أفغانستان..صراع طويل بين الإصلاحات والمحافظين الرافضين لها

مشاركة المقال

فرونت لاين/ مدار: 24 أيلول/ سبتمبر 2021

فيجاي براشاد

كافح الشعب الأفغاني على مدار المائة عام الماضية بين رؤيتين لمجتمعه – إحداهما ارتكزت على أن هنالك حاجة لإصلاح مجتمعي من خلال تحرير المرأة والنهوض بالأقليات العرقية، فيما رأى التوجه الآخر أن المستقبل يجب أن يكون له ارتباط وثيق بالماضي من خلال هيمنة الآراء المحافظة في الحياة الاجتماعية. طالبان هي التجسيد الناصع للتوجه الثاني.

كان محمود بك ترزي (1865-1933) وراء نشر إحدى المجلات الأكثر تألقا آنذاك، أكتوبر 1911، في كابول، وهي “سراج الأخبار” أو “شعلة الأخبار”. نشأ ترزي، الذي ينحدر من عائلة أرستقراطية في المنفى في الإمبراطورية العثمانية، حيث نهل من الأفكار الإصلاحية للمفكر المتجول الكبير جمال الدين الأفغاني (1838-1897).

كانت المجلة وراء الترويج للإصلاحات التي تبناها الملك حبيب الله، وكانت مدفوعة جزئيا بالسيطرة البريطانية على أفغانستان (منذ الحرب الأفغانية الثانية من 1878 إلى 1880)، وتيارات الحداثة التي كان ترزي متمسكا بها في إسطنبول. كما أكد ترزي أن المجتمع لن يتقدم ما لم يتم وضع تعليم المرأة في صميم أجندة الإصلاح.

 في المجلة، تأثرت أسماء رسميا خانوم (Asma Rasmya Khanum)، زوجة ترزي المولودة في دمشق عام 1877، بإصلاحات تنظيمات الدولة العثمانية، كما سبق ونشرت سلسلة الهدف منها الاحتفاء بالنساء المشهورات من جميع أنحاء العالم. وفي عام 1921، بدأت أسماء في تحرير صحيفة إرشاد النسوان، التي ظلت تطبع إلى غاية عام 1925.. وتزوجت ابنتهما ثريا ترزي من الملك أمان الله خان، الذي خلف والده في العرش عام 1919، وافتتحت رسمية خانم والملكة ثريا أول مدرسة للبنات في البلاد “Maktab-i Masturat”.

تحت تأثير ترزي وزوجته أسماء رسمية خانم، شرع الملك أمان الله خان في تسريع الإصلاح الاجتماعي في أفغانستان، الذي كان قد ألمح إليه والده، تدريجيا. في عام 1928، قامت إحدى شقيقات أمان الله، الأميرة الكبرى، بتأسيس جمعية حماية المرأة (Anjuman-i-Himayat-i-niswan)، بينما تولت شقيقة أخرى، الأميرة سراج البنات، إدارة مستشفى النساء في كابول منذ عام 1924.

وكان لهذا النوع من الإصلاحات تأثير بشكل رئيسي على الأرستقراطيين والقليل من بيروقراطيي الدولة الذين عاشوا وعملوا بالقرب منهم، بحيث التحقت بالمدرسة في وقت واحد حوالي 800 فتاة. ومع ذلك، أثارت الإصلاحات التي روج لها ترزي غضب التيارات الأكثر محافظة في المجتمع. وعلى سبيل المثال كتب المفتي محمد رفيق، عام 1913، إلى ترزي يسأل عن سبب قراره التركيز على المرأة كدلالة على التقدم، مردفا أيضا: “لماذا لا يركزون على الرجال والآلات”؟، ورد ترزي: “كل الجرائد والمجلات هذه الأيام تحتفي وتذكر النشاطات التي للمرأة دور كبير فيها، فبصرف النظر عن الإنتاجات الأوروبية، فإن المجلات التركية والعربية والهندية لها تغطية للنقاشات حول حقوق المرأة”.

مستوحيا من الآراء التي يدافع عنها ترزي، بدأ أمان الله خان نقاشا حول سلسلة من السياسات التي اعتبرت مربكة للمجتمع الأفغاني حتى يومنا هذا، فقد وقع مجموعة من القوانين (مراسيم) لحظر زواج الأطفال (سن الرشد المحدد في 13 سنة)، ومنع تعدد الزوجات والسماح للأرامل بالزواج مرة أخرى، مع الحق في عدم ارتداء الشادور (الحجاب) وتنظيم المهر.

من المهم الإشارة إلى أن الملك أمان الله كان وراء دحر البريطانيين في الحرب الأنغلو-أفغانية الثالثة عام 1919، وفي أعقاب ذلك، بذل البريطانيون مساعي هائلة في محاولة لتقويض نظامه. وعندما سافر أمان الله وزوجته الملكة ثريا عبر أوروبا في 1927-1928، كان لهما لقاء مع مجموعة من الأشخاص، وأثناء ذلك التقطت المخابرات البريطانية صور لثريا في مكان عام بدون حجاب جالسة في مائدة عشاء مع رجال غير زوجها، من بينهم الرئيس الفرنسي غاستون دومريغ، وقامت بتوزيعها داخل أفغانستان، ما أدى إلى تأجيج التيارات المحافظة التي كانت تشعر بالانزعاج من الإصلاحات الأساسية التي قام بها أمان الله. نتيجة لذلك، تم دعم أحد أمراء الحرب، حبيب الله كلكاني (أو باشا ساقاو)، من قبل هذه الفئات المحافظة للتقدم في مسيرة إلى كابول والإطاحة بأمان الله، والاستيلاء على السلطة. اتهم كلكاني الملك بالكفر وأغلق مدارس البنات وأحيا إجبارية الحجاب وألغى جميع الإصلاحات الأساسية الأخرى لأمان الله.

كافحت أفغانستان منذ عام 1919 حتى يومنا هذا بين الإصلاح والرجعية. وقد استخدمت الرجعية بشكل فعال من قبل القوى الإمبريالية لتقويض سيادة البلاد، ولعل أولى ثمار ذلك استخدام الإمبراطورية البريطانية لأفغانستان الضعيفة كموقع أمامي ضد الاتحاد السوفيتي. لم يكن أي شيء فعله ترزي وأسماء رسميا خانوم ليفاجئ الناس في البلدان الأخرى، لأن إصلاحاتهم المقترحة – التي تبناها حبيب الله ثم أمان الله بعد ذلك – كانت متواضعة. لكن هذه الإصلاحات أزعجت القطاعات الأكثر محافظة في المجتمع الأفغاني، التي وجدت حليفا في الإمبراطورية البريطانية كان مستعدا لتبني المساعي من أجل تقويض التنمية الاجتماعية في أفغانستان.

لم تكن هزيمة أمان الله نهاية القصة، فقد تلتها بعد ذلك مرحلتان أخريان، فترة أخرى طويلة من الإصلاح من عام 1953 إلى عام 1992، وفترة من رد الفعل المظلم من عام 1992 حتى الوقت الحاضر. وفي ظل كل هذه المتغيرات لم يعد البريطانيون الوكيل الخارجي الرئيسي، فقد أخذ المشعل هذه المرة ووقع الدور على الولايات المتحدة الأمريكية بدعم كامل من المملكة العربية السعودية.

المساواة بين الجنسين ومحو الأمية

مرت على أفغانستان أربعة دساتير (1923 و1964 و1976 و1987) كرست المساواة بين الرجل والمرأة ووفرت طريقا لإصلاح اجتماعي واسع النطاق. وقد أظهرت هذه الدساتير مزيجا من إصلاحات النخبة، مثل تلك التي روج لها ترزي، والنضالات الشعبية، مثل تلك التي روج لها الشيوعيون والمنظمات النسائية. كما كانت كل من هذه الدساتير وراء تقديم أجندة تهدف إلى تبني خطط للرقي بالمعارف المتعلقة بالقراءة والكتابة لدى السكان، إذ كان أقل من 20 في المائة من المتعلمين في عام 1979.

إن الفجوة بين سياسات الأرستقراطيين الليبراليين (مثل رئيس الوزراء محمد داود) والشيوعيين (مثل أناهيتا راتبزاد) كانت ضيقة، لأن كليهما عملا خلال هذه العقود على زيادة معرفة القراءة والكتابة والتعليم وتحسين الظروف المعيشية للسكان وتعزيز فرصهم الثقافية.

يعكس القانون المدني للرئيس داود لعام 1977 قرارات أناهيتا راتبزاد كوزيرة للشؤون الاجتماعية في جمهورية أفغانستان الديمقراطية (DRA)؛ فعلى سبيل المثال نظم المرسوم رقم سبعة لأناهيتا راتبزاد مصاريف المهر والزواج، التي كان قد تم تنظيمها بالفعل من قبل أمان الله خان ثم من قبل داود. لم يكن هناك شيء شيوعي على وجه التحديد في هذه الإصلاحات، رغم أن أناهيتا راتبزاد كانت شيوعية.

الاختلاف الموجود بين أمان الله وداود والشيوعيين مثل أناهيتا راتبزاد هو أن الأخيرة تحسب لها التحركات الكثيفة لزيادة معرفة القراءة والكتابة بين السكان. كانت أناهيتا راتبزاد واحدة من أربع نساء تم انتخابهن لعضوية الجمعية الكبرى عام 1965 (الأخريات هن خديجة أحراري من هرات، ومعصومة أسمتي وردك من قندهار، ورقية أبو بكر من كابول، وراتبزاد من كابول). باعتبارها مؤسسة للمنظمة الديمقراطية للمرأة الأفغانية (DOAW، التي تأسست عام 1965)، شاركت أناهيتا في بناء النضالات الجماهيرية لحث داود على المساواة في كل من دستور 1976 والقانون المدني 1977. ونصت المادة 27 من هذا القانون على أن “جميع أفراد الشعب الأفغاني، رجالا ونساء، دون تمييز وامتياز، متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون”. كان هذا مكسبا كبيرا بناه الشيوعيون بعد أن استولوا على السلطة في أبريل 1978. في النصف الثاني من عام 1978، عملت DOAW والمنظمات الجماهيرية الأخرى مع هياكل الدولة على إطلاق برنامج محو الأمية الذي وصفه الكثيرون بالرائع في البلاد.

في وقت الانقلاب الشيوعي عام 1978، كان معدل معرفة القراءة والكتابة في البلاد 18.6٪ فقط (كانت أعداد النساء ضئيلة)، ومن أجل معالجة ذلك تم إرسال حوالي 18000 معلم إلى المناطق الريفية والحضرية لتسريع محو الأمية لدى الناس، الذي كان ينظر إليه على أنه الأساس الضروري لأي إصلاح اجتماعي. كانت تتخرج مئات النساء من الكليات كل عام كمعلمات وطبيبات ومسؤولات حكوميات وأستاذات، وقد أخذن الأفكار التي تم تطويرها في كابول وجلبنها إلى المناطق الريفية، حيث واجهن مباشرة زعماء القبائل وملاك الأراضي ورجال الدين. ونظرت التيارات المحافظة – الملاك ورجال الدين – إلى حملات محو الأمية الجماعية وإصلاح الأراضي على أنها اعتداء وتدخل في سلطاتهم التي تضمن لهم السيطرة على المجتمع؛ وهذا ما كان يجب إيقافه بأي وسيلة ضرورية.

عصر معارضة الإصلاح

ابتداء من عام 1919، واجه الإصلاحيون مقاومة شديدة من الملاك والعديد من زعماء القبائل وفئات عريضة من رجال الدين، إلى درجة أن الملوك لم يتمكنوا من إنقاذ أنفسهم من غضب هذا التحالف، الذي شجعه البريطانيون والإمبرياليون الأمريكيون في ما بعد. وأُجبر الملك أمان الله على التنازل عن العرش بسبب إصلاحاته عام 1929، واغتيل الملك نادر شاه بسبب إصلاحاته عام 1933. كما أنه ومع اندلاع موجات الإصلاح في المجتمع الأفغاني في السبعينيات، حشد المحافظون قواهم، بقيادة برهان الدين رباني (الذي درس اللاهوت الإسلامي في جامعة كابول)، في الجمعية الإسلامية عام 1972. وقد استلهمت الجمعية من آراء أبو الأعلى المودودي والجماعة الإسلامية الباكستانية، محاربة بذلك كل الإصلاحات التي تم الحديث عنها. ولهذا دعا داود إلى اعتقال رباني الذي فر إلى باكستان عام 1973، وقد أخذ معه قسما كبيرا من أفراد جماعته الذين ترسخوا في مخيمات اللاجئين على طول الحدود الباكستانية الأفغانية، التي منها سيظهر كل من المجاهدين المدعومين من الولايات المتحدة والسعودية وباكستان في الثمانينيات وحركة طالبان في التسعينيات.

حاولت جماعة رباني فرض تعاليمها، فقد أعلنت عن أهمية تعدد الزوجات وزواج الأطفال، بينما هاجمت تعليم المرأة ودور المرأة في الحياة العامة. وجذب رباني نشطاء طلابيين مخضرمين من جامعة كابول، مثل قلب الدين حكمتيار، إلى حركته. وكان حكمتيار صنع اسمه وشهرته في كابول عام 1969 من خلال إلقاء مادة الحمض على وجوه الطالبات. وبعد عقدين من الزمان، قام أتباع حكمتيار مرة أخرى بإلقاء الحمض على وجوه المعلمات وعمال الإغاثة في مخيمات اللاجئين في بيشاور. هؤلاء الأشخاص يمثلون الوجه البشع للمجتمع، كما أن كل واحد منهم يعارض وبشدة القرن الطويل من الإصلاح الاجتماعي الأفغاني. حكمتيار موجود حاليا في كابول رفقة مريديه ومن المرجح أن يتم استيعابهم في الحكومة التي تهيمن عليها طالبان.

تتم إدارة مخيمات اللاجئين في باكستان من قبل المجاهدين، وبدعم كامل من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أبرزت دراسة استقصائية حول هذه المخيمات عام 1986 أن 5 في المائة فقط من الفتيات بين سن 5 و11 و1.4 في المائة من الفتيات بين سن 12 و17 ذهبن إلى المدرسة، كما وقع عام 1990 200 رجل دين أفغاني في بيشاور مرسوما يحظر تعليم الإناث، وكتبوا: “هذا ليس الوقت المناسب لتعليم النساء والفتيات”. وعام 1993، قال مكتب البحوث والمراسيم التابع للمحكمة العليا لدولة أفغانستان الإسلامية – حكومة المجاهدين – إن “النساء لا يحتجن للخروج من منازلهن على الإطلاق”. وجاء في المرسوم أن “المدارس بيوت دعارة ومراكز للزنا والفحشاء”. كان هذا كله قبل وصول طالبان إلى السلطة، كانت هذه هي خلفية هؤلاء المجاهدين المدعومين من الولايات المتحدة، الذين سيعيدون تشكيل أنفسهم بعد ذلك على أنهم تحالف الشمال عام 2001.

تحدثت فاطمة ياسر، رئيسة المنظمة الإسلامية للمرأة الأفغانية، في آذار/ مارس 1990، عكس أناهيتا راتبزاد، في مؤتمر في بيشاور حول مستقبل “أفغانستان الإسلامية”. وقالت فاطمة إن المرأة يمكن أن تشارك في الحياة العامة، لكن فقط إذا اتبعت بدقة نصوص الشريعة الإسلامية، بما في ذلك ارتداء الحجاب وانحصار مشاركتها في واجبات المرأة (تربية الأطفال والبذر والتطريز)، حتى إن موقفها هذا قوبل بالرفض من قبل رجال في صفوفها، فهم لن يتسامحوا حتى مع مثل هذا الإصلاح الطفيف.

كافح الشعب الأفغاني على مدار المائة عام الماضية بين رؤيتين لمجتمعه – إحداهما ارتكزت على أن هنالك حاجة لإصلاح مجتمعي من خلال تحرير المرأة والنهوض بالأقليات العرقية، فيما رأى التوجه الآخر أن المستقبل يجب أن يكون له ارتباط وثيق بالماضي من خلال هيمنة الآراء المحافظة في الحياة الاجتماعية. طالبان هي تأليه للتوجه الثاني، التوجه المحافظ الذي لا يتسامح مع أي شيء، سواء تم توريده من دول أخرى مثل ما حصل مع محمود بك ترزي وأسماء رسمية خانم، أو ما سيتم صقله داخليا في كابول مثل ما أقدمت عليه أناهيتا راتبزاد.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة