مدار: 01 نيسان/ أبريل 2021
يعيش الشعب اللبناني منذ مدة ليست بالقصيرة على وقع أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية متتالية، زادها تأزما انفجار مرفأ بيروت وتداعياته؛ لكن ما يعيشه اليوم جراء تردي الوضع المالي والانهيار التام للاقتصاد بعد تهاوي قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار جعل الوضع أكثر فداحة.
هذا الواقع اللبناني ليس وليد الصدفة، بل هو تحصيل حاصل لسنوات من السياسات الفاشلة وتوالي حكومات لم تقدم شيئا للبلد غير تعميق الأزمات والتناحر الطائفي بين مختلف مكونات المجتمع، وتعزيز الفوارق بينهم ورهن ثروات البلاد للمؤسسات الخارجية، واستغلال النفوذ والمناصب لمصالح شخصية وحزبية، حسب ما يردده نشطاء الحراك الشعبي الأخير.
ولا يمكن نقاش الأزمة الاقتصادية اللبنانية بمعزل عن نقاش النظام السياسي الذي يؤثر بشكل مباشر على كل المجالات الأخرى. هذا النظام القائم على أساس طائفي يتمثل في شكل أحزاب سياسية طائفية تتقاسم الأدوار والمهام في ما بينها حسب التقسيم الذي يكفله الدستور اللبناني.
وتشل هذه الأحزاب قدرة الدولة على متابعة الفساد والنهب وملاحقة الانتهاكات الحاصلة ومتابعة المسؤولين ومحاسبتهم أو حتى مساءلتهم، فعلى سبيل المثال إلى حدود الساعة لم تتحمل أي جهة معينة مسؤولية انفجار مرفأ بيروت، ولم تتوجه أصابع الاتهام إلى أي طرف، وهذا ما ينطبق على باقي قضايا الفساد الأخرى.
امتد هذا الفساد ونهب الخزينة العامة لأكثر من 30 عاما كما صرحت بذلك الدكتورة ليلى نقولا، أستاذة العلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية، لإحدى القنوات الإخبارية العربية، مردفة: “حوالي 52 مليار دولار من خزينة الدولة لا يُعرف كيف صُرفت ولا أين تبددت”؛ كما طالبت بضرورة فتح تحقيق جنائي لمتابعة الأموال المنهوبة، “ما ترفضه الطبقة السياسية الحاكمة، وتلجأ في المقابل إلى التلاعب بسعر الدولار وبمصير الشعب اللبناني في انتظار حصولها على عفو عام عن كل هاته الجرائم المالية”، وفق تعبيرها.
أما من الجانب الاقتصادي فإن السياسات الاقتصادية التي جاء بها رفيق الحريري، والمعمول بها في لبنان منذ التسعينيات، جعلت منه اقتصادا ريعيا يعتمد بالأساس على السياحة والخدمات بدل الإنتاج الوطني، ويغيب فيه أي نشاط صناعي أو فلاحي، ما يجعل الاستيراد الخارجي المورد الوحيد لكل المواد الاستهلاكية والموارد الطاقية من الدقيق إلى الكهرباء… ما أثقل كاهل خزينة الدولة وأغرقها في المديونية، إلى أن أصبحت عاجزة عن سداد ديونها وعن استيراد مواد أخرى من جديد تسد حاجيات الشعب اللبناني.
في ظل هذا الوضع اضطر مصرف لبنان المركزي إلى أن يصرف من رصيده، وبدأ يستخدم إيداعات المودعين الموجودة بالبنوك، خاصة الضخمة منها والمودعة بالدولار من أجل دعم المواد الغذائية الأساسية، ما استنزف الرصيد المالي والاحتياطي للبلد. كما اضطرت البنوك من وقت لأخر أن تمنع المواطنين من سحب أموالهم.
