معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية / مدار: 31 ديسمبر/ كانون الأول 2020
فيجاي براشاد
ونحن على مشارف توديع نونبر/ تشرين الثاني، ألقى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خطابا أمام البوندستاغ الألماني (البرلمان الاتحادي)، في الاحتفال الذي أقيم تخليدا للذكرى الخامسة والسبعين لإنشاء منظمة الأمم المتحدة (UN)، هذه المنظمة التي يشكل حجرها الأساس وصميم عملها ما يسمى ميثاق الأمم المتحدة، الذي يربط البلدان بعضها ببعض في إطار مشروع عالمي. ويعتبر هذا الميثاق ثمرة جاءت بعد مصادقة جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والبالغ عددها 193 دولة.
من الجدير استذكار المقاصد الأربعة الأساسية للميثاق، لاسيما أن معظمها توارت بعيدا عن الوعي الشعبي:
- منع “ويلات الحرب”.
- التأكيد على الإيمان والتشبث بحقوق الإنسان الأساسية، من خلال حفظ كرامة الإنسان وقيمته.
- الحفاظ على نزاهة القانون الدولي.
- تعزيز التقدم الاجتماعي وتحسين مستويات الحياة كسبيل لتوسيع دائرة ممارسة الحرية.
أشار غوتيريش إلى أن السبل إلى إدراك مقاصد الميثاق أضحت مغلقة، ليس من قبل الفاشيين الجدد فحسب، الذين يدعوهم مجازا “قوميي اللقاح“، وإنما أيضا من قبل أسوأ النماذج الإمبريالية، وهذا ما اتضح من خلال مشاريع “قومية اللقاح” التي قادتها بعض الدول مثل الولايات المتحدة الامريكية. هذا ما جعل غوتيريش يبدي في معرض حديثه أنه “من الواضح أن طريق الانتصار في المستقبل تكمن في الانفتاح على العالم وليس في العقول المنغلقة”.
لقد تبنينا في معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية ميثاق الأمم المتحدة كأساس لعملنا، كخطوة في طريق تطوير مقاصده باعتبارها مهمة ضرورية لبناء الإنسانية، هذا البناء الذي يعتبر تصورا طموحا، عدا كونه تصورا حقيقيا، فنحن لسنا بعد بشرا كفاية، لكننا نسعى جاهدين لنصبح كذلك. تصوروا إذا قُدّر لنا العيش في عالم خال من الحرب ويحترم القانون الدولي، عالم يحترم حقوق الإنسان الأساسية ويعمل على تعزيز التقدم الاجتماعي على أوسع نطاق؟ سيكون عالما لن يتم فيه استغلال الموارد الإنتاجية في الصناعات العسكرية بل سيتم توجيهها من أجل ترسيم نهاية للجوع والفقر، القضاء على الأمية والتشرد ووضع حد- بعبارة أخرى- للسمات التكوينية للمهانة.
في العام 2019، أنفقت بلدان العالم ما يقارب 2 تريليون دولار على الأسلحة، بينما أخفى أغنى أثرياء العالم 36 تريليون دولار في ملاذات ضريبية غير مشروعة. سيتطلب الأمر فقط جزءا من هذه الأموال المهربة للقضاء على الجوع، مع تقديرات تتراوح من 7 مليارات الى 265 مليار دولار سنويا، كما أن هناك حاجة الى مبالغ مالية مماثلة لتمويل التعليم العام الشامل والرعاية الصحية الشاملة، فقد استولى الأثرياء على الموارد الإنتاجية، كما استخدموا قوة أموالهم للتأكد من أن البنوك المركزية ستبقي التضخم منخفضا عوضا عن نهج سياسات نحو التوظيف الكامل.. إنه ابتزاز، إذا أمعنتم النظر فيه.
أظهرت دراستان جديدتان للبنك الدولي أنه وبفعل قلة الموارد وغياب التصور خلال المدة التي شهدت تفشي الوباء، سيُدفع بحوالي 72 مليون طفل في سن يخول لهم الولوج للمرحلة الابتدائية نحو “فقر التعلم”، وهو مصطلح يشير الى عدم القدرة على قراءة النصوص البسيطة وفهمها بحلول سن العاشرة. كما أظهرت دراسة أجرتها اليونيسيف أنّ 50 مليون فرد إضافي من البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى دفعوا وانتقلوا إلى الفقر المدقع خلال تفشي الوباء، معظمهم من الأطفال، لاسيما أن الأرقام تشير إلى أن 280 مليونا من أصل 550 مليون طفل في جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في حين توقف ملايين الأطفال في المجال الجغرافي نفسه عن التعلم بشكل قطعي ومن “غير المرجح أن يعودوا إلى الصفوف المدرسية”.
إن الفجوة بين محنة ملايير السكان الذين يقاسون لأجل البقاء وثلة قليلة من المسرفين تعد صارخة. وفق تقرير لـ “يو بي إس” عن الثروة يحمل عنوانا غريبا: ركوب العاصفة. اضطراب السوق يؤدي إلى تسريع تفاوت الثروات، فإن الأمر بدا كما لو أن أصحاب المليارديرات الذين بلغ عددهم 2189 سيّروا عاصفة الوباء لمصلحتهم الكبرى، فقد سجلت ثروتهم رقما قياسيا بلغ 10.2 تريليون دولار اعتبارا من يوليوز/ تموز 2020 (زيادة من 8.0 تريليون دولار في أبريل)، وكان الرقم الأكثر فظاعة أن ثروتهم ازدادت بمقدار الربع (27.5%) منذ أبريل/ نيسان إلى يوليوز/ تموز، وكل ذلك في خضم الإغلاق الشامل. ويتزامن هذا الوضع مع وجود ملايير الناس في العالم الرأسمالي عاطلين عن العمل حديثا، يكافحون لأجل البقاء بالاعتماد على إغاثة جد متواضعة من الحكومات؛ لقد انقلبت حياتهم رأسا على عقب.
ينبغي أن تكون دراستنا الأخيرة صدمة كورونا والسلطة الأبوية إلزامية القراءة؛ فهي تقدم تقييما دقيقا للتأثير الاجتماعي –والجندري- الذي خلفته صدمة كورونا. لقد وجد فريقنا نفسه محفزا للتعمق في هذه الدراسة بفعل حالة الحرمان الحادة التي وجد ملايير الأشخاص أنفسهم فيها، وكيف أن هذه الحالة جعلت الروابط الاجتماعية الأساسية تتغير نحو الاستغلال المفرط وقمع قطاعات معينة من السكان. وفي ختام الدراسة عمل الفريق القائم عليها على تقديم تقرير يضم ثمانية عشر بندا من المطالب التي تشكل مرشدا لنضالنا في المستقبل. إننا نحاول من خلال دراستنا تسليط الضوء على أن الدول الرأسمالية التي تحكمها نخبة من العاجزين تقف بدورها عاجزة عن حل المشكلات الأساسية لوقتنا الحاضر، مثل البطالة، الجوع، العنف الأبوي، انتقاص التقدير، عدم الاستقرار، وغياب عمل التنشئة الاجتماعية.
إن النصوص التي قمنا بنشرها هذه السنة- من الإخطارات الحمراء حول فيروس كورونا إلى الدراسات المتعلقة بصدمة كورونا- تسعى إلى توجيه جهودنا نحو تقييم رشيد لهذه التطورات السريعة، المتجذرة في نظرة العالم لحركاتنا الجماهيرية لأجل العمال والفلاحين والمقموعين. لقد أخذنا على محمل الجد رؤية منظمة الصحة العالمية لإعداد دراستنا وفق نزعة “التضامن” وليس “الوصم”، كما أنه واستنادا إلى الأعداد المنخفضة بشكل مذهل للإصابات والوفيات في بلدان الحكومات الاشتراكية من فيتنام إلى كوبا، قمنا بإخراج دراسة عن الأسباب الكامنة وراء قدرة هذه الحكومات على التعامل بصورة أفضل مع الوباء. لقد استوعبنا من خلال الدراسة أن القدرة على التعامل مع هذا الوباء من طرف بعض البلدان جاءت نتيجة اتخاذها موقفا علميا تجاه الفيروس، كما أنها تتوفر على قطاع عام في متناول الجميع، وقد تم اللجوء إليه في عملية إنتاج المعدات والأدوية اللازمة؛ عدا أنها كانت قادرة على الاعتماد على ممارسة الإجراءات العامة التي جمعت مجموعات منظمة من الأفراد مع بعضهم لإغاثة بعضهم البعض؛ كما اتخذت منهجا أمميا- وليس عرقيا- تجاه الفيروس تمثل في مشاركة المعلومات، السلع و- في حالة الصين وكوبا- الطاقم الطبي. لهذا السبب، انضممنا -إلى جانب منظمات أخرى- في إطار حملة من أجل أن يتم منح جائزة نوبل للسلام للأطباء الكوبيين.
لقد قمنا بتجميع أرشيف استثنائي من المواد المتعلقة بصدمة كورونا والعالم، التي تم بالفعل الشروع في إنتاج مواضيع حولها.. يشمل ذلك جدول أعمال مؤقت مكون من عشرة بنود للعالم بعد كوفيد، وهي ورقة تم تقديمها لأول مرة في مؤتمر رفيع المستوى حول اقتصاد ما بعد الجائحة، تم تنظيمه من طرف التحالف البوليفاري لشعوب أمريكتنا (ALBA). في الأشهر الأولى من العام 2021، سنصدر وثيقة أكثر تفصيلا تخص العالم ما بعد كورونا.
على الصعيد الشخصي، أود شكر فريق عمل مكتب القارات الثلاث بأكمله، على مرونتهم وقدرتهم على العمل بوتيرة أكبر من ذي قبل، وتشجيعهم الجيد لبعضهم البعض في خضم الوباء.
نحن نسبح في مياه حركاتنا، هذه الحركات هي التي ترفع ثباتها وتمنحنا الشجاعة ضد الاستخدام الانتهازي والتهكمي للأزمة من قبل الحكومات الرأسمالية. الأسبوع الماضي، سلطت المراسلة الضوء على العمل الصبور والتفاني الذي قام به مجموعة من الرفاق الشباب في الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) بولاية كيرالا، ممن عملوا على بناء مجتمع إنساني وعادل. يمكن الوقوف على نماذج مشابهة لهذا العمل في أوساط حركة العمال بدون أرض في البرازيل (MST)، كما يمكن ملاحظة ذلك في منطقة حزام النحاس في زامبيا، حيث يتواجد أعضاء حملة الحزب الاشتراكي للانتخابات الرئاسية المقررة العام المقبل، وكذلك في جنوب إفريقيا، حيث يناضل الاتحاد الوطني لعمال المناجم (NUMSA) للدفاع عن العمال ضد سياسة تقليص النفقات في أثناء تفشي الوباء، وحيث تقوم حركة أبهلالي مجوندولو ببناء الثقة والقوة بين قاطني الأكواخ.
إننا نرى هذا التحمل والالتزام العظيمين من رفاقنا في حزب العمال التونسي وحزب النهج الديمقراطي (المغرب) الذي يتولى إعادة تنشيط دور اليسار في البلدان الناطقة بالعربية، كما نراه في التطبيق العظيم لشعوب بوليفيا، كوبا، فنزويلا، الصين، لاوس، نيبال وفيتنام في سعيهم إلى بناء الاشتراكية في الدول الفقيرة التي تواجه هجوما مستمرا ضد المسار الاشتراكي. إننا نستمد القوة من رفاقنا في الأرجنتين الذين يناضلون من أجل تعزيز قوة العمال المستبعدين وبناء مجتمع يتجاوز النظام الأبوي. نحن معهد أبحاث مدفوع بالحركة الأم ونعتمد على حركاتنا في جل ما نقوم به.
نحن في معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية تحدونا أحلام بحياة أفضل، ونرغب في استطلاع الأفق حيث يمكننا الوقوف على مكنونات المجتمع الإنساني الذي يتم بناؤها الآن، والتي تطرح الإمكانات لما بعد الرأسمالية، والحياة غير المعادية. بالنسبة لنا، هذا الأفق الجديد ليس بشيء ينتظرنا ومكتمل التكوين في المستقبل؛ إنه يتشكل في الحاضر بفعل نضالات الطبقة العاملة والفلاحين ضد الحرمان المادي الكبير وأحلام العالم خارج حياة المهانة والعوز. المستقبل، إننا نؤمن بأنه سيحوي ما نهيئ له الآن.