بورما وحروب الأفيون

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

لينيا إنترناسيونال/ مدار: 07 كانون الأول/ ديسمبر 2025

غوادي كالفو

يميل المرء إلى القول إن الأفيون كان، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، بطلاً رئيسياً في العديد من الحروب وممثلاً ثانوياً في حروب أخرى، تماماً كالذهب والنفط، وقبل أي سبب آخر باستثناء الدين، وإن كان كل شيء ينتهي دائماً في نهاية المطاف إلى الاقتصاد، ذلك الأمر السخيف.

قرر البريطانيون احتكار توزيع وإنتاج الأفيون الهندي ـ الذي كان يُنتج في ولايات ماديا براديش وراجستان وأوتار براديش ـ منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر لتصديره إلى الصين، وذلك لمعادلة عجزهم التجاري مع «الإمبراطورية السماوية» الناجم عن الواردات الضخمة من الشاي والحرير والخزف.

وعلى الرغم من وصول الأفيون إلى الصين منذ القرن الخامس عشر، إلا أن استخدامه كان يقتصر على الطب التقليدي؛ لذا كان استهلاكه نادراً لكونه منتجاً شحيحاً وباهظ الثمن.

وبهذه الآلية، تمكنت لندن، متجاوزةً الحظر الذي فرضته الحكومة الصينية عام 1839، من تصحيح الميزان التجاري، غير مكترثة بأن معدلات الاستهلاك المرتفعة ولّدت مشاكل اجتماعية وصحية بالغة الخطورة في الصين. وقد أدى ذلك في النهاية إلى ما عُرف بحروب الأفيون في القرن التاسع عشر (الأولى 1839-1842 والثانية 1856-1860). وانتهت هاتان الحربان بإخضاع الصين بالكامل وإجبارها على فتح موانئها تماماً أمام الأفيون، وفقدان جزيرة هونغ كونغ منذ عام 1842 حتى 1997، وابتلاء السكان بمعدلات إدمان مرتفعة للغاية ـ قُدرت بنحو عشرين مليون مدمن ـ حتى انتصار ماو تسي تونغ عام 1948.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تستخدم واشنطن مكتبين سابقين لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ـ التي لم تتأسس إلا عام 1947 ـ للسيطرة على «المثلث الذهبي»، وهي منطقة تقع بين تايلاند وبورما ولاوس، حيث انتقلت مزارع الخشخاش الكبرى من الهند، وحيث تركزت أيضاً عمليات تصنيع وتوزيع الأفيون عالمياً.

قامت الولايات المتحدة، عقب انخراطها في حرب التحرير الفيتنامية عام 1965 ـ وهو صراع بدأته فرنسا سنة 1946 ـ بزيادة الإنتاج والاتجار من «المثلث» لتمويل العمليات الأكثر قتامة المحيطة بتلك الحرب. وبحلول أوائل السبعينيات، ومع وجود قوات لا تزال قريبة من ذروة تواجدها (نصف مليون رجل)، كان حوالي ثلاثين ألفا منهم مدمنين بالفعل على الهيروين المنتج في لاوس.

وكشفت تحقيقات صحفية أن قيادات عليا في القوات الأمريكية، بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية، استخدمت «بنك نوغان هاند» (Nugan Hand Bank) في سيدني لغسل العائدات، ليس فقط من تجارة المخدرات، بل ومن تجارة الأسلحة أيضاً، وهو البنك الذي انتهى به المطاف للإفلاس عام 1980. تأسس البنك عام 1973 بمبلغ ثمانين دولاراً فقط، على يد فرانك نوغان، الملياردير الأسترالي الذي ظهر منتحراً في ظروف غريبة، وعميل سابق في الاستخبارات المركزية يدعى مايكل جون هاند، الذي ظل هارباً منذ ذلك الحين وحتى عام 2015.

طوال حرب فيتنام، ولا سيما في لحظات التواجد الأمريكي الأكبر (1968)، ظل الإنتاج الضخم للأفيون ـ الذي كان قد انتقل بالفعل من الهند إلى المثلث الذهبي في أوائل القرن العشرين ـ عند أعلى مستوياته.

ومرة أخرى، انتقل مركز زراعة وإنتاج الأفيون إلى أفغانستان، وهي ظاهرة أصبحت المصدر الرئيسي لتمويل المجاهدين خلال الحرب ضد السوفييت (1979-1992)، واستمر استخدامها في الحرب الأهلية التي تلت الانسحاب السوفيتي بين طالبان وأمراء الحرب، واستمرت حتى وصول الأمريكيين عام 2001 وعلى مدار العشرين عاماً التالية، حتى انتصار الملالي في آب/ أغسطس 2021.

ومع الفتاوى التي أصدرها الملالي ضد كل ما يتعلق بتجارة الأفيون، انخفض الإنتاج الأفغاني إلى مستويات غير مسبوقة في الأربعين عاماً الماضية بنسبة 95% وفقاً لتقرير للأمم المتحدة؛ إذ تقلصت مساحات زراعة الخشخاش من 233 ألف هكتار في نهاية عام 2022 إلى أقل من 11 ألفاً بعد عام واحد فقط.

وهذا الأمر لم يكن بلا ثمن لحكومة الإمارة الإسلامية الجديدة، إذ ولّد بالفعل احتجاجات ومناوشات كبيرة مع المنتجين الذين تكبدوا خسائر مادية فادحة، حيث لم يمثل الأفيون المصدر الأكبر للدخل فحسب، بل كان المصدر الوحيد بفارق كبير، إلى حد تحول أفغانستان إلى المصدر الأول عالمياً.

ومع انتصار طالبان، تغلبت المفاهيم الدينية الصارمة للملالي على براغماتية الاحتياجات الاقتصادية، مما أدى مرة أخرى إلى تغيير المركز العالمي لإنتاج الأفيون.

أفق جديد للأفيون

عجّل الانهيار السياسي الذي أعقب انقلاب الأول من شباط/ فبراير 2021 بدفع بورما إلى حرب أهلية بين «التاتماداو» (الجيش البورمي) وأكثر من اثنتي عشرة ميليشيا عرقية وسياسية ودينية وإقليمية.

ويهدد الصراع، بعد خمس سنوات من بدئه، بتفكك البلاد التي تتجاذبها قوى مختلفة (الهند والصين)، وبطبيعة الحال الولايات المتحدة التي تطمح إلى حجب نفوذ بكين واستثماراتها القوية، ليس فقط لدى المجلس العسكري، بل أيضاً لدى قيادة بعض الميليشيات المتمردة، وخاصة في الشمال، مثل «تحالف الأخوة الثلاثة» (3BHA) المكون من «جيش التحالف الوطني الديمقراطي الميانماري» (MNDAA)، و«جيش أراكان» (AA)، و«جيش التحرير الوطني لـطاانغ» (TNLA)، بالإضافة إلى دعم ميليشيات ولاية شان المتاخمة لمقاطعة يونان الصينية.

في هذا السياق، بدأت عصابات المخدرات ـ كما حدث في مرات سابقة ـ بتشجيع المزارعين البورميين، المثقلين بالأزمة الاقتصادية التي جلبتها الحرب عليهم، على الخوض في إنتاج الأفيون، مما حول بلادهم في عام 2023 إلى المنتج الأول عالمياً، بمتوسط 1080 طناً سنوياً، بينما يقف الإنتاج الأفغاني عند 300 طن. ويمثل ذلك ما بين مليار و2.4 مليار دولار أمريكي.

ووفقاً لتقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، شهد نمو الزراعات غير المشروعة في بورما زيادة بلغت حوالي 20% في غضون عام ونيف، وذلك بعد عدة سنوات من التراجع. وهي عملية توقفت بدءاً من عام 2020، مدفوعة بارتفاع الأسعار عالمياً نتيجة لانخفاض الإنتاج الأفغاني.

فقد ارتفعت مساحات الخشخاش من حوالي 45 ألف هكتار في 2024، لتصل إلى 53 ألفاً هذا العام، مما جعل بورما أكبر منتج لهذا المخدر في العالم، مدفوعة بالانخفاض الحاد في الأفيون الأفغاني. بينما تشير التقديرات إلى أن المزارع البورمية ستواصل توسعها.

سُجلت أكبر الزيادات في الزراعة في شرق ولاية شان، التي تحتل حوالي ربع مساحة البلاد، وتتخللها المنحدرات والمرتفعات المكسوة بالغابات الكثيفة. ومع زيادة بنسبة 32%، تُعد هذه الولاية أكبر مصنع للأفيون في بورما، إذ تمثل حوالي نصف إجمالي أراضي الزراعة.

ومن بين المناطق الجديدة التي فُتحت لزراعة الأفيون، تظهر لأول مرة منطقة «ساغايينغ» في شمال غرب البلاد بمساحة 552 هكتاراً، وتتمتع بـ«ميزة» وجود حدود مشتركة مع ولايتي ناغالاند ومانيبور الهنديتين، مما قد يسهل تصديره.

في سياق الحرب والتفكك هذا، يُعِد «التاتماداو» للانتخابات العامة في الثامن والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، وهو مشروع قوبل بانتقادات منذ الإعلان عنه.

وفي هذا الإطار، يُعتقد أن النتائج التي ستُعلن في كانون الثاني/ يناير ستكون مزوّرة بالكامل لصالح الأحزاب الموالية للمجلس العسكري، بينما يقبع قادة المعارضة الرئيسيون في السجون أو في عداد المفقودين أو في المنفى.

يعد هذا إجراءً يائساً من جانب «التاتماداو» في محاولة لاكتساب الشرعية أمام الرأي العام الدولي. وفي الوقت الذي لا تبدو فيه أي دولة على المستوى العالمي مهتمة بحل الحرب، يبدو أن المنتصر الواضح في هذه الحرب هو الأفيون، كعادته دائماً، بغض النظر عن المكان الذي تدور فيه المعارك.

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

مقالات ذات صلة