الفن حلم نتخيل من خلاله مستقبلنا (عدد 20. 2022)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 18 حزيران/ يونيو 2022

فيجاي براشاد*

كولاج لملصقات/ جداريات لشيرين أبو عاقله – بدون تعليق.

في 11 مايو/ أيار 2022، أطلق قناص إسرائيلي النار على رأس الصحافية الفلسطينية المخضرمة شيرين أبو عاقلة أثناء تغطيتها مداهمات إسرائيلية عسكرية في مخيم جنين للاجئين (وهو جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة). واصل القناصة إطلاق النار على الصحافيين الذين كانوا برفقتها ومنعوهم من مساعدتها، وعندما وصلت أخيراً إلى مستشفى ابن سينا، تم إعلان استشهادها. 

وبعد استشهاد أبو عاقلة، داهم الجيش الإسرائيلي منزلها في القدس الشرقية المحتلة، وصادر الأعلام الفلسطينية، محاولا منع المعزين من تشغيل الأغاني الفلسطينية. وفي جنازتها يوم 13 مايو/أيار، هاجم الجيش الإسرائيلي الحشود الهائلة من الأهالي والمناصرين -بمن فيهم حاملي النعش- وانتزع الأعلام الفلسطينية من أيادي الحشود. 

إن مقتل أبو عاقلة، وهي صحافية في قناة الجزيرة منذ 1997 وتحظى باحترام شديد، وعنف القوات الإسرائيلية في جنازتها، يعيد التأكيد على طبيعة الفصل العنصري للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

غردت القيادية الفلسطينية الدكتورة حنان عشراوي بأن الهجوم على الأعلام والملصقات والشعارات الفلسطينية “يكشف انعدام أمن القاهر”. وتابعت بالقول: “يظهر الاعتداء على هذه الرموز الثقافية خوف الإسرائيليين من رموزنا وخوفهم من حزننا وغضبنا وخوفهم من وجودنا”. 

والمداهمات التي كانت تغطيها أبو عاقلة عندما قُتلت كانت في جنين، موطن مسرح الحرية الفلسطيني الرائع. وفي 4 أبريل/ نيسان 2011، قُتل جوليانو مير خميس، أحد مؤسسي المسرح، بالرصاص في مكان قريب من المكان الذي قُتلت فيه أبو عاقلة. قال مير خميس: “إسرائيل تدمر الجهاز العصبي للمجتمع [الفلسطيني]”، وهذا الجهاز العصبي “هو الثقافة والهوية والتواصل … علينا أن نقف مرة أخرى على أقدامنا، نحن نجثو اليوم على ركبنا”.

المقدمة: ممثلو فرقة أوبرا بكين يقدمون عروضهم.  الخلف: طلاب الدراما في أكاديمية لو شون للفنون يتدربون على مسرحية في بناء بنوه بأنفسهم.  حقوق التصوير: منصة يانان السحابية الحمراء[延安红云平台]

قبل ثمانية عقود في قلب الصين تجمع مئات المثقفين والفنانين الصينيين من مدن مثل شنغهاي في يانان، التي أصبحت قاعدة حمراء للحزب الشيوعي الصيني (CPC).

دار نقاش جاد في كهوف هذه المدينة وحولها في 1942 حول عجز الثقافة الصينية عن  مواجهة ثلاثة تحديات خطيرة: الطبيعة المتصلبة للنظام الإقطاعي الصيني، ووحشية الإمبريالية التي يقودها الغرب، وقسوة الاحتلال الياباني الفاشي. وكان على العاملين في المجال الثقافي مواجهة حقائق التاريخ هذه، بالإضافة إلى المهام التاريخية التي يمثلونها.

لقد تمحور النقاش في يانان حول الإصرار المربك بأن الفنانين يمكنهم العمل دون مواجهة السيرورات التاريخية الكبرى في عصرنا. تخيلوا مثلاً فناناً فلسطينياً يعمل اليوم دون أن تؤثر عليه قوة الفصل العنصري الإسرائيلي.

دعا رئيس قسم الدعاية في الحزب الشيوعي الصيني، كاي فينج، الفنانين إلى الاجتماع في مكتب اللجنة المركزية للحزب لثلاثة أسابيع، لنقاش حالة الفن والثقافة خلال الحرب الثورية. وكان ماو تسي تونغ، زعيم الحزب الشيوعي الصيني، استمع إلى المداخلات، وأدلى برأيه الخاص، ونشر في العام التالي محادثات في منتدى يانان حول الأدب والفن. يشكل ملفنا رقم 52 (أيار 2022) بعنوان “اذهبوا إلى يانان: الثقافة والتحرر الوطني” تقيماً لنقاش يانان وتأثيره على عصرنا اليوم. ينظر الملف، الذي قام قسم الفن في معهد القارات الثلاث بإعداد مادته المصورة، إلى النقاشات التي دارت في يانان من أجل تسليط الضوء على ظروفنا والإصرار على مركزية العمل الثقافي لحركاتنا اليوم.

الصورة في الأعلى فرقة غنائية تؤدي أوبرا يانغ، الأخ والأخت يستعيدون الأرض القاحلة. الصورة في الأسفل: طلاب الفنون الجميلة يأخذون دروس الرسم. حقوق التصوير: قاعة يانان للأدب والفن 延安文艺纪念، ومنصة يانان السحابية الحمراء 延安红云平台

يجذّر الفنانون خيالهم في تجاربهم المعاشة، فلا يقدم مسرح الحرية في جنين مسرحيات تعكس حياة المقاهي في تل أبيب أو نيويورك، بل تتعمق مسرحياته في مخيال فلسطين المحتلة. وكما يوضح ملفنا في يانان، “كان على المثقفين الحضريين … أن يمروا بتحولاتهم الخاصة من أجل سد الفجوة بينهم وبين جماهير الفلاحين، وكان هذا التحول في قلب منتدى يانان… معاً يمكن أن يتحولوا إلى قوة سياسية فاعلة”.    

أخذ ماو الكلمة في منتدى يانان في 23 ماي/أيار 1942 ليقدم ملاحظاته الختامية إلى الفنانين والمثقفين الذين غادروا مدناً مثل شنغهاي وشقوا طريقهم إلى الداخل، حيث قال: “هنا يتم إنشاء أشكال جديدة من الحياة، ويطفو على السطح شيء جديد يقوّم العمود الفقري للناس وينتج أشكالاً جديدة من الحياة الاجتماعية”، وأضاف أن “الوصول إلى منطقة القواعد يعني الوصول إلى فترة حكم غير مسبوقة خلال عدة آلاف من السنين من التاريخ الصيني، حقبة يحتفظ فيها العمال والفلاحون والجنود والجماهير الشعبية بالسلطة … ذهب الماضي إلى الأبد ولن يعود أبداً”.

 وكان ماو يقصد أن الخيال يجب أن يمتد لسرد قصص للشعب الصيني الحالي ومن أجله. وقد جادل المثقفون في يانان بأن الغرض من الفن هو أن يكون وثيق الصلة بهذه الأحداث التاريخية الكبرى.

ولتوضيح وجهة نظره، اقتبس ماو من الكاتب لو شون (1881-1936)، الذي فهم هذه التغييرات وعكسها في شعره:

بجبين شرس، أتحدى بهدوء آلاف أصابع الاتهام،

وبرأسٍ منحنٍ، مثل ثور طيّع أخدم الأطفال.

وصف ماو الأعداء (آلاف أصابع الاتهام هذه) بأنهم إمبرياليون مصاصو دماء ومُلاك أراضي إقطاعيون رجعيون؛ فيما كان “الأطفال” هم الطبقات العاملة والفلاحون والجماهير الشعبية. وأوضح ماو أن كلمات لو شون تظهر أن الفنان – “الثور الطيع” – يجب ألا يخضع أبداً للكتلة المتحجرة القديمة للقمع؛ يجب أن يكون هو أو هي على استعداد لمرافقة الناس في نضالهم من أجل الحرية.    

إن الكفاح هو الذي مكّن الجماهير الشعبية من الوقوف في وضع مستقيم، ورفض الانحناء لقرون من الذل يرى فيها العمال عملهم يخضع لصالح مراكمة الثروة من قبل النخب. يتعين على الممارسة الفنية والنشاط الفكري أن يعكسا هذه التغيرات الواسعة التي تحضر اليوم في الحملة الجماهيرية في الصين للقضاء على الفقر المطلق، وفي رفض المزارعين الهنود الخضوع لاستئصال سُبلهم في العيش، وفي شجاعة سكان الأكواخ في جنوب إفريقيا للوقوف بحزم ضد عمليات القتل السياسي، وفي الحشود الهائلة للفلسطينيين في جنازة شيرين أبو عاقلة.

فرقة يانغ الغنائية خلال أداء للشعب في احتفال مهرجان الربيع 1943. حقوق التصوير: منصة يانان السحابية الحمراء [延安红云平台] وجريدة تشاينا يوث دايلي [中国青年报]

مهّد النقاش في يانان الطريق للفنانين والكتاب لإنبات النشاط الثقافي المكثف ونشر أفكار جديدة في المجال الثقافي ورفع النقاش من ما هو يومي إلى آفاق جديدة وخلق فضاءات وأزمنة سياسية جديدة.  

دعا هذا العمل الثقافي المثقفين والفنانين إلى التركيز على المستقبل، وعدم الاهتمام بعد الآن بمزاجهم كفنانين فقط (“الفن من أجل الفن”)، بل العمل من أجل أفق جديد وتدشين إنسانية جديدة. ولم يكن هناك أي إلزام باختزال عملهم في مشروع سياسي فقط، لأن ذلك من شأنه أن يقلل من قدرتهم على تجاوز المعضلات التي يشكلها الحاضر. يحتاج الفنانون والمثقفون لدعم الحركات، ولكن أيضاً للاحتفاظ بالمساحة اللازمة لخلق حماسة عاطفية في المجتمع يمكن أن تغذي ثقافة جديدة.

أوضحت تدخلات ماو في يانان أن النشاط الفكري والفني لن يغير العالم في حد ذاته، لكن الفنانين والمثقفين يشيرون إلى الواقع ويلفتون الانتباه إلى بعض المشكلات ويوفرون فهماً لها. لا يستطيع الفن وحده علاج كافة المشاكل، ولهذا فإنه من الضروري التوجه إلى المنظمات والحركات التي تسعى إلى التغيير في المجتمع. عندما يتعين على أشكال الفن تحمل العبء الهائل للنظرية والممارسة السياسية فإنه عادةً ما يصيبها التراجع، لذا يجب على الفن أن يستنشق وعي الطبقة العاملة والفلاحين ويقدم المقترحات الثقافية الجديدة. يقودنا هذا كله إلى إمكانيات جديدة، إلى جانب الموجات الإنسانية التي ترفض الخضوع للقمع.

ملاك مطر (فلسطين) المشهد الأخير قبل التحليق مع الحمامة إلى الفردوس، 2019.

تحدثت أسماء نغنغية، وهي فتاة صغيرة شاركت في مخيم مسرح الحرية، عن جمال العمل الثقافي، حيث قالت: “في أحد التمارين في المسرح، قمت بتقليد طائر يطير فوق منطقتي ثم فوق جنين ثم فوق البحر، كان ذلك مثل الحلم”. إن هذا الحلم بالمستقبل يحول الحاضر إلى مكان للنضال.

* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 19 أيار/ مايو 2022.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة