المراسلة 32: دعوا الأطفال يرون الحقول الخضراء ودعوا ضياء الشمس ينير أذهانهم

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية/ مدار: 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2021

فيجاي براشاد

صورة: رسم لباولو فريري، دون عنوان.

قبل سنتين بالتمام، مشيت برفقة زملائي من معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي عبوراً بمخيم Marielle Vive (“تحيا مارييلا”) خارج قرية فالينو في ولاية ساو باولو في البرازيل، وقد تغمدني شعور كأني عشت ذلك مسبقاً. يشبه المخيم العديد من المجتمعات الأخرى التي تشهد فقراً مدقعاً على كوكبنا، إذ تحصي الأمم المتحدة أن واحداً من بين ثمانية أشخاص على كوكبنا-أي مليار إنسان- يعيشون في مثل ظروف الهشاشة هذه، حيث البيوت مصنوعة من خليط من المواد: صفائح من القماش المشمع الأزرق وقطع خشبية وصفائح من الحديد المضلّع والطوب القديم. تقطن آلاف العائلات في مخيم تحيا مارييلا، الذي سُميّ على اسم الاشتراكية البرازيلية مارييلا فرانكو، التي تم اغتيالها في مارس 2018.

لا يعد مخيم تحيا مارييلا “حياً فقيراً” عادياً، وهي تسمية تحوي الكثير من الدلالات السلبية. إن المزاج السائد في العديد من الأحياء يكون موحشا، حيث تضفي العصابات الإجرامية والمنظمات الدينية على الأحياء الفقيرة الهشاشة الاجتماعية. لكن مخيم مارييلا هذا تحيط به هالة مختلفة. أعلام حركة العمال بدون أرض (MST) في كل مكان، والمقيمون فيه يبعثون على جو من الطمأنينة والأهمية الودية؛ يرتدي العديد من منهم قمصانا أو قبعات من منظمتهم، إن لهم الاستعداد نفسه: مستعدون للدفاع عن مخيمهم من الإخلاء من قبل السلطات المحلية ومستعدون لبناء مجتمع حقيقي لأنفسهم.

صورة: المطبخ المجتمعي في مخيم حياة مارييلا،2019

يوجد وسط المخيم مطبخ مجتمعي يتناول فيه بعض السكان وجباتهم الثلاث. الطعام بسيط لكنه مغذّ، وبالقرب ثمة عيادة صغيرة يزورها طبيب مرةً كل أسبوع. كما توجد خارج البيوت أحواض الزهور وحدائق الخضار. لقد توقفت السلطات البلدية للبلدة المجاورة عن السماح لحافلة المدرسة باصطحاب الأطفال من المخيم ونقلهم إلى مدرسة البلدة. يجعل ذلك الآباء يكافحون في إيصال أطفالهم إلى المدرسة كل يوم، وقد شيّد المخيم فصلاً دراسياً في الموقع لأنشطة ما بعد المدرسة، استمر خلال الوباء.

لقد أخبرتني تاسي باريتو من حركة العمال بدون أرض في بداية أغسطس بأن المخيم ليست فيه حالات وفاة جرّاء فيروس كورونا، والسبب أنهم “اتخذوا إجراءً صارماً لتجنب انتشار العدوى”. لقد حرمت البلدية المحلية المخيم من الماء، وهو – كما تقول باريتو – “جريمة من جرائم حقوق الإنسان”. واصل السكان تطوير عملهم الجماعي وتدعيم المطبخ المجتمعي والمركز الصحي المجتمعي والنهوض بالإنتاج الزراعي الإيكولوجي في مزرعة الخضار. كانت المزرعة مثمرة إلى درجة أن المخيم تمكن من بيع سلال من المنتجات في مدينتي فالينهوس وكامبيناس المجاورتين.

يحتل الصف الدراسي موقعاً بارزاً في المخيم، لكن أخبرتني باريتو بأن “الأطفال والشباب في سن الدراسة يواجهون صعوبة كبيرة، إذ لا توجد فصول دراسية وجاهية [في مدرسة البلدية]”، وبأن “هناك أنشطة افتراضية لا يمكنهم المشاركة فيها”. كان لزاماً على قيادة المخيم أن يبتكروا: فكان لا بد من طباعة أوراق العمل وتوزيعها على الطلاب كل أسبوعين، وبما أن مدرسي المدارس العامة لم يتمكنوا من مراجعتها، فقد لجأ المخيم إلى مدرسين من جامعة يوني كامب (UNICAMP)، وهي جامعة حكومية قريبة للإشراف على عملهم. إنّ تعليم الأطفال يشكل تحدياً خطيراً.

يصدر عن معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي ملف صدمة كورونا والتعليم في البرازيل: بعد مرور عام ونصف (أغسطس 2021)، ويتناول بعمق أزمة التعليم العام الناجمة عن الوباء. يشير ملفنا إلى دراسة أجرتها “اليونيسف” تبين أنه بنهاية العام 2020 في البرازيل، ما يقارب 1.5 مليون طفل ومراهق تخلوا عن دراستهم و3.7 ملايين مسجلون رسميا لكنهم لا يتمكنون من الوصول إلى الفصول الدراسية عن بعد.

تقدر الأمم المتحدة أن 90% من الطلاب في مختلف أنحاء العالم -1.57 مليار طفل- لم يتمكنوا من الالتحاق بالتعليم المدرسي طوال فترة انتشار الوباء، إذ طُلبت من العديد منهم الدراسة عبر الإنترنت. بيد أنّ دراسة أجرتها اليونسكو مؤخرا تبين أنّ نصف سكان العالم ليس لديهم اتصال بالإنترنت، وهو ما يعني وجود 3.6 مليارات شخص بلا وصول للإنترنت.

 ووفقا للدراسة فإن “عدم تمكن ما لا يقل عن 463 مليون طالب أو ما يقرب ثلث الطلاب على الصعيد العالمي من الوصول إلى التعلم عن بعد يرجع أساسا إلى الافتقار إلى سياسات التعلم الإلكتروني أو نقص المعدات اللازمة للاتصال من المنزل”. إن نصف سكان العالم يفتقرون إلى الوصول إلى الإنترنت، ولا يستطيع العديد من القادرين على ذلك تحمل تكاليف التكنولوجيا والأدوات اللازمة للمشاركة في التعلم عن بعد. إن الفجوة الرقمية تصير أكثر حدّة بناء على النوع الاجتماعي: ففي البلدان الأقل نمواً استخدمت فقط 15% من النساء الإنترنت عام 2019، مقارنة بـ 86% من النساء في ما يسمى العالم المتقدم.

 أدّى التحول إلى التعليم الرقمي إلى تشجيع الشركات الكبرى على ضم المشاعات المتعلقة بالتعليم الحكومي، ما زاد من صعوبة ومشقة جماهير الأطفال من الحصول على أي تعليم على الإطلاق. تنتهز الشركات الكبيرة الفرصة بوضوح. فكما أوضحت مايكروسوفت، إن “التداعيات الناجمة عن فيروس كورونا، ومواصلة التقدم في التكنولوجيا الرقمية، وتكثيف الطلب على التعلم الذي يركز على الطلاب، “تضافرت جميعها كي تتيح فرصة غير مسبوقة لتحويل التعليم عبر نظم كاملة”. وكما أخبرتنا بيا كارفالهو من حركة الشباب البرازيلي (Levante Popular da Juventude) في حوار لملفنا، “بالنسبة لرجال الأعمال هؤلاء التعليم عن بعد أكثر ربحية لأنه يسمح لهم بخفض جزء من نفقاتهم ويمنحهم إمكانية الوصول إلى عدد أكبر بكثير من الطلاب. ومن زاوية [النظر إلى] التعليم كسلعة، حيث يبيعون الفصول الدراسية، فإن التعليم عن بعد يصبح أكثر معنى بكثير”. لقد استخدمت الأموال العامة بالفعل لتأمين التوسع الهائل في نظم التعليم الرقمي الخاصة.

يختتم ملفنا بتسليط الضوء على ثلاثة قضايا رئيسة: الحاجة إلى زيادة الاستثمار في البنى التحتية التعليمية الحكومية (مع ضمان عدم خصخصة التعليم بشكل خفي)؛ الحاجة إلى تقدير وتدريب ودعم التطور المهني للمعلمين؛ وضرورة النضال من أجل مشروع تعليمي جديد. إن الأمر الأخير ذو أهمية قصوى، إذ يطرح أسئلة حول الغرض من التعليم، وبالتالي يمهد الطريق الذي يتعلم به الطلاب طرح الأسئلة حول مجتمعهم وقيمهم وحول التناقض ما بين قيمهم ومؤسساتهم الاجتماعية وحيال ما الذي بالإمكان فعله بشأن هذا التناقض. هناك رابط مباشر بين المشاعر التي يحملها ملفنا والاحتجاجات الطلابية التي زعزعت كلا من تشيلي في 2011 وجنوب إفريقيا في 2015 والهند في 2015-16، يحتاج هذا المشروع التعليمي الجديد إلى الاستفاضة به، وإنها لضرورة.

الفصل دراسي لما بعد المدرسة في مخيم مارييلا فرانكو، 2021 (الصورة التقطها قطاع الاتصالات، حركة العمال بدون أرض MST-ساو باولو)

عندما كنا نسير في مخيم تحيا مارييلا عام 2019، انضمت إلينا شابتان، كيتلي جوليا وفرناندا فرنانديز. أخبرتنا الشابتان عن تعليمهما المدرسي، بما في ذلك دروس اللغة الإنجليزية التي كانتا تتلقيانها في الفصول الدراسية في المخيم. في العامين الماضيين، انضمت كيتلي إلى نساء أخريات في المخيم كقائدة رئيسية في مجتمعها، فهي تقوم بتنسيق حديقة الماندالا وتساعد في غرفة التخزين وفي تنظيم التبرع بالملابس والبطانيات، وكل هذا رغم مجابهة التحديات التي تتهدد صحتها.

أخبرتني باريتو بأنه “في خضم الأعمال الهمجية يكون لدى الأمل دائماً طريقة للظهور”. كيتلي الآن حامل، “وذاك هو الفرح الذي يدفعنا في نضالنا”، كما قالت باريتو. تعيش فيرناندا الآن في مخيم إيرما ألبيرتا بالقرب من ساو باولو، حيث تستأنف نضالها مع حركة عمال بدون أرض بينما تربي طفلين. إن أطفال فيرناندا وكيتلي يمنحون الأمل، لكنهم أيضاً يحتاجون وجود الأمل في عالم يغمره مشروع تعليمي إنساني ومفعم بالأمل. 

في عام 1942، كتب الشاعر الإنجليزي الاشتراكي والمسالم ستيفن سبندر قصيدة “فصل دراسي في مدرسة ابتدائية في أحد الأحياء الفقيرة”. الأطفال في مدارس الأحياء الفقيرة، كما كتب سبيندر، لديهم مستقبل “مطلي بالضباب”، خرائطهم هي “أحياء فقيرة كحقيقة قدرهم المشؤوم”. كتب سبيندر أننا يجب أن نكسر نوافذ تلك الأحياء الفقيرة:

ودعوا الأطفال يرون الحقول الخضراء، واجعلوا عوالمهم

تعدو كالأزرق السماوي فوق الرمال الذهبية، 

ولتظفر ألستنهم العارية جوف الكتب حيث تتفتح الأوراق البيضاء والخضراء

إن التاريخ ينتمي لمن لغتهم الشمس.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة