معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية / مدار: 19 تشرين الثاني/ نونبر 2020
فيجاي براشاد
في العام 2011 سافر الروائي السويدي هينينغ مانكل إلى الهند من أجل إلقاء “محاضرة سافدار هاشمي التاريخية” في نيودلهي. سرد مانكل حادثة جرت في موزنبيق، حيث كان قد استقر هناك لمدة عام. ففي الثمانينيات، وبعد نيل موزنبيق استقلالها عن البرتغال عام 1974، دعم كل من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وجيش روديسيا الاستعماري للمستوطنين فصيلاً مناهضاً للشيوعية ضدا في حكومة جبهة تحرير موزنبيق (FRELIMO)، وكانت الغاية هي إذكاء نار الحرب من أجل تدمير قواعد قوات التحرير الوطنية لجنوب إفريقيا وزمبابوي، التي كانت قد مُنحت الإذن بالعمل من قبل حكومة جبهة تحرير موزنبيق.
وكانت الحرب المفروضة على موزنبيق وحشية، ومدمرة بشكل هائل. وقد زار مانكل منطقة حدودية، حيث تم إحراق قرى من طرف القوات المهاجمة وحلفائها المناهضين للشيوعية.
وفي أثناء الزيارة سلك مانكل طريقا يؤدي إلى إحدى القرى، وهناك شاهد رجلا في مقتبل العمر، نحيلا بثياب رثّة، قادما نحوه؛ وحينما اقترب منه بدا مانكل مذهولا بما يرتديه في قدميه… أخبر مانكل في ما بعد جمهوره في نيودلهي بأن الرجل كان في وضع بائس للغاية إلى درجة أنه قام برسم هيئة حذاءين على قدميه، كما لو أنه ينتعلهما، ولإعطائهما صبغة حقيقية كي لا يتعرض للتهكم، ومن أجل الدفاع عن كرامته بعدما فقد كل شيء، استعان بأعشاب وجدها على الأرض من أجل استخدامها في تلوين قدميه”.
وبالنسبة لمانكل، أظهر سلوك هذا الرجل نوعا من المقاومة ضد تلاشي ضوء الأمل، مع أنه من الممكن جدا أن يكون عضوا في جبهة تحرير موزنبيق، وحين التقاه كان في طريقه لأحد الاجتماعات الفرعية، حيث يناقشون الوضع الراهن لنضالهم وكيفية التخطيط في سبيل الدفاع عن أراضيهم.
في العام 1981، عندما هاجمت جنوب إفريقيا موزنبيق، احتضن الرئيس سامورا ماشيل من جبهة تحرير موزنبيق أوليفر تامبو من المؤتمر الوطني الإفريقي لدولة جنوب إفريقيا (ANC) في تجمع عام في ساحة الاستقلال بمابوتو وقال: “إننا لا نريد الحرب، نحن صنّاع سلام لأننا اشتراكيون. أحد الأطراف يريد السلام والآخر يريد الحرب”… ربما يكون ما رآه مانكل تجسيدا لهذه الكلمات عندما صدحت في رأس الرجل.
خلال النضال التحرري الوطني، ذكر ماشيل أن السيرورة الثورية لم تكن حول الانتصار على البرتغاليين فحسب، أو الانتهاء من دولة الفصل العنصري لجنوب إفريقيا أو الدولة الاستعمارية الاستيطانية الروديسية؛ وإنما حول “خلق إنسان جديد، وبعقلية جديدة”. وكان النضال ضد الاستعمار وراء إنتاج مجتمع يفخر به الناس، حتى وإن لم يكن لديهم اكتفاء من ناحية السلع الأساسية، كالأحذية على سبيل المثال.
إن النضال من أجل الكرامة يعد أمراً جوهرياً وقد شكل جزءاً أساسيا من أيديولوجية التحرر الوطني. وكان هذا هو المنطلق الذي وضعه اثنان من المفكرين- فرانز فانون وباولو فريري- اللذين انبثقت كتاباتهما عن التحرر الوطني والتقاليد الاشتراكية، ما أثر على النضالات المتلاحقة. ليس من الغريب أن يصدر معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية في مكتب جوهانسبرغ (جنوب إفريقيا) ملفين حول هاتين الشخصيتين المهمتين: فرانز فانون: سطوع المعادن في مارس 2020، والآن باولو فريري والنضال الشعبي في جنوب إفريقيا في نوفمبر 2020.
تعتبر العودة إلى الأسبار القديمة للتطلع قدما جزءا من عملنا، وذلك من خلال استحضار مصادر تقاليدنا ودراستها بعناية في سبيل استخلاص العبر المهمة ومن ثم تعزيز النضالات الحالية. وقد شدّد كل من فانون وفريري- الأخير كان قد تأثر بـ فانون في كتابه معذبو الأرض(1961) إذ صاغ أدبياته الكلاسيكية حول تعليم المقهورين (1968)- على أهمية الدراسة الجماعية والنضال باعتبارهما من الأدوات الرافعة لتطوير الوعي النقدي بين الجماهير. إننا في المعهد نعتبر رؤية المفكرين العامة حول العلاقة التكاملية بين الدراسة الجماعية والنضال مرشدنا ودليلنا في نهجنا الخاص، كما حددنا سلفا في ملفنا “المثقف الجديد“ في فبراير 2019.
لقد صيغ كتاب أصول تربية المضطهدين للمفكر البرازيلي فريري بينما كان يقضي سنوات منفاه بتشيلي، حيث فرّ بعدما أمضى سبعين يوماً في سجن برازيلي خلال الأيام الأولى للانقلاب العسكري لعام 1964 المدعوم من الولايات المتحدة. ولم ينحصر تأثر فريري في إنجازه لكتابه في تجربته الخاصة في النضال بالبرازيل، بل تعداها ليشمل قراءاته عن حركة التحرير الجزائرية (عبر فانون)، وما شهده من خلال تعامله مع حركات التحرر الوطني في المستعمرات البرتغالية الموجودة في أجزاء من القارة الإفريقية.
في مضمون كتابات فريري أشار إلى أن المضطهدين لا يريدون المعرفة بحد ذاتها، فقد أعربوا عن رغبات مجتمعة بشأن هذا العالم، تتضمن صياغة عالم بإمكانهم العيش فيه بكرامة، وارتداء الأحذية. ينقل فريري إحساس تشي جيفارا القوي بأن “الثوري الحقيقي يسترشد بمشاعر الحب القوية”، التي تشكل حجر الأساس لنهج فريري، الذي سبق أن كتب أن “الثورة تحب وتخلق من رحم الحياة” و”من أجل منح الحياة ربما يستلزم الأمر منع بعض البشر من تقييد الحياة”، كما أنه أكد أن الحب الذي نتحدث عنه ليس ذلك “الحب” التجريدي، إنما حب بطريقة ملموسة للغاية.
كتب فريري في الكتاب نفسه واصفا الأوضاع في البرازيل أنه كان ثمة “جثث حية” أو “ظلال بشرية” ممن واجهوا حربا “غير مرئية” من الجوع والمرض، الأمية والإهانة، إذ إن تحررهم من الهيمنة الوظيفية للرأسمالية تطلب هزيمة الشعب الفعلي الذي استفاد من النظام الذي سلب المضطهدين أبسط احتياجاتهم، معتبرا أن نهوض المضطهدين- بكلمات أخرى تشكل الثورة- يخدم تحسين حياة الغالبية العظمى، لكنه بالضرورة سيؤثر سلبا على حياة الرأسماليين. لم تكن قراءات وكتابات فريري قائمة على نظرة مثالية، فقد اعتمد على التقدير العملي العميق للدراسة والنضال في صلب العالم الفعلي الذي نعيشه.
ولعلّ قراءات فريري المحكمة للتطورات الفعلية للحياة الاجتماعية هي ما أثرت على أجيال من المناضلين لأجل الحرية في جنوب إفريقيا. يوثق ملفنا الأخير، باولو فريري والنضال الشعبي في جنوب افريقيا، تأثير أفكار فريري داخل حركة السود من أجل الوعي، الكنيسة، حركة العمال، وفي صميم النضال التحرري. في مقابلة لمعهد البحوث الاجتماعية بخصوص هذا الملف أخبرنا أوبري موكاب الذي أسس المنظمة الطلابية لجنوب إفريقيا عام 1968 إلى جانب ستيف بيكو، بارني بيوانا وآخرون، كيف أن أفكار فريري حول “التوعية” مطروحة في الأجندة الاشتراكية لحركة السود من أجل الوعي:
[1] الطريقة الوحيدة للإطاحة بهذه الحكومة هي جعل جماهير شعبنا تفهم ما نريد أن نفعله ونمتلك العملية، أي أن يصبحوا واعين بموقعهم في المجتمع، بعبارة أخرى… تتبع كل الأمور، وفهم أنه ما لم يكن لديك المال لدفع… رسوم طفلك/تك المدرسية، الرسوم في كلية الطب، لن يكون بحوزتك سكن ملائم أو وسائل نقل سيئة، إن كل هذه الأشياء تشكل سلسلة متصلة واحدة، كما أن كل هذه الأمور مضمنة في النظام، بالإضافة إلى أن مكانتك في المجتمع ليست معزولة وإنما ممنهجة.
لتعيش بكرامة وحب، ذلك يقتضي تحويل النظام العاجز عن حل المشكلات التي يخلقها. إن التعليم-أو “التوعية”- يخص بالتحديد العلاقة المتداخلة بين عملية الدراسة والنضال لتشكيل الوعي والمعرفة التي تتطلب ما يفوق الإصلاحات المعتدلة. ليس الأمر حول منح الأحذية وإنما الكفاح لأجل نظام لا يمكن حتى تخيل نقص الأحذية فيه.
خضع الشاعر مونغان والي سيروت، الحائز على جائزة جنوب إفريقيا للشعر، لتأطير و”توعية” ضمن حركة السود من أجل الوعي، ما ساهم في تعرضه لتحولات خلال سنواته في المدرسة بسويتو، قبل أن يلتحق بالمؤتمر الوطني الإفريقي. في العام 1969، اعتقل سيروت وقضى تسعة أشهر في سجن انفرادي، ثم ما لبث أن نفي إلى بوتسوانا، حيث التحق بـ uMkhontoweSizwe-الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي- ثم أسس فرقة ميدو للفنون مع ثامي منيلي وآخرون. لاحقا، كان سيروتي مداوما على الذهاب إلى لندن للعمل في قسم الثقافة والفنون التابع للمؤتمر الوطني الإفريقي. عاد سيروت إلى جنوب إفريقيا في عام 1990.
[2] في العام 1977، شكل سيروت وآخرون “بيلانادبا للأعمال الثقافية” في غابورون ( بوتسوانا)، وبدأ في نشر مجلة Pelculef. وقد احتوى العدد الأول من المجلة التي نشرت في أكتوبر 1977 قصيدة سيروت لا مزيد من الغرباء. وكان إيقاع القصيدة مستمدا من نبض الصراع الذي كرّس سيروت ورفاقه حياتهم لأجله. ثمة موجز مقتضب يظهر مدى التأثر بتربوية فريري:
كنّا نحن، إنه نحن
أبناء سويتو
لانغا، كاغيسو، الكسندرا، غوغولثيو ونيانغا
نحن،
شعب له تاريخ طويل مع المقاومة
نحن،
من يجرؤ على الأقوياء
لأجل الحرية.. وحدها الحرية التي بمقدورها أن تروي عطشنا-
وما عرفناه من الذعر أننا نحن من سنتولى التاريخ
بحريتنا
…
تذكروا اليأس المتناثر حتى نشعر أننا عديمي القيمة كالحطام
تذكروا ظلال الموت التي تقنا لنتخطاها
وها نحن هنا الآن
…
سنكون نحن
فولاذا لا يكسر
ننتزع حريتنا
و-
سنروي للحرية
لم يعد لدينا غرباء الآن.
لا بُدّ وأن نكون نحن، لا ننتظر أحدا. فقط نحن، من سنصنع أحذيتنا الخاصة. سنكون نحن من سنسير بكرامة محفوظة.. وسننتصر.