخاطر المرتبطة بتجاوز قيمة حياة الفلسطينيين بشكل روتيني.
ويتناول التحليل الأسابيع الستة الأولى من العدوان، مُظهرًا الفجوة الواضحة في التغطية بين القتلى الفلسطينيين والإسرائيليين. فعلى الرغم من وقوع أكثر من 22 ألف شهيد فلسطيني (حينها)، بينهم أكثر من 6 آلاف طفل، تركز التقارير بشكل متحيّز على الوفيات الإسرائيلية.
التحقيق يشير إلى أن الاستخدام المفرط لمصطلحات مثل “مذبحة” و”مروعة” و”مجزرة” كان موجهًا تمامًا لوصف قتل الإسرائيليين من قبل الفلسطينيين، مما يبرز التحيز الكبير في لغة التقارير. ينتقد هذا التحليل عدم إضفاء الطابع الإنساني على الفلسطينيين ويشير إلى صعوبة إثارة التعاطف معهم في الولايات المتحدة.
ويُسلط التحليل الضوء أيضًا على عدم التناسب في الإشارة إلى الوفيات، حيث يُذكر الإسرائيليون بمعدل 16 مرة أكثر من الفلسطينيين في تغطية الصحف، ويختم بالتحذير من المخاطر السياسية للدعم الأعمى لإسرائيل، كما يشدّد على أهمية تصحيح التغطية الإعلامية للواقع الفلسطيني.
الصحف الرئيسية، مثل “نيويورك تايمز” و “واشنطن بوست” و “لوس أنجلوس تايمز”، لم تُبرز بشكل كافٍ أطفال غزة ضحايا الإبادة الإسرائيلية، إذ ظهرت كلمة “أطفال” في عنوانين فقط من بين أكثر من 1100 مقال تم تحليله. وحتى عندما نشرت “نيويورك تايمز” قصة على الصفحة الأولى حول تاريخ قتل النساء والأطفال الفلسطينيين، لم تبرز الكلمة في العنوان الرئيسي.
رغم أن العدوان على غزة ربما يكون الأكثر دموية للأطفال الفلسطينيين في التاريخ الحديث، فإن الكلمات المتعلقة بالأطفال لم تظهر بشكل واضح في عناوين المقالات التي فحصها موقع “ذي انترسبت”.
أما فيما يتعلق بالصحافيين، فظهرت كلمات مثل “صحفيون” و”مراسلون” في تسعة عناوين فقط من بين أكثر من 1100 مقال.
وللتذكير، قُتل ستة صحفيين في الأسابيع الستة الأولى من الحرب الأوكرانية، مقارنة بـ48 في الأسابيع الستة الأولى من القصف الإسرائيلي على غزة.
في ذلك الوقت، تجاوز عدد الأطفال الشهداء نتيجة جريمة الإبادة الإسرائيلية 10 آلاف طفل، إلا أن مأساتهم لم تحظى بالتغطية الكافية في وسائل الإعلام الرئيسية الأمريكية، بينما أشارت بعض التقارير إلى المخاطر التي يواجهها الصحفيون هناك، دون الإشارة إلى المتسبب في مقتلهم (إسرائيل)؛ ويصبح الأمر متناقضا أكثر حين يتعلق الأمر بالصحفيين الفلسطينين.
ويشير التحليل إلى أن عدم تناول هذه القضايا يعد تحيزًا نوعيًا وكميًا.
ويشار إلى أن عدد الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا في الأسبوع الأول من القصف الصهيوني على القطاع المحاصر أكبر من عدد الأطفال الذي قتلوا خلال العام الأول من الحرب الروسية على أوكرانيا؛ لكننا نرى الإعلام الغربي يولي أهمية هائلة للأحداث في أوكرانيا دون أن يعير الاهتمام نفسه للأطفال الفلسطينيين.
يتناول التحقيق أيضًا اللغة المستخدمة في التقارير، ويبيّن التمييز في استخدام مصطلح “الأطفال” عند الحديث عن الشباب الإسرائيليين بينما يُشير إلى الشباب الفلسطينيين بأنهم “أشخاص تقل أعمارهم عن 18 عامًا”.
وتُظهر البيانات أن الصحف أولت اهتمامًا أكبر للهجمات المعادية للسامية بنسبة أكبر من تلك التي تستهدف المسلمين، مع تركيز غير متناسب على ما تصفه بـ “العنصرية تجاه الشعب اليهودي”.
ورغم وجود أمثلة على معاداة السامية والعنصرية المعادية للمسلمين، يُظهر التحليل أن الإعلام الرئيسي الأمريكي يُركز بشكل أساسي على قضايا معاداة السامية، بنسبة 87% مقارنةً بـ 13% لكراهية الإسلام.
ويتضح أيضًا أن التقارير حول عمليات القتل في غزة لا تحظى بالتغطية المناسبة، حيث يتم عرضها كأرقام مجردة دون استخدام لغة عاطفية تعبر عن الوحشية الحقيقية لتلك الأحداث.
المصدر ذاته، يُسلط الضوء على التناقض في التقديم الإعلامي للأحداث والذي يُظهر الفلسطينيين غالبًا بصورة أقل إنسانية.
يؤثر هذا التحيز على تصورات الجمهور ويوجههم نحو رؤية مشوهة للصراع.
الجيش الإسرائيلي يتحكم في خط تحرير الـ “CNN”
أظهر تقرير إعلامي حديث أن كل صحفي يعمل لدى شبكة “CNN” ويقوم بتغطية القضايا التي لها علاقة بإسرائيل وفلسطين، سواء كان من منطقة الشرق الأوسط أو الولايات المتحدة أو أي مكان آخر في العالم، يخضع لإجراءات رقابية صارمة.
ويفرض على هؤلاء الصحفيين تقديم عملهم للمراجعة في مكتب الشبكة الإعلامية الأمريكية في القدس، وفقًا لسياسة طويلة الأمد خاصة بـ “CNN”.
وبالرغم من ادعاء الشبكة بأن هذه السياسة تهدف إلى ضمان دقة التقارير حول المواضيع “الحساسة”، فقد تبين أن العديد من التقارير الأخيرة حول الحرب في غزة قد تم إعدادها تحت إشراف مراقب عسكري من جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وتخضع جميع المؤسسات الإخبارية الأجنبية العاملة في إسرائيل، بما في ذلك مكتب “CNN” في القدس، لقواعد الرقابة التي يفرضها جيش الاحتلال، إذ تحدد هذه القواعد المواضيع المحظورة وتفرض رقابةً صارمة على المقالات التي يعتبرها الجيش غير مناسبة أو غير آمنة للنشر.
وكشف موقع “ذي انترسبت”، مؤخرًا، أن الرقابة العسكرية الإسرائيلية قيدت مواضيع حساسة، بما في ذلك اجتماعات الكابينيت الأمني ومعلومات حول الرهائن وتقارير حول الأسلحة في غزة.
للحصول على تصريح صحفي في إسرائيل، يُفرض على المراسلين الأجانب التوقيع على وثيقة تلزمهم بالامتثال لإملاءات الرقابة.
وتؤشّر سياسة “CNN” تجاه الأحداث في فلسطين عن تناقض واضح مع السياسات التي تبنّتها وسائل الإعلام الأخرى، والتي تنشر قصصًا حساسة من خلال مكاتب خارج إسرائيل لتجنب الضغوط الحكومية.
بالإضافة إلى القواعد الرسمية، فقد أصدرت “CNN” توجيهات لموظفيها بشأن استخدام لغة معينة وتجنب عدة مصطلحات عند تغطية العنف في قطاع غزة، كما قامت بتعيين جندي سابق من الجيش الإسرائيلي كمراسل في بداية الحرب.
وصرّح أحد أفراد طاقم “CNN”، الذي تحدث إلى “ذي انترسبت” شريطة عدم الكشف عن هويته، إن سياسة المراجعة الداخلية تأثر بشكل واضح على تغطية الحرب في غزة، مضيفا أنه يتعين الحصول على موافقة من مكتب القدس أو من مجموعة محددة مختارة من قبل المكتب والإدارة العليا، على كل سطر يتعلق بإسرائيل وفلسطين، وفي حالة عدم توفر موظفين للموافقة، يتم تحرير السطور باستخدام تعديلات بسيطة تفضل الروايات الإسرائيلية.
لا تعكس هذه الوقائع انحياز الشبكة إلى الرواية الإسرائيلية فحسب، بل حجم الضغوط التي يتعرض لها الصحفيون الذين يجدون أنفسهم تحت رحمة الرقابة الذاتية والخارجية، والخوف من الانتقام أو فقدان الاعتمادات الصحفية.
وتضرب هذه السياسية في مبدأ الاستقلالية وحرية الصحافة، كما تكرس التلاعب بالقصص والتحكم فيها من طرف جهات حكومية.
وصف موظف في “CNN” كيفية تطبيق هذه السياسية الرقابة بالقول: “كلمتا ‘جريمة الحرب’ و’الإبادة الجماعية’ محظورتان”، وأضاف أنه “لن يتم الإبلاغ عن التفجيرات الإسرائيلية في غزة باعتبارها ‘تفجيرات’ دون الإشارة إلى المسؤولية، حتى يقرر الجيش الإسرائيلي قبولها أو إلغاءها. تتجه الاقتباسات والمعلومات المقدمة من الجيش الإسرائيلي والمسؤولين الحكوميين نحو الموافقة السريعة، في حين تتعرض تلك الواردة من الفلسطينيين لفحص دقيق ومعالجة بطيئة”.