كل هذا تسبب في انهيار تام وغير مسبوق لليرة اللبنانية التي خسرت ما يعادل 85 بالمائة من قيمتها، وارتفاع ناري في أسعار المواد الأساسية، قابله تدهور عام للقدرة الشرائية للمواطن اللبناني وصل بها إلى حد العجز.
كل العوامل الداخلية لا تنعزل عن السياق الإقليمي والدولي الذي يشكل بدوره ضغطا واضحا على الاقتصاد اللبناني، والذي ذكرته أيضا الدكتورة ليلى في التصريح السابق، إذ أوضحت: “لا شك أن ضغوط ترامب على إيران وحلفائها أدت إلى الضغط على الاقتصاد اللبناني ونظامه المصرفي، ما أدى إلى وقف التحويلات الخارجية وعدم التعامل مع القطاع المصرفي اللبناني بشكل مريح”.
ورغم أن لبنان يعيش أزمة تعتبر الأشد في تاريخه إلا أن القوى السياسية مازالت تغرق في جدالاتها وحساباتها الضيقة بمعزل عن كل التطورات، فمازال النزاع حول تشكيل الحكومة قائما منذ أن كلف رئيس الجمهورية ميشيل عون سعد الحريري يوم 22 أكتوبر\ تشرين الأول 2020 بذلك.
هذه الولادة العسيرة للحكومة الجديدة لم تتم بعد رغم كل المحاولات الداخلية والخارجية للوصول إلى توافق يرضي كل الأطراف السياسية، ويقرب وجهات نظرها. إلا أن هذه القوى لم تصل بعد إلى حسم صراعاتها ولا تستطيع التنازل عن حساباتها الضيقة، حتى وإن كان من أجل المصلحة العامة في هذه الفترة العصيبة، رغم وعيها بأن تأخير تشكيل حكومة جديدة لن يزيد الوضع إلا سوءا.
هذا التأخير يخضع بدوره لضغوط خارجية، فالكل يعرف أن سعد الحريري مقيد بشروط المملكة السعودية التي تدفعه باتجاه تشكيل حكومة بدون حزب الله، ما وصفه المتتبعون للشأن اللبناني بالشّرط التعجيزي، إذ يستحيل تشكيل حكومة لبنانية في غياب تمثيلية للحزب. لتبقى المماطلة الحل إلى حين ظهور نتائج تفاوض جو بايدن مع إيران.
تجدر الإشارة إلى أن المبادرة الفرنسية التي دعت إلى تشكيل حكومة تكنوقراط تضم كفاءات قادرة على إنقاذ لبنان من الانهيار، وتفتح في وجهه باب المساعدات المالية، مازالت بدورها معلقة لأسباب مختلفة داخلية وخارجية أيضا.
ووسط كل هذا وذاك، يعرف لبنان موجة من الاحتجاجات المستمرة منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية سنة 2019. وكانت هذه الاحتجاجات توقفت نظرا للوضعية الوبائية التي شهدها العام سنة 2020، والمرتبطة بانتشار فيروس كورونا المستجد؛ إلا أنها يمكن أن تندلع من جديد في ظل الوضع الحالي، أمام انهيار العملة الوطنية وسوء الظروف المعيشية وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين الذين فقد جزء كبير منهم وظائفهم.
ولن يجد اللبنانيون من ملاذ آخر غير الشارع للتعبير عن سخطهم في ظل غياب أي حلول عملية للأزمة، وغياب إرادة سياسية ومبادرات حقيقية لحلها؛ بعد أن طالبوا برحيل كل المسؤولين من كبيرهم لصغيرهم ودعوا إلى محاسبتهم باعتبارهم السبب الأول في ما آلت إليه الأوضاع، واسترجاع كل الأموال المنهوبة والمهربة خارج البلاد؛ كما أكد العديد منهم على ضرورة البحث عن حلول جذرية ومستدامة من الداخل، بدل الاعتماد على حلول ترقيعية تعتمد على المساعدات والإعانات الخارجية، وأكدوا على ضرورة بناء اقتصاد وطني يعتمد على الإنتاج بدل الاستيراد والريع.