نيو فرايم + مدار: 13 أغسطس/ آب 2021
بعد أن كانت القوات الأمنية في إسواتيني وراء مقتل العديد من المحتجين في مظاهرات اجتاحت مختلف أنحاء البلاد، عاد الملك مسواتي الثالث ليجلس على العرش في قصر لوبامبا في ال من يوليوز/ تموز، معلنا عن رئيس الوزراء الجديد، كليوباس دلاميني، ومستغلا الفرصة لإلقاء كلمة أبرز ما جاء فيها: “كل شخص (في هذه البلاد) ملكي، وكل شيء في إسواتيني ملكي”.
اعتبرت هذه الخطوة بمثابة استفزاز للشعب الذي طالب بإصلاحات ديمقراطية حقيقية، أدناها أن يتم انتخاب رئيس وزراء، لا أن يتم تعيينه كما جرت العادة.
في حين كان الملك يلقي خطابه، كان العديد ممن يفترض أنهم رعاياه يرقدون في مستشفيات – في مختلف أنحاء البلاد – أقل ما يقال عنها إنها معطلة، بمن فيهم أولئك الجرحى الذين أطلقت عليهم النيران وتعرضوا للضرب على أيدي قوات النظام أثناء احتجاجات ماي/ أيار. مازال يقوم الجنود إلى حدود الساعة بجولات قصد مداهمة منازل الذين كانوا جزءا من الاحتجاجات، وقتل وتشويه أصحابها، كما أن العديد مازالوا يحصون الضحايا من أحبائهم.
جرحى محاولات القتل
“لم أر شيئا كهذا منذ ولادتي”، هكذا قالت تريفينيا سيميلان ذات الـ72 عاما، وهي من سكان سيفوكوسيني شمال غرب إسواتيني، وهي منطقة مرتفعة يسكنها مزارعون صغار، مضيفة: “إنه لأمر مروع أن يُقتل الناس مثل الذباب”.
في مشهد صادم في 1 يوليوز/ تموز، وعلى الساعة 8 صباحا، أمرت وحدة خدمات الدعم التشغيلي (OSSU)، وهي قوة سيئة السمعة، حفيد سيميلان، ذي الـ15 عاما، أنديل مامبا، بإخلاء المتجر الذي كان ينظفه بالإضافة إلى آخرين. لكن “بعد بضع ثوان أطلق أحدهم النار على ظهري”، يقول مامبا، مضيفا: “أنا لا أعرف حتى لماذا أطلقوا النار علي، لقد كنت ألعب كرة القدم لكنني الآن غير قادر على اللعب”. وقال سيميلان: “لم يعد يستطيع المشي.. إنه يكافح حتى من أجل الجلوس على كرسي متحرك”، مضيفا: “هذا الطفل لم يكن حتى جزءا من المحتجين”.
حالة مامبا ليست سوى مثال من العديد من الأطفال والمراهقين ممن دمرت حياتهم، فهناك طفل آخر هو نكوسيفايو لوكيلي، صاحب الـ9 سنوات، يرقد في مستشفى لاتيكولو الحكومي، بعدما أطلقت الشرطة النار عليه في الـ29 من يونيو/ حزيران؛ حينها كان لوكيلي يرتدي زيه المدرسي. تقول والدته التي تنام إلى جانبه: “اخترقت الرصاصة أسفل الجانب الأيسر من الصدر، ما جعل من عملية إزالتها محفوفة بالمخاطر، بحيث استغرق الأطباء شهرا كاملا من أجل ذلك”.
يقول الطفل لوكيلي في الفترات القليلة التي يستيقظ فيها إنه بخير، لكنه بحاجة مستمرة لنقل الدم. “قال الأطباء إن الرصاصة تسببت في فقدان الكثير من الدم بسبب النزيف الشديد”، هكذا تحدثت الأم التي لجأت إلى وسائل التواصل الاجتماعي لطلب التبرع بالدم لطفلها، وتقول إن شخصين تبرعا في 15 يوليوز / تموز، لكن الأمر استغرق وقتا طويلا حتى يتلقى ابنها الدم؛ وفي تعبير عن حالتها النفسية الحالية قالت: “أنا ممزقة إلى درجة أنني أتمنى أن أكون أنا من أصيب بالرصاص، وليس هذا الطفل البريء. حتى الآن، لم تقل الحكومة شيئًا عما حدث لابني”.
القتل مع الإفلات من العقاب
استخدمت قوات الملك الذخيرة الحية في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك المناطق الريفية، كما تساوى المتظاهرون والأشخاص الذين يقومون بأعمالهم اليومية في تلقي للرصاص. كان نتوكوزو تسابيدز ذو الـ37 أحد الذين استهدفوا.
أصيب تسابيدز في ساقه ظهر الـ29 من يونيو/ حزيران بالقرب من أحد المطاعم، في وقت كان يتمشى رفقة أصدقائه. “وجدنا الشرطة بالقرب من تقاطع مرور بجوار المطعم، وأطلقوا النار علينا على الفور. واستمرت الطلقات في الرنين وسقط عدد قليل من الرجال الذين كنت برفقتهم في حين رأيتهم لاحقا في المستشفى”، يتابع تسابيدز، وزاد: “بينما كنت مستلقيا هناك، واصلت النزيف بغزارة، ورأيت أن ساقي كانت في حالة سيئة مع ألم فضيع”.
تم علاج تسايدز في مستشفى مباباني الحكومي، وعما عاشه في الساعات الأولى قال: “أعطاني الأطباء خيارين: إما محاولة معالجة الجرح وتغطيته – من المحتمل أنني سأظل أتألم لفترة طويلة وسوف يتعفن الجرح بسبب الالتهابات وفي النهاية سأموت، أما الخيار الثاني فسيؤدي إلى الألم أيضًا، وسأفقد ساقي، لكن سيكون لدي فرصة للشفاء وسأعيش..فقلت لهم أن يقطعوها”.
في محاولة لاحتواء الاحتجاجات، فرضت الحكومة حظر تجول ابتداء من الساعة 6 مساء، وأمرت بإغلاق جميع المتاجر بحلول الساعة 3:30 مساء. ولجأت القوات الأمنية إلى إطلاق النار على أي شخص بعد الساعة 6 مساء حتى لو كان خروجه لأسباب طارئة. تم تعديل حظر التجول منذ ذلك الحين إلى الساعة 8 مساء..قبل الاحتجاجات كان حظر التجول على الساعة 9 مساءً.
تم إطلاق النار على ندوميسو دوبي، البالغ 26 عاما، بالقرب من المحطة الرئيسية للحافلات قبل حظر التجول بقليل، وعن كيفية إطلاق عليه النار قال: “مر ضباط OSSU وبدؤوا في إطلاق النار علينا على الفور، لقد أصبت من الخلف ووقعت ولم أستطع النهوض رغم محاولاتي”. اضطر الأطباء في مستشفى مباباني الحكومي لفتح بطنه لإزالة الرصاص، وبعد أن أمضى أسبوعين في المستشفى عاد إلى المنزل ليتعافى تحت رعاية والدته ذات الـ 56.
أصيب شقيق دوبي الأصغر دلاميني، البالغ 23 عاما، في اليوم نفسه أثناء فراره من الشرطة بعد اصطدامه بحاجز حراسة على جانب الطريق. تقول الأم: “لقد كان خائفًا من أن يخبرني بأنه مصاب، بمجرد أن اكتشفت ذلك قررت أن أشتري له عكازين، فقد كان يمشي بيديه إلى المرحاض. أخبرني في ما بعد أنهم في المستشفى قالوا إنه ليس مصابا بكسور في العظام، ولم يعالجوا جرحه رغم أنه كان ينزف دما”.
تقول الأم إن مشاهدة ابنيها يمران بهذه المحنة كان أمرا لا يطاق، مردفة: “لم نكن قادرين على النوم. اتصلنا بالشرطة وسألوا ‘لماذا كانوا هناك حتى يصابوا؟’.. وفشلنا في الحصول على سيارة إسعاف. عندما أفكر في الموقف، أشعر بالخوف لأن كلا طفلي كادا أن يموتا”.
ما وراء الإحصائيات
عدد الأشخاص الذين قتلوا أو أصيبوا أو سجنوا من قبل القوات المسلحة للملك في ارتفاع مستمر، فبعد أن أكدت الحكومة أن عدد الوفيات لا يتجاوز 27 حالة، خرجت تقارير وثقتها منظمات مثل مؤسسة العدالة الاجتماعية والاقتصادية (FSEJ) والحركة الشعبية الديمقراطية المتحدة (Pudemo) وغيرها جاء فيها أن عدد الأشخاص الذين قتلوا على يد قوات الأمن منذ بدء الاحتجاجات يتجاوز 70 في الوقت الحالي، ولكن من المؤكد أن هذا العدد يمكن أن يرتفع بكثير لأن هناك العديد من الأشخاص مفقودين.
عدد الأشخاص الذين تم اعتقالهم منذ بدء الاحتجاجات في ارتفاع مستمر، بالإضافة إلى أعداد الإصابات المهولة التي يصعب الحصول على أرقام مضبوطة لها، حيث يواصل الكثير من الناس الكفاح من أجل حياتهم في المستشفيات أو بهدوء في المنزل. كما أن الأرقام لا يمكن أن تأخذ في الحسبان المختطفين أو المفقودين أو المتوفين منذ زمن طويل والمدفونين في الخفاء.
يقول ثابو ماسوكو، مدير FSEJ، وهي منظمة جامعة للجماعات الحقوقية والحركات الشعبية: “إن الأرقام ليست مجرد أرقام مجردة، بل هي أرواح الناس. فمن خلال تفاعلنا مع معظم الناس وجها لوجه نعرف الألم الذي يمرون به، لقد كنا مع أولئك الذين تم القبض عليهم وعائلاتهم، ومنهم من هو المعيل الوحيد لعائلته وفقد وظائفه، كما لدينا عائلات تدفن أحبائها. إنها ليست مجرد إحصائيات أو أرقام، إنهم أناس حقيقيون”، مضيفا: “سوف نواصل عملنا على الصعيدين القاري والدولي من أجل تحميل الحكومة المسؤولية عن الفظائع. سوف نلجأ إلى مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي (SADC)، والاتحاد الإفريقي وغيرها من الهياكل، خصوصا أنه على المستوى المحلي سيكون من الصعب للغاية محاسبة الحكومة”.
حجب الأدلة
حاول البعض ممن أصيبوا على يد قوات الملك جمع الأدلة التي يمكن أن تستخدمها الهيئات القانونية الدولية والإقليمية لمحاسبة الملك. لكن وفقا لمن أصيبوا بالرصاص، ربما أصدر الملك أمرا لأطباء المستشفيات لمنع الناس من أخذ الرصاص المستخرج من أجسادهم.
بيكيسسا جينيندزا، 34 عاما، أب لثلاثة أطفال من بيج بيند، وهي بلدة مشهورة بقصب السكر في منطقة لوبومبو، تم إطلاق النار عليه في 1 يوليوز/ تموز؛ ذهب إلى الطريق الرئيسي لانتظار سيارة أجرة تجلب له قطع غيار سيارات من مدينة قريبة، وبعد الانتظار لفترة بالقرب من مجموعة من المتظاهرين، رأى سيارة أجرة تصل واقترب منها على افتراض أنها السيارة التي كان يبحث عنها، عندما اقترب رأى أنها مليئة بضباط OSSU، فتحوا النار عليه مرتين في ظهره، ثم فروا من مكان الحادث.
يقول جينيندزا، الذي خرج من المستشفى في 12 يوليوز/ تموز من مستشفى في سيتكي: “عندما طلبت الرصاصة، رفض الأطباء، مستشهدين بأمر حكومي بعدم إعطاء المرضى الرصاص بعد العمليات لإزالتها”.
في 30 يونيو/ حزيران، في حين كان ديل مسيبي، البالغ 30 عاما، متجها إلى المتجر على الساعة 9:30 صباحا، بدأت شاحنة عسكرية “إطلاق النار على كل ما كان يتحرك”، موردا: “هربت بعيدًا لأنهم كانوا يستهدفون الرأس عندما كانوا يطلقون النار”.
مازال مسيبي يتذكر أزيز الرصاص حوله وهو يركض، ويتذكر رؤية العديد من الجثث على الأرض قبل أن يشعر باختراق رصاصة ظهره. “حاولت الاستيقاظ، ولكن بعد ذلك وقعت مرة أخرى. عندما حدث هذا لم تكن هناك احتجاجات أو نهب”، يضيف مسيبي.
حاول الأشخاص الذين عرفوا المصاب نقله بسرعة إلى المستشفى، لكن الجنود نصبوا حاجزا على الطريق. سأل أحدهم: “لماذا لا تموت فقط؟ لماذا لا تموت فقط؟”. ويقول مسيبي إن هذا يؤكد أن الجنود تلقوا تعليمات بقتل الأبرياء. بقي مسيبي في المستشفى لمدة أسبوع ورفض الأطباء إعطاءه الرصاصة التي كادت تودي بحياته.
“ما يؤلمني أكثر هو أنه لا أحد يدافع عن الأشخاص الذين أصيبوا على أيدي ضباط الشرطة والجنود، يبدو الأمر كما لو أنه لم يحدث شيء على الإطلاق. هذا حقا يحبطني كثيرا، حتى الملك تحدث فقط نيابة عن أصحاب الأعمال”، يقول مسيبي، مضيفا: “كل الأشياء قابلة للاستبدال، لكن ليس حيوات بشرية”.
إن أحد الأسباب لعدم تحديد العدد المضبوط للمصابين هو خشية الكثيرين من أن ترسل الدولة “مرتزقتها” لـ “القضاء عليهم” ثم إزالة الدليل، الرصاص. وهذا هو جوهر صعوبة التأكد من أرقام المصابين.
مسيرة الشعب
لقد كشف القمع الذي عانته إسواتيني عن مدى إصرار الملك مسواتي الثالث على الحفاظ على الوضع الراهن، إذ عين رئيس الوزراء، وجعله مسؤولاً فقط أمامه، فلو انتخب الشعب رئيسا للوزراء لكانت هناك مساءلة في الدولة لأول مرة في تاريخ البلاد.
دعا الملك إلى سيبايا، وهو تجمع تقليدي عقد في لوبامبا في اليوم نفسه الذي تم التخطيط فيه لمسيرة مؤيدة للديمقراطية وصفت بأنها “أم جميع المسيرات” في مانزيني، من أجل اختبار شعبيته بشكل أساسي. كانت نسبة الإقبال في سيبايا منخفضة جدًا مقارنة بالمسيرة الاحتجاجية.
كانت أهداف المسيرة، من بين أهداف أخرى، إعادة الدعوات إلى الحوار والإصلاحات الديمقراطية. كما جاءت المسيرة من أجل إظهار أن خطاب الملك لم يكن حوارًا. أراد المتظاهرون أن يظهروا لفريق SADC (الجامعة الإنمائية للجنوب الإفريقي)، الذي حضر في مهمة لتقصي الحقائق في البلاد، مدى وحشية ضباط أمن الملك ضد الناس العاديين.
خلال خطابه الذي ألقاه في السيبايا، تفاخر الملك بأن فريق SADC موجود في البلاد بدعوة من حكومته، وأنهم ضيوفه. بعد أيام قليلة حرم الفريق الحركة الشعبية الديمقراطية المتحدة (Pudemo) من فرصة تقديم مذكرات، متأثرا بتصنيف الحكومة للحزب كمنظمة محظورة.
في بيان مشترك صدر في 15 يوليو، وافق وفد الاتحاد الأوروبي إلى eSwatini وسفارة الولايات المتحدة وقنصلية المملكة المتحدة على موقع سيبايا كموقع للحوار، قائلين “إنه يمثل فرصة أولية للمواطنين للتعبير عن آرائهم”. ولكن، كما هو الحال غالبا، كان الملك وحده هو الذي يتكلم.
وصف ثولاني ماسيكو، وهو سياسي ومحام بارز في مجال حقوق الإنسان، مجلس الملك بأنه “مزحة”، موردا: “نحن نرفض مبادرة سيبابا. إن المضي قدما سيكون عبر عملية خارج سيبايا، تشمل جميع أصحاب المصلحة – بهدف إلغاء حظر الأحزاب السياسية في هذا البلد، ووضع برنامج واضح يؤدي إلى اعتماد دستور ديمقراطي جديد”.
بينما كان مسواتي يتحدث في التجمع الذي كان يشهد حضورا ضعيفا، هاجمت قواته المسلحة المتظاهرين الذين حضروا المسيرة في مانزيني، ومنعت القادة من حضور المظاهرة باستخدام حواجز الطرق التي أقيمت خصيصا لهذا الغرض.
أظهرت الاحتجاجات، أولاً، أن روح التمرد في إسواتيني كانت تختمر منذ عقود، ثانياً، لن تتحمل إسواتيني بعد الآن اضطهاد الملك، وثالثا، دعم المجتمع الدولي لحكومة الملك بشكل مباشر وغير مباشر، معتمدا على مجرد إدانة الفظائع في تصريحات مصاغة بعناية